بقلم : صلاح هنيد
يعمل السياسيون دائما على تناسي الاخطار الجارية إبان حملاتهم الانتخابية في ان تتحول فقط الى تهريج يعرضون فيها خطابات رنانة او تهكمات مضحكة للنيل من خصومهم او التقليل من شأن موضوع ما.
من أشهر المواقف التي رافقت حملة الرئيس سعيد موقفه من الدستور في جملته المشهورة المقتبسة من عمل للفنان العربي السوري «دريد لحام» «الدستور أكله الحمار».
لو أن هذه الجملة المضحكة لم يردّدها مختصّ في دراسة الدستور ما كان لها أن تخرج عن كونها إعادة رتيبة لجملة تهكمية لمترشح في حملة انتخابية. ولكنها جاءت من رجل اجتمع على مساندته الشرق والغرب واليسار واليمين والشيب والشباب والنساء والرجال؛ فهو إذًا لا ينطق عن الهوى. فماذا أراد الرئيس النقي أن يقول؟ حتى وإن كان يمزح فهو يقول الحق بالضرورة! هل يرفض الرئيس الاعتراف بالنصّ المنظم والمحدّد لشكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة والعلاقات بين السلطات وحدود كل سلطة والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات والضمانات تجاه السلطة؟ أي انه مستعد لتغيير هذا الدستور الى شكل آخر أو دستور آخر أو وهو الأخطر الى حالة لا دستور. الملفت للنظر هو الغياب شبه الكلي لشخص الرئيس عن كل المحافل الدولية وعن كل الجدالات السياسية القائمة الآن في البلاد مكتفيا بنشر صوره وصور ضيوفه في قصر قرطاج. مازال الرئيس يعيش حالة ما قبل الرئاسة موهما الجميع أن لا شيء تغير في حياته. متمنعا كما كان يفعل إبان الحملة الانتخابية ورافضا لكل مماثلة وكل استباق، مكتفيا بالتكتم الذي صنع الغموض والجاذبية حول شخصه وحول ما قد يمكن أن يكون مشروعه مكتفيا بترديد شعار حملته «الشعب يريد» وإن القادم أعظم. وما على الشعب التونسي إلا الاستعداد لتحول لم يعرف العالم مثيل له. مما يزيد في حجم الهالة المحيطة به.
انتخاب سعيد رئيسًا بتلك الطريقة، حمل معه أملا كبيرا وانتظارات أكبر. الخروج عن المعهود كان كالبشرى التي انتظرها التونسيون طويلا. شيء يوشك ان يظهر للعيان ولكنه يتمنع، قد يكون فرصة طيبة لتحقيق بعض المكاسب في طريق الانعتاق او خطر الارتداد الرجعي الى أشكال ما قبل الحداثة وقبر حلم الثورة لفترات قد تطول.
هنالك إلحاح. الثورة لم تلد بعد. شيء فريد بصدد الحدوث في تونس. أو ما يسمى الى حد الآن تونس. لأننا لا نعرف تفاصيل مشروع الرئيس الذي يحظى بدعم قوي من اليمين المتطرف حركة النهضة وائتلاف الكرامة ومساندة بقية مكوّنات البرلمان. هذا يعني ان الأغلبية المطلقة متّفقة على شخص الرئيس. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كل هذه الأحزاب التي كان أغلبها حاضرا في صياغة الدستور متفقة أيضا على مشروع الرئيس؟ وماهو في الحقيقة مشروع الرئيس؟ هذا الرئيس الذي ينفي ان يكون له مشروع. اذا من هو الحامل الحقيقي للمشروع؟ ومن هو الطرف القادر على تحقيق مشروعه بدل مشاريع الآخرين أو بدل مشاريع أخرى ممكنة.
