على هامش اعتصام الدكاترة بوزارة التعليم العالي:
الدكاترة المهمّشون:
الثّروة المهدورة: جريمة دولة
حمّه الهمامي : يكتب
زرت يوم أمس الأحد 5 جويلية 2020 الدكاترة المعتصمين منذ أيام أمام وزارة التعليم العالي بالعاصمة. ولمن لا علم له بهذا الاعتصام فإن مُنَظّمِيه من حَمَلَةِ شهادة الدكتوراه، يحتجّون على تهميشهم ويطالبون بانتدابهم لا للتمتّع بحقّ دستوري فحسب بل أيضا لرغبة تحدوهم في تحمّل مسؤوليتهم في إعادة بناء وطنهم في هذا الظّرف الدّقيق والنّهوض به. ولا أخفي أنّني لمّا قابلْتهم شعرت بغصّة كبيرة بذلت جهدا في إخفائها وأنا أستمع إلى “قصّة” كل واحد منهم، شبّانا وشابّات، وعن الدّروب الشاقّة التي قطعوها، شابات وشبّانا، كي يبلغوا المستوى العلمي الذي بلغوه وعن الصدمات التي تلقّوها بعد تخرّجهم.
أيتها التونسيات، أيها التونسيون، يا من لا تزال فيكم ذرة واحدة من حب هذا الوطن والغيرة عليه، إنّ الأمر يتعلق “بزبدة الزبدة” من بناتكم وأبنائكم، بآلاف من الدكاترة، معظمهم من أصحاب الاختصاصات العلمية (فيزيا، كيمياء، رياضيات، بيولوجيا…) والبقية من اختصاصات العلوم الإنسانية (تاريخ، لغات…). أفْنَوْا شبابهم في طلب العلم والمعرفة، وتميّزوا في دراستهم وهو ما جعل غربال الانتقاء لا يطولهم فسُمِح لهم باجتياز كامل مراحل التعليم العالي حتى وصلوا إلى شهادة الدكتوراه فنالوها بامتياز بما قدّموا من أبحاث علمية مرموقة في مجالات اختصاصهم.
ولكن بعد كل هذه المسيرة وبعد ما صُرفتْ على تعليمهم الأموال الطائلة من جيوب دافعي الضرائب، وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق، مهمّشين، مُعَطّلين عن العمل، فيهم حتّى من أصبح يحمل هوية بملاحظة “عامل يومي” الشّهيرة، التي نالني شخصيا شرف حَمْلها أيام بن علي بعد أن أُطرِدتّ من الشغل و”ناضلت” من أجل أن أحصل على شهادة “عامل يومي” من “العمدة” حتى أتمكن من استخراج بطاقة هوية (بطاقة التعريف) كنت أقدمها في بعض الظروف أكثر من مرة في اليوم الواحد وكانت صفة “العامل اليومي” تثير الشبهة عند البعض من الأعوان والسخرية عند البعض الآخر والاستغراب عند البعض الثالث.
هل ثمة جريمة، “يا بني وطني” أفظع من هذه الجريمة؟ وهل ثمّة فساد، “يا ناس”، أعفن من هذا الفساد؟ بلادٌ حُكَّامها يلقون بالنّخب العلمية البارزة على قارعة الطريق وهي، أي البلاد، تشكو من التخلّف في كلّ المجالات. وهي في حاجة إلى من له بذرة معرفة واحدة ليمدّ إليها يد المساعدة وينهض بها. بلاد يُمْعِن حكّامها، بعد ثورة مجيدة، في تكريس خيارات وسياسات يجمع القاصي والداني على أنّها لا تؤدّي إلا إلى الخراب، بل هي التي قادت شعبا بأكمله إلى التمرّد فالثورة على مستغِلّيه ومضطَهِدِيه.
