خلال ستينات القرن الماضي طرأ على المشهد الفكري في الغرب جدل فلسفي أطلقته المفكرة والفيلسوفة فيليبا فوت وعرف تحديدا باسم معضلة العربة triyollogie dilemna.
الفيلسوفة الانقليزية انطلقت من وضعية بسيطة متخيلة تقع في محطة للقطارات إذ يصادف أن يكتشف شخص ما لدى عبوره بجانب مكابح السكة أن قطارا بدون سائق بصدد الدخول إلى المحطة وأنه أمام فرضيتين: أن يسير القطار على السكة المخصصة له وساعتها سيموت خمسة أشخاص أو أن يغير الشخص مسار القطار نحو سكة فرعية لينقذ الاشخاص الخمسة مقابل ان يموت شخص واحد كان ساعتها على السكة الفرعية.
الجدل تطور فيما بعد واختلفت الرؤى والمواقف والتحليلات وتم اعتماد هذه الوضعية لدراسة نوازع البشر العقلانية والاخلاقية وتفكيك بنية الانسان الذهنية والنفسية في اللحظة التي يجبر فيها على اختيار ضحايا من أجل إنقاذ آخرين.
وقد انتقلت معضلة العربة فيما بعد الى المشهد الفني وصورت افلام عديدة محورها اساسا من نقتل ومن نحمي عندما يكون فعل القتل ضرورة حتمية واخرها فيلم lone survivor الذي صُور سنة 2013.
البعض ذهب بعيدا الى حد اسقاط وضعية العربة على واقعة القنبلة الذرية التي القيت على اليابان واعتبار ان الالتجاء الى تدمير هيرووشيما وناكازاكي كانت الغاية منه حماية الامن والسلم العالميين وإنهاء الحرب بشكل خاطف استنادا إلى منطق قتل الجزء لإحياء الكل.
معضلة العربة تكررت ايضا في احداث برجي التجارة العالمي عندما فضل وزير الدفاع الامريكي ديك تشيني خيار اسقاط الطائرة المدنية الثالثة في السماء قبل ارتطامها بالبنتاغون مختزلا ذلك في جملته الشهيرة:نضحي بمن في السماء من أجل من في الارض.
اليوم يبدو أن نظرية العربة تفرض نفسها على العالم من جديد وتضع الحكومات امام تحدٍّ جديد يفرض عليها ضرورة الاختيارالسريع بين إنقاذ ما امكن من الجماهير أو انقاذ الاقتصاد .
وفي كل الحالات يبدو ان هذا الفيروس المتوحش الذي يتجه بلا مكابح الى محطة كونية يتجمع فيها اكثر من سبع مليارات نسمة يضع الانسانية امام الحتمية التالية :ان أخف الخسائر الممكنة في مواجهة هذه العربة الطبيعية المنفلتة ستكون بلا ريب مريعة ومرعبة وفظيعة.
جزء من هذه الخسائر البشرية الثقيلة سيكون تونسيا بلا شك فتونس التي لا يتجاوز حجمها حجم شارع خلفي في هذه القرية الكونية الممتدة ليست بمنأى عن خطر العربة المنفلتة وستدفع جزءً من الفاتورة التي ستدفعها البشرية.
غير أن ما يحدث في تونس يحدث كما جرت العادة بلا عقل أو منطق وبتداخل غريب للادوار
إذ أن جزءا من الضحايا المفترضين للفيروس/ العربة مقبلون على الموت بصدور عارية وباستهزاء واضح لا فقط بالسلامة الفردية وانما بسلامة محيطهم القريب والبعيد مما يعكس نوعا من الفردانية المشطة ومن هشاشة الارتباط بالجماعة من ناحية ونوعا من الاستهزاء غير المبرر بفكرة الفناء والإقبال المجاني على الموت من ناحية أخرى.
وفي الزاوية الاخرى من المشهد، تبدو السلطة كجهاز مفترض للتحكم في مكابح الفيروس الاعمى والتخفيف من نهمه المفرط للارواح عاجزة عن توضيح خياراتها وصياغة موقف واضح وصارم قابل للقراءة في اتجاه واحد . فخطاب السلطة المعلن يوحي بانها حسمت امرها في اتجاه حماية الجماهير وتحصينهم من العربة العمياء حتى ولو كلفها الامر التضحية بديمومة المؤسسات الحيوية للدولة.
غير ان تنفيذ هذه الاستراتيجية تم بطريقة فلكلورية ساذجة خالية من اي بعد احترافي جعل الدولة احيانا تتكفل بتسهيل عمل الفيروس وتتورط بسذاجة في توفير مناخات ملائمة لانتشار العدوى وهو ما يعني تورطها بقصد أو بدونه في زيادة ضحاياه المحتملين.
فالفشل التام في توزيع المساعدات الاجتماعية وحجم الفوضى الذي رافق التمتع بها جعل من هذه الطبقات المحرومة ضحايا لمرتين: ضحايا مزمنين للحيف الاجتماعي وضحايا محتملين للكورونا.
كما أن عجز الدولة عن ممارسة دورها في فرض احترام الحجر الصحي جعلها تبدو مرتبكة و عاجزة على انفاذ قراراتها وغير قادرة على تلطيف حجم الخسائر.
ما الذي تبقى للدولة اذن حتى تمارس وظيفتها التاريخية في حماية مواطنيها؟؟ ان ارتباكها الواضح في هذه اللحظة الانسانية الفارقة وعجزها عن توجيه الفيروس نحو وجهة آمنة وأقل ضررا سيضيف بلا شك خيبة اخرى الى خيباتها المزمنة في تحقيق الحد الادنى من الرفاه الاجتماعي وتقليص الحيف الممارس على ثلثي مواطنيها منذ الاستقلال.
المؤكد ايضا ان ارتباك السلطة وهشاشة الوعي المواطني سيجعل من فكرة الخلاص الوطني من هذا الوحش الجامح فكرة بعيدة المنال وان حدثت فإنها ستحدث بفرضية وحيدة وخيالية على طريقة السينما الهندية: أن يتآكل الفيروس من تلقاء نفسه ويتقهقر بلا سبب منطقي مقنع وينجو الجميع ويصير بالامكان ساعتها أن نستسمح فليبا فوت ونضيف الى فرضياتها فرضية إضافية أخرى: أن نضيف سكة إضافية ثالثة يمر منها القطار دون ضحايا محتملين.
زهير الشابي