اليسار لم يكن له مشروع بديل غير المواصلة في نضالات حقوق الإنسان والحريات مثلما كان يفعل في عهد الدكتاتور، متناسيا أن الأمور تغيرت كثيرا وان تلك الشعارات والنضالات على أهميتها إلا انها ليست محدّدة الْيَوْمَ وبالعكس يمكن ان تقود الى تراجعات وتعطي العدوّ فرصة لبناء محاور تجييش شعبوية ضدّ بعض الحريات الفردية التي يراها قسم من المواطنين المحافظين مسّا بهويتهم. الهوية هذا الموضوع القديم جدا [هنا الرئيس متفق مع اليمين المتطرف على اختزال الهوية في هوية «روحانية» ليس حتى هوية «ثقافية»]. هوية الشعب التونسي موغلة في القدم ولها هيبة موضوع مستنفذ ومُنتهٍ قد أُفرغ من معناه. ولكن هذا «الموضوع» قد يكون محافظا على جسد نقي، ارض خصبة، ورقة بيضاء. يمكن ان نخط عليها ما نريد. ولكن لمن ستكون له الغلبة ويظفر بحق الخط والتخطيط؟ نحن نتساءل بين الأمل والخشية والارتجاف الى أي شيء سيكون وجه البلاد مشابها؟ تونس المؤنسة أو تونس الموحشة؟ هل سيكون وجه من الوجوه التي نعرفها: وجه الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ أم وجه «داعش» دولة الإسلام في العراق والشام تصبح «دامع» دولة الإسلام في المغرب العربي؟ وتدمع عيوننا طويلا. وهل ان عدم التشابه سيكون له ملامح المستقبل، وسينجو من الوحشية والفظاعة والمسخ؟
الأمل والخوف والقشعريرة هي أحاسيس في مستوى الإشارات التي تصلنا من كل المشاركين في مشروع الرئيس «القديس» (الذي طأطأ له حتى أكبر معارضي بن علي) ومدحه اليسار وتبناه اليمين المتطرف ويسانده الفنانون والمثقفون من كل حدب، في حين أنه باسم الهوية الروحانية اوالثقافية أو غيرها يمارس العنف الفظيع الذي نعرفه جيدا دون ان نكون قد فكرنا فيه بعدُ. عنف وتحريض ضد المرأة المتحررة، وضد المنظمة النقابية، وضد اليسار، وضد كل أوجه الحداثة. وتعصب ديني مستكلب، قد أطلق له العنان بما قد يكون وعد الرئيس لهذه المجموعات اللقيطة والمجرمة.
رغم أن الرئيس رفض في حملته إعطاء وعود لأيّ كان متندرا كعادته بقصص من التراث العربي كقصة المتنبي مع كافور الإخشيدي. هذا التنصل من المسؤولية الذي لا داعي له يجعل هذه المجموعات مطلوقة العنان خارج السيطرة وخطرة، لأنها متداخلة ومتداخلة في ما بينها وكل ما يعنيه انتشار العنف والفوضى. إذ لا شيء جاء صدفة أو وليد اللحظة بل هي تكتيكات محكمة التخطيط. تسيء أولا وقبل كل شيء إلى فكرة الرئيس المستقلّ وما حملته في حد ذاتها من آمال ووعود. فهل كانت كوعود الإخشيدي للمتنبي؟
في حقيقة الأمر قيس سعيد والمحيطون به لم يقدموا وعودا للشعب التونسي ولكن قدموا تونس بأكملها على طبق من ذهب لأصحاب المصالح الكبرى في البلاد وهم العائلات الناهبة وعرابيهم في الخارج وذلك من خلال ما أفصحوا عنه مما قد يكون برنامج الرئيس. هذا الرئيس الذي يسخر من الدستور ومن البرلمان ويحاول في كل ممارساته ان يهمش السلطة السياسية. وهنا بيت القصيد؛ فكما يقول مفكر النيوليبرالية بامتياز «فريديرش فون هايك» (الحل هو سحب السلطة من السياسيين وتهميش السياسة). الحلّ في مواجهة من؟ لا يجب أن ننسى أن الثورة في تونس قصمت ظهر الدكتاتورية الى الأبد، ودائما حسب نظرية «فون هايك» تبقى الدكتاتورية أقصر الطرق وأنجعها لفرض هيمنة نيوليبرالية على بلد ما. وبما ان هذا المعطى سقط من حسابات الدوائر الحاكمة منذ قيام الثورة وهروب الدكتاتور؛ أداة التنفيذ لبرامج النهب النيوليبرالي. مما وضع هذه الدوائر في معضلة يصعب حلها: كيف يمكن الحدّ بشكل مجحف من مساحات المناورة للسلط الحكومية في الميدان الاجتماعي والاقتصادي في ظلّ نظام ديمقراطي دون المس بشكل مجحف بأشكال النظام البرلماني؟
