حبيب الزموري
ستبقى صورة فايز السراج في أنقرة يوم 04 جوان الجاري ليجيب عن مقترحات خليفة حفتر بوقف إطلاق النار التي أعلنها من القاهرة قبل زيارة السراج إلى تركيا بساعات عالقة في ذاكرة اللّيبيّين لعقود طويلة كإحدى اللحظات التاريخية الأشدّ كثافة والمعبّرة عن ضياع السيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني الليبي وعن مدى ارتهان مستقبل ليبيا للمحاور الإقليمية والدولية.
انقلاب الأوضاع الميدانيّة لفائدة حكومة طرابلس
تمكّنت حكومة فايز السراج من دحر قوات المشير خليفة حفتر عن العاصمة وأغلب المناطق التي سيطرت عليها في المناطق الغربية، والانتقال بسرعة من وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم بمطاردة فلول قوات المشير حفتر وصولا إلى سرت التي تُعتبر بوابة الهلال النفطي الليبي.
من نافلة القول إنّ التدخلات الخارجية كانت هي العامل الحاسم في انقلاب موازين القوى على الأرض. فمن جهة كان الدعم العسكري التركي لا سيما على مستوى توفير التغطية الجوية بمقتضى اتفاقيّتي نوفمبر 2019 هو العامل الحاسم في تقدّم قوات حكومة طرابلس ومن جهة ثانية كان تراجع الدعم المصري والإماراتي والسعودي بسبب طول خطوط إمدادات قوات حفتر وابتعادهم عن قواعدهم في الشرق بالإضافة إلى انسحاب الجنود الروس (مجموعة فاغنر) من الغرب الليبي إلى الجفرة جنوبا، عاملا حاسما في تقهقر قوات الجيش الليبي وفشل عملية “تحرير طرابلس” التي راهن عليها المشير خليفة حفتر طيلة السنتين الماضيتين لفرض موازين قوي لصالحه على الأرض الليبية.
الهدنة الملغومة
من أبرز علامات انقلاب موازين القوى أيضا، هو مسارعة المشير خليفة حفتر إلى طلب وقف لإطلاق النار من القاهرة وهو الذي رفض التوقيع على الهدنة التي تمخّضت عنها مفاوضات موسكو في جانفي 2020، ورغم ارتفاع الأصوات في العواصم الإقليمية والعالمية المنخرطة في المحرقة الليبية بضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار والاتفاق على هدنة فإنّ هذه التسمية الحقيقية للهدنة التي يبحثون عنها هي مهلة لإعادة ترتيب الأوراق على ضوء موازين القوى الجديدة لا سيما بعد دخول اللاّعب التركي بكلّ قوة في المشهد الليبي وليس من المبالغة القول إنّ النظام التركي أصبح صاحب الكلمة العليا في الغرب الليبي ولا يتعلق الأمر هنا بالمستوى السياسي والعسكري الذي أصبح من تحصيل الحاصل بل بالمعطى الاقتصادي. فمن أبرز محاور زيارة السراج إلى أنقرة محور “إعادة الإعمار” والانطلاق في عمليات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي بمقتضى اتفاقيات نوفمبر 2019. كما أفادت “جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين الأتراك” في جانفي الفارط أنّ تركيا تسعى إلى رفع صادراتها إلى ليبيا بنسبة 571% من 1,49 مليار دولار سنة 2018 إلى 10 مليار دولار سنة 2020، علما أنها لم تكن تتجاوز 0,7 مليار دولار سنة 2011. ومن السذاجة الاعتقاد أنّ بقية القوى الامبريالية صاحبة الأطماع التاريخية في ليبيا ستكتفي بمشاهدة اللاّعب التركي وهو يتلذذ بالتهام الكعكة الليبية.
أمّا في المعسكر المقابل فمن الوهم أيضا الاعتقاد أنّ روسيا المتعطشة طيلة تاريخها “للمياه الدافئة” ستنسحب مستسلمة لتطور الأوضاع الميدانية لا سيما وأنّ عديد التسريبات تفيد بسعيها إلى إقامة قاعدة عسكرية دائمة في الشرق الليبي. أمّا بالنسبة إلى دول الجوار فيقتصر دورها على الوكالة للقوى الامبريالية المتهربة من دفع ضريبة الخسائر البشرية والمادية المباشرة ولكنها غير مستعدة للتضحية بنصيبها من الكعكة الليبية لا سيما في ظلّ تفاقم أزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وقد قدّر البنك العالمي سنة 2015 تكلفة إعادة إعمار ليبيا بـ200 مليار دولار. وهي الصفقة التي أسالت وماتزال لعاب الشركات الرأسمالية الكبرى وشركات المناولة التابعة لها في إطار التقسيم العالمي للإنتاج الرأسمالي. هذه الصفقات والثروات الملقاة على قارعة الطريق من شأنها نسف أية هدنة ليس بين المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة، بل بين اللّيبيّين أنفسهم إن وُجد حوار ليبي – ليبي بطبيعة الحال.
تونس ودور العميل المزدوج في ليبيا
وجدت تونس نفسها عرضة للضغوطات الأمريكية المتنامية من أجل تمكين القوات الأمريكية من موطئ قدم على التراب التونسي يمكّنها من مراقبة تطور الأوضاع عن كثب والتدخل العاجل إن لزم الأمر.
وهي تحاول تعويض هذا السعي كلما اشتد الضغط الشعبي على النظام القائم في تونس رافضا أيّ تواجد عسكري أجنبي على الأراضي التونسية بالتنسيق العسكري والأمني الاستراتيجي والمتقدم وهي العبارات التي تحرص السلطة التونسية على استعمالها لتجنّب التصريح بحدود هذا التنسيق وطبيعته. وهي من جهة أخرى عرضة لضغوطات المحور الإقليمي الذي تمّ الزجّ ببلادنا فيه إلى جانب أكثر الأنظمة رجعية وعمالة في التاريخ. هذا المحور المتورط منذ 2011 في إغراق ليبيا بالسلاح وإشعال فتيل الحرب الأهلية بها. لقد حولت الحكومات المتعاقبة بلادنا إلى جسر لهذه القوى للتدخل في ليبيا.
ليست السيادة الوطنية الليبية لوحدها منتهكة، بل أيضا السيادة الوطنية التونسية التي حوّلها العابثون بالأمن القومي التونسي وبالكرامة الوطنية للشعب إلى مطية للقوى الأجنبية وسلعة للمقايضة.