علي البعزاوي
لا تكاد تخلو جلسة من جلسات مجلس نواب الشعب من التجاذبات والصراعات، ليس بين ممثّلي المعارضة والحكم فقط، بل بين كتل الائتلاف الحاكم أيضا. والمتابع لهذه التجاذبات/الصراعات يلاحظ بدون عناء أنّها تتعلّق بتفاصيل وشكليّات ونقاط نظام لا علاقة لها بالسّياسات والمضامين. بعض الكتل لم تقف عند هذا الحدّ، بل أثّثت الاعتصامات وعقدت الندوات الصحفية وشنّت الحملات عبر وسائل الإعلام المختلفة. وكمثال ملموس على ما يجري داخل مجلس نواب الشعب تعطُّل جلسة المساءلة لرئيسه المبرمجة ليوم 3 جوان 2020 لأكثر من ساعتين ونصف عن موعد انطلاقها الأصلي لمسائل تتعلّق باختلافات حول التّوقيت المخصّص لكل متدخّـل والردّ على السبّ والشّتم من البعض تجاه البعض الآخر (وصف النائب سعيد الجزيري للنواب بـ”النّعاج”) ومطالبة رئيس البرلمان بالاستمرار كامل اليوم والردّ بنفسه على كل التساؤلات والتدخلات.
مجلس لا يعبّر عن مصالح الشعب
ليس مطروحا التذكير بالظروف والملابسات التي جرت فيها الانتخابات التي طعن في شرعيّتها أكثر من طرف منذ الإعلان عن نتائجها، فالجميع يعرفها. لكن الأهم هو رصد سلوك النواب داخل البرلمان والمواقف التي عبّرت عنها مختلف الكتل إزاء القضايا المطروحة. فبالإضافة إلى الوقت الضائع والتجاذبات والصّراعات الشّكلية التي سبق ذكرها، والتي تُـرهق المتابعين وحتى النواب أنفسهم، والتي باتت تطبّع العلاقات داخل مجلس نواب الشعب, فإن الذي يجلب الانتباه هو توافق واتّحاد مجمل الكتل حول القوانين والمشاريع الأساسية التي تتعلّق بقانون المالية واتّفاقيات القروض التي أصبحت من أكثر المشاريع تداولا تحت قبة البرلمان، ولم نستمع إلى مواقف جديّة تشير إلى مخاطر سياسة الاقتراض والتداين خاصة وأن نسبة المديونية تجاوزت الثمانين بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
كما لم نسمع تفاعلات جدّية من النواب، على اختلاف مشاربهم، إزاء شبهات الفساد داخل المجلس وداخل الحكومة بما في ذلك الكتل التي عُرِفت سابقا بالاختصاص في ملفات الفساد (شبهة الفساد المتعلقة بالكمامات والأخرى المتعلقة بحادث سيارة أحد الوزراء وخروج وزير الصناعة إلى فرنسا بطريقة غير رسميّة وغيابه لمدّة طويلة عن مهامه كوزير ..). ولم نلاحظ مواقف نقديّة تجاه الإجراءات المنحازة التي اتّخذتها الحكومة في علاقة بتداعيات جائحة كورونا وتجاه مجمل التجاوزات التي أتاها بعض الوزراء والمسؤولين وحتى رئيس الدولة في علاقة بالدّوس على إجراءات الحجر الصحي.