عموما، كان الجميع يظن ولمدة طويلة أن ذلك غير ممكن. ولكن «فون هايك» يقدم الحل: «يبدو المشكل غير قابل للحل لأننا نسينا مثال قديم يقول: إن قدرة كل سلطة مكلفة بمهمّة حكومية يجب ان تكون محددة بقواعد لا يمكن لأي شخص ان يغيرها او يحرفها «الحل الوحيد: الدستور! ولكن الدستور أكله الحمار حسب قيس سعيد. دستور تونس المكتوب بالدم. دم شهداء الثورة ودم شكري بلعيد ومحمد البراهمي وكل الذين استشهدوا بعد هروب المخلوع على أيدي العصابات الفاشية الحاكمة. هذا الدستور ومهما كانت درجة النقد والانتقاد الموجهة إليه إلا أنه يبقى رمزا للتقدم وإحدى أهم مكاسب الثورة. لهذا يكرهه الرجعيون ولا يعترف به سوى بقايا الدكتاتورية او الفاشية الملتحية بالدِّين والجميع يذكر كيف تلكّؤوا في صياغته لانه ليس الدستور الذي يريدون. وهم في الحقيقة لا يعترفون بالدساتير الوضعية ولهم رؤية خاصة للدولة وللسلطة وللمجتمع موغلة في الرجعية ولا تتماشى ونظام الدولة الحديثة. ولكن للأسف تتطابق تماما مع رؤية الرئيس قيس سعيد للمنظومة القانونية في البلاد. لذلك كما قال العرب «وافق شنّ طبقة» وجدت الدوائر الحاكمة ان هذا الشخص هو العصفور النادر (عبارة فرنسية مترجمة) الذي تبحث عنه بعد هروب بن علي. هذا الرئيس الذي يرتئي تغيير نظام البلاد وحل البرلمان السلطة العليا في البلاد. ويقدم ذلك على أنه مشروع ثوري! والاغرب أن بعض اليسار البائس الذي يستمد نظريته من ما اصطُلح على تسميتهم «الفلاسفة الجدد» في فرنسا وهم مجموعة من قدماء الماويين حول ميشال فوكو وبرنار هنري ليفي. والجميع يعرف كيف أدت القراءات الخاطئة لفوكو إلى تركيز حكم الملالي في ايران. اما عن ب.ه.ل فحدث ولا حرج. والكل يعرف المقاومة الشرسة التي قدمها التونسيون والتونسيات من أجل المحافظة على الشكل الحداثي للدولة والمجتمع وما كلفهم ذلك من تضحيات على كل المستويات ورفضهم الخضوع لإرادة الرجعية حاملة مشروع الاستعمار الجديد. الاستعمار الجديد نراه كل يوم على المباشر حين يقرأ مسؤولون في الدولة الفاتحة بمناسبة انتصاب فرع جديد لشركة «كارفور» أو غيرها من الشركات الاستعمارية التي تحطّم كل يوم العشرات من مواطن الشغل لصغار التجار والأسواق الأسبوعية وبذلك تقضي على نسيج اجتماعي كامل وترمي بأصحابه إلى خطر البطالة والتهميش. دون أي إضافة نوعية لاقتصاد البلاد. المستعمر ووكلاؤه وجدوا في قيس سعيد وأفكاره مطية يتسللون بها مرة أخرى الى جوهر المعركة كما يرتئيه منظروهم من اجل هيمنة شاملة على المجتمع وتقليص مجال الفعل للسلط الحكومية المركزية وتشتيت مركز القرار إلى سلط جهوية ومحلية من خلال تغيير الدستور. لذلك كانت فرنسا المتعهد الأول برسم خارطة الطريق عندما نادت زعيم الثورة المضادة وساومته على ملف الإرهاب الخاص بالحركة أو الالتزام بتتبع حركة العصفور النادر ودعمه لأن من خلاله هو وبرامجه سيتمكنون من فرض سيطرتهم ولمدة طويلة على الاقتصاد والدولة والمجتمع في تونس.
