بقلم محمّد الهادي حمدة
تضمّنت خارطة الطريق التي أفرزها الحوار الوطني بقيادة الرباعي الراعي ضرورة إعادة النظر في التعيينات الإدارية التي أقدمت عليها الترويكا خلال سنتي حكمها من نهاية شهر ديسمبر 2011 حتى أواخر جانفي 2014. وشكّلت مراجعة التعيينات في المسؤوليات الإدارية أحد أبرز تعهّدات حكومة مهدي جمعة. ويكمن مبعث القلق من قضية التعيينات لدى الرأي العام عموما في الأسبقية الانتخابية للترويكا من خلال سيطرتها على مفاصل الدولة والإدارة العمومية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الرئيس المؤقت محمد منصف المرزوقي كان قد ضمّن رسالة بعث بها إلى مؤتمر حركة النهضة الذي انعقد خلال شهر جويلية 2012 ضرورة تجنّب السيطرة على مفاصل الدولة وعبّر حزب التكتل في أكثر من مناسبة عن امتعاضه من هذا المسعى. كما طرحت قضية مراجعة التعيينات خلال فترة تشكيل حكومة علي لعريض التي انتهت إلى إعادة الترويكا للحكم مجدّدا مع الالتفاف على هذا المطلب كغيره من المطالب وعموما يمكن القول أنّ هيمنة حركة النهضة على مفاصل الدولة من خلال منتسبيها كان من أبرز مؤشرات تأكيد النزوع الاستبدادي لهذه الحركة خاصة في ضوء فشلها الذريع في مستوى خيارات تدبّر الفترة الثانية من المرحلة الانتقالية.
يمتدّ الهيكل التنظيمي للإدارة التونسية في شكل مثلث، ضلعه الأول ترابي يقوم على الوالي والمعتمد والعمدة ومختلف المصالح الخارجية للوزارات في النطاق الجهوي والمحلي. وقد حافظ المشهد الإداري الجهوي على مرجعية سلطة الولاّة وكرّس هيمنتهم على صنع القرار الإداري في النطاق الجهوي.
ويقوم الضلع الثاني على المحور القطاعي الذي تجسّمه هياكل وإدارات المؤسسات والمنشآت العمومية القائمة على هيكل هرمي ممركز يلعب فيه الرئيس المدير العام دورا محوريا في إصدار حزمة من القرارات في مختلف المجالات التي تنجم عنها العديد من المنافع ذات العائد الانتخابي.
أما الضلع الثالث فيقوم على البعد الديبلوماسي الذي تمثله السفارات والقنصليات والبعثات القنصلية التونسية بالخارج والتي تكمن أهميتها في ثقل الحضور المهجري التونسي وحجم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تونس وتلك البلدان.
وبالنظر لأحكام التنظيم المؤقت للسلط العمومية الذي منح صلاحيات الرئيس في دستور غرة جوان 1959 إلى رئيس الحكومة في عهد الترويكا تستمر الأضلع الثلاث للهيكل التنظيمي للسلطة الإدارية ببلادنا في الاستناد على آلية التّعيين المركزي التي تنحصر في رئاسة الحكومة وأعضائها وتبعا لذلك يلعب الوزراء وتشكيلات دواوين الوزراء وهيئات الاستشارة الحكومية دورا محوريا في اختيار القائمين على الهيئات القيادية بمختلف مجالات ممارسة السلطة. وتؤكّد المراجعة الدقيقة للتسميات التي يتضمّنها الرائد الرسمي للبلاد التونسية صدور 6036 أمر تسمية في الفترة الممتدة من 29 ديسمبر 2011 إلى 24 ديسمبر 2013 وهي الفترة التي حكمت فيها الترويكا ليتمّ خلالها تعيين حوالي 7000 إطار ومقرّب من الأحزاب الحاكمة في مناصب سياسية وإدارية سامية في الدولة أي بمعدل 9 تسميات يوميا كما ينص الأمر عدد 4455 لسنة 2013 المؤرخ في 31 أكتوبر 2013 والمتعلق بتسمية نيابة خصوصية ببلدية قبلاط والذي وقّعه علي لعريض رئيس الحكومة آنذاك ينص على تعيين الأعضاء الثمانية للنيابة الخصوصية وهم يحملون نفس اللقب العائلي.
إنّ تفكيك أخطبوط الهيمنة النهضاوية على مفاصل الدولة من القمة إلى القاعدة ضرورة حيويّة أمام حياد الإدارة واتخاذها نفس المسافة من كلّ المتنافسين والقوى السياسية التي تقف خلفهم حيث أنّ استمرار هيمنة طرف سياسي على الإدارة يعني وقوع النّاخب تحت ضغوط الإكراه، وهو وجه من وجوه تزييف إرادته بشكل مسبق من خلال ما يتيحه وجود منتسبي طرف سياسي يخوض غمار السباق الانتخابي وهو في الحكم من شبهة توظيف ما توفّره الإدارة من منافع مختلفة في أكثر من مجال.