وحتى ملف التفويت في مقدّرات الشعب التونسي، فإنّ معارضته لم تتم من زاوية مبدئية متماسكة، بل من زاوية الزّبونيّة السياسية. فعندما حاولت حركة النهضة عرض مشروع اتّفاقية لفائدة تركيا وقطر عارضته باقي الكتل التي لم نسمع لها موقفا مماثلا إزاء اتفاقية التبادل الحرّ الشامل والمعمّق مع الاتّحاد الأوروبي المعروفة بـ”الأليكا” والتي تشكّل نفس الخطورة على الاقتصاد المحلّي وعلى سيادتنا الوطنية. ولم نسمع مطالبات بإعادة النظر في الاتّفاقيات الجائرة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة الأمريكية وغيرها (عقود التنقيب عن النفط، اتفاقية الملح مع فرنسا، اتّفاقية الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي، اللّجنة العسكرية التونسية الأمريكية المشتركة…)
في كلمة، مجلس النواب الذي تعلو أصوات نوّابه حول المسائل الشّكلية ويشتدّ القصف بينهم حول تفاصيل لا معنى لها، يبدو هادئا رصينًا موحّدًا مطأطئ الرأس كلّما تعلّق الأمر بتجويع الشعب والتفريط في السيادة الوطنية والعودة إلى مربّع القمع وتكميم الأفواه.
البلاد في حاجة إلى ديمقراطية أوسع
إنّ ما يحصل داخل قبّة البرلمان التونسي هو عيّنة ممّا يحدث في مختلف البرلمانات البورجوازية التي تصل فيها الصراعات حدّ تبادل السبّ والشّتم والتّراشق بالكراسي. وهو مشهد يكاد يكون مألوفًا في مختلف دول العالم بما فيها التي تُسمَّى متقدّمة. البرلمانات البورجوازية هي، مثلما وصفها القائد الشيوعي ف. لينين “ندوات للثّرثرة”، لأن القرارات والسياسات المصيريّة تُتّخذ خارج البرلمان من طرف اللوبيّات ومراكز النفوذ المالي والعسكري حمايةً لمصالح طبقية محدّدة, ودور البرلمانات هو المصادقة وإضفاء الشرعية. النواب في البرلمانات البورجوازية مجرّد موظّفين يتقاضون أُجورًا ويحصلون على امتيازات مقابل حماية النظام الرأسمالي وضمان استقراره، وهم في الغالب لا يعبّرون على مصالح ناخبيهم ولا يعيرونها أيّ اهتمامٍ.
إنّ التمثيل النيابي البورجوازي لا يعبّر عن حقيقة تطلّعات أوسع الفئات الشعبية من عمال وحرفيّين وفلاحين فقراء وصغار وأُجراء وغيرهم، والانتخابات البورجوازية لا تسمح في الغالب بمرور ممثّلي هذه الطبقات والفئات إلى المجالس النيابية للاضطلاع بدور الدفاع عن مصالحها وسنّ البرامج والسياسات الكفيلة بذلك لأنّها انتخابات محكومة بالمال السياسي وبالإعلام الموجّه، وعادة ما تكون معدّلة ومعلومة النتائج مسبقا عبر شركات سبر الآراء المموّلة.
المجالس النّيابية البورجوازية لا تعبّر عن المصالح المباشرة والبعيدة للشّعوب، وهذه الأخيرة لها مصلحة في أشكال تمثيلٍ جديدةٍ، شعبيةٍ وديمقراطيةٍ واسعةٍ، تكون فيه أصوات الشعوب ومصالحهم وقراراتهم نافذة من خلال انتخابات شفّافة وديمقراطية يُسمح فيه لكلّ مواطن ومواطنة بحقّ التصويت والترشّح، مع المساواة التامة وتكافىء الفرص أثناء الحملات الانتخابية، سواء ما تعلّق منها بالظهور الإعلامي أو بتمويل الحملات من طرف الدولة بالتّساوي، لا فرق فيها بين حزب كبير وحزب صغير ولا بين مرشّح يمثّل العمال وآخر يمثل كبار الرّأسماليّين، مع تجريم المال السياسي، وضمان حقّ الناخبين في سحب الثقة عند الاقتضاء وفق شروطٍ يضبطها القانون. يُضاف إلى ذلك حق المواطن/الناخب في المشاركة في صنع القرارات والسياسات وسنّ القوانين وضبط الميزانيّات وتحديد السياسة الخارجية للدولة باعتباره معنيّا بذلك على قدم المساواة مع النواب.