تونس التي قد تصبح الجمهورية الإسلامية على وزن دولة الملالي في ايران، والغنوشي آية الله كما يقدمه أنصاره على انه اكبر من كل الوظائف الحكومية ويفعل بقيس سعيد وأتباعه ما فعله الخميني بأبي الحسن بني صدر وإبراهيم يزدي والصادق قطب زاده. وبذلك يأكل الحمار الرئيس ومن معه ومن نظّر له وليس الدستور فقط.
نحن نسير بخطى ثابته نحو ولاية الفقيه على المستوى الاجتماعي ولكن على المستوى الاقتصادي فالولاية للشركات العابرة للقارات وعرابيهم في تونس. وبذلك يتواصل ويمتد نفوذ المشروع النيوليبرالي الذي يحكم قبضته على تونس منذ أواسط الثمانينات ويعلن عن قدرته العازلة والهدامة لكل حلم ثوري. كل هذا يحدث تحت عنوان التغيير والثورة وانتصار إرادة الشعب وشعارات أخرى حملها قيس سعيد إبان حملته والْيَوْمَ يبدو في مقام الرئيس الهدام الذي سوف يقضي على مشروع الانعتاق بأكمله منذ الاستقلال إلى الْيَوْمَ.
إذا كان الرئيس واعيًا بأهداف برنامجه فهو خيانة عظمى لانه يسعى إلى تغيير دستور البلاد مما قد يقضي على وحدتها وتفقد سيادتها الحكومية لصالح الشركات متعددة الجنسيات والقوى الاستعمارية الأخرى وقد تفقد أيضا سيادتها الترابية نتيجة لذلك. لان الجزء الثاني المخفيّ من برنامج النيوليبرالية هو المعاهدات الدولية الملزمة إضافة إلى البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وتدخلاتهم المهينة في اختيارات البلاد الاستراتيجية وشروطهم التي لا تنتهي. وكلنا يعرف ظروف انتصاب الحماية في تونس ومعاهدة باردو. فهل تكون باردو مرة أخرى البوابة التي يدخل منها الاستعمار بعد ان استقر بها الشيخ الرئيس اَية الله ويدعمه اليمين المتطرف بكل أنواعه الديني والأمني والمافيوزي.
لم تُحسم المعركة بعدُ رغم نجاح المخطط الى حدّ الآن بنسبة كبيرة. لكن المقاومة لم ترمِ المنديل بعدُ فالبرلمان يضم أيضا قوى ديمقراطية عبرت عن عدم تناغمها مع مشاريع الشيخ ولكن تبقى تقييماتها لمشروع الرئيس مشوبة بالضبابية وهذا يعود إلى طبيعتها المحافظة كالقوميين أو التيار الديمقراطي وقد يقعون في فخّ المطالبة بتفويض كل السلطات الى الرئيس إذا فشلت النهضة في تكوين حكومة أو فشلت في الحكم فيما بعدُ. وهذه هي المفارقة التي يجب أن يتفطن إليها الجميع؛ قيس سعيد هو حصان طروادة الذي كما سبق أن بيّنّا الذي سيستعمله الشيخ لبسط هيمنته على البلاد ومن ورائه الاستعمار الجديد. إذا سقط البرلمان فستصبح المواجهة مباشرة بين القوى الوطنية ملتفّة حول الاتحاد العام التونسي للشغل والقوى الرجعية المتبجّحة تسندها مافيات السلاح والمال والقوى الاستعمارية.