ولمعالجة هذه المعضلة يقتضي الأمر الإسراع باستحداث لجنة ضمن الحوار الوطني يُعهد لها بتدقيق كافة التسميات والتعيينات في كافة مستويات ومفاصل الإدارة سواء من خارج الهياكل العمومية أو من داخلها. وتتولّى اللجنة النظر في التعيينات حسب أصنافها وقانونيتها ومدى حاجة الإدارة إليها والوضعية المهنية والقانونيّة والترتيبية للمسؤول أو الإطار المعني بالمراجعة (تعيين من داخل أو من خارج الإدارة يستجيب للحدّ الأدنى من شروط الانتداب كالمؤهلات العلميّة والكفاءة) كما يقتضي الأمر أن تحرص اللجنة المعنية بمراجعة التعيينات على تجنّب التعطيل والوقوع في المحاصصة الحزبية والاسترضاء والمساومات التي قد تعصف بوجاهة المراجعة وتنال من صدقيتها.
إنّ مراجعة التعيينات ضمن هيئة الحوار الوطني وتعويضها بكفاءات مستقلة ومشهود بنزاهتها وحيادها ستسهم في بناء اللّبنات الأولى والضرورية لمناخ التّوافق، وترفع تدريجيا في سقف الثقة المفترضة بين مختلف الفاعلين، تلك الثقة التي يتطلّبها تنظيم الانتخابات القادمة ومنح الشعب التونسي فرصة الاختيار الحر للفريق السياسي الذي سيتولّى مقاليد الحكم للمرحلة المقبلة رغم الاختلافات السياسية القائمة بين مختلف الأطراف والتي لا يمكن أن تحول دون تشكّل المناخ السياسي الضامن للاستحقاق الانتخابي. وفي غياب المراجعة الحقيقية للتعيينات وخاصة تلك التي تلامس الانتخابات مباشرة سيبقى مستوى الثقة في المؤسّسة الرسمية متدنّيا إن لم يكن منعدما.
وبالرغم من أنّ بناء المناخ السياسي موضوعيا واستنادا إلى مضامين خارطة الطريق يتطلّب الشروع الفوري في مراجعة التعيينات في مجالات الإعلام العمومي والأمن والقضاء والإدارة والمؤسسات والمنشآت العمومية والجماعات العمومية المحلية وإحلال الكفاءات المستقلة محلّ المسؤولين المحسوبين على الترويكا، فإنّ هذا المسار سيكون محكّ فرز وكشّاف نوايا واختبار درجة القبول بالتنافس النزيه. وقد يشهد كثيرا من صنوف العرقلة والتعطيل قصد التخفيف من الخسائر والمحافظة على ما يمكن المحافظة عليه من مواقع ومناصب إدارية اعتبرتها الترويكا بقيادة حركة النهضة أحد أبرز مكاسبها وواحدة من أوراق تفوّقها الانتخابي على خصومها.
إنّ إدارة معركة مراجعة التعيينات تتطلّب قدرا كبيرا من التّماسك وتنسيق المواقف وتدقيق التمشّيات داخل صفوف المعارضة والحرص الشديد على ضرورة توفر معايير الكفاءة والاستقلالية والحياد في اقتراح البدائل كما في التعيينات المعنيّة بالمراجعة وإحكام تحديد الأولويّات الأمر الذي يقتضي تشكيل هيئة مشتركة تبلور ملامح مساهمة المعارضة في مراجعة التعيينات من حيث تحديد المجالات وإعداد قائمات المواقع والمناصب والخطط الوظيفية المعنية والأخذ في الاعتبار الإطار القانوني والمؤسسي لمسار المراجعة مع ضرورة الاستعانة بالخبرات والكفاءات الإدارية المستقلة والنزيهة والقادرة على الإضافة.
ستكشف معركة مراجعة التعيينات عن حقائق مثيرة ووقائع مذهلة بشأن مظاهر الهيمنة ووضع اليد على مكونات ومفاصل الإدارة وحجم المنافع والمغانم التي حققتها مكوّنات الترويكا جرّاء المنعرج الخطير الذي زجّت فيه البلاد منذ صعودها لدفّة الحكم. كما ستكشف عن شبكة الولاءات والارتباطات المشبوهة بالعديد من دوائر ومكوّنات نظام الاستبداد والفساد في العديد من الجهات والقطاعات ومجالات تماسها مع المساحات التي وقعت تحت سيطرة حركة النهضة. وعليه فإنّ التصدّي لمظاهر الفساد الجديدة وملاحقتها في إطار القانون وضمن دائرة حفظ مصالح التونسيين يندرج في إطار المسؤولية الوطنية.