حتى نفهم ما يجري أمامنا اليوم من إهدار لطاقات وطن وشعب علينا وعي ما يلي: إنّ من يحكم تونس فعليا وأقصد الطبقة الاجتماعية التي تمسك بمقاليد الحكم الاقتصادية والمالية وتتحكم في خيوط اللعبة السياسية، مرة بشكل مفضوح وأخرى من وراء الستار، لا حاجة لها في بناء اقتصاد وطني، مندمج ومتطور، يعتمد على قدرات البلاد وطاقاتها ويلبّي حاجات شعبها المادية والمعنوية، فهي تعيش من الوساطة بين البلد وبين الرأسمال الأجنبي دولا وشركات ومؤسسات مالية، رِبِحُها يتأتّى ممّا تحصل عليه من مال وامتيازات من هذه السمسرة.
إن هذه الطبقة هي طبقة “الكمبرادور” أو “أعوان وعملاء الرأسمال الأجنبي”، مصالحها تتنافى مع مصالح الغالبية الساحقة من الشعب، تتنافى مع تطوير كل ما هو وطني. فلا هي ولا أسيادها الأجانب لهم مصلحة في فلاحة تونسية متطورة وقادرة على توفير حاجة السكان من الغذاء، ولا هي في حاجة إلى صناعة تونسية توفر ما يحتاجه الناس من بضائع وما يحتاجه الإنتاج من آلات وأدوات، ولا إلى خدمات (تعليم، صحة…) أو أبحاث تونسية مستقلة ومتطوّرة من إبداع بناتها وأبنائها لأن ذلك كله يعني حرمان “الأجنبي” من سوق لترويج سلعه وفرص لفرض تكنولوجيته ومجالات لاستثمار رساميله كما يعني حرمان “الكمبرادوري” (العميل) المحلّي من ريع يكسبه سواء من خلال التوسّط للأجنبي في نهب ثروات البلاد أو تمكينه من وضع يده على مؤسساتها أو الترويج لمنتوجاته وسلعه أو نشر ثقافته وقيمه الخ…
إنّ نمط الإنتاج هذا “النّيو كولونيالي”، الرّأسمالي التّابع المتوحّش، هو الذي يتسبّب في إهدار طاقات بلادنا، ليس طاقة الدكاترة القادرين على الاكتشاف والإبداع لمواجهة حاجات الوطن والشّعب في مختلف الميادين فحسب، بل طاقة كل قوة عمل قادرة على الإنتاج في المدينة والريف. إن مئات الآلاف بل الملايين من التونسيات والتونسيين تأكلهم البطالة والتهميش وهم قادرون على الإنتاج. ومن بينهم مئات الآلاف من الشباب الذي تنخره الكحولية والمخدرات والحرقة والإرهاب والضّياع بشكل عام.
وفي نفس الوقت أمام أعينا مئات الآلاف من الهكتارات الزراعية غير مستغلة بالمرة وحتى ما هو مستغل فأغلبه بطريقة متخلفة، و”العميل” يتحيّن الفرصة للتوقيع على “الأليكا” للإجهاز على آخر نفس في هذه الفلاحة وتسليمها للأجنبي… ومؤسّسات عموميّة تُخرّب عن عمد لتبرير بيعها للأجنبي أيضا… ومئات بل آلاف من المؤسسات الصّناعية الصّغرى والمتوسطة تنهار تحت ضربات مزاحمة السّلع الأجنبيّة… ومدارس ومعاهد وكليات تتآكل، ومؤسسات بحثيّة تُغلق في الوقت الذي تزدهر فيه مؤسسات التعليم الخاص تبيع المعرفة لمن له مال، ومستشفيات عمومية يصيبها الخراب وتفتقر إلى أدنى الضروريات مقابل ازدهار مؤسسات خاصة “تبيع” العافية لمن يدفع…
كل هذا ليس قضاء وقدرا ولكنه سياسة واختيارات يكرّسها بشر وليسوا بشرا بل مصّاصي عرق ودماء. فبلادنا ليست فقيرة بل فقّروها ونهبوها. وهي ليست عاجزة عن توفير أسباب العيش الكريم لبناتها وأبنائها، ليست عاجزة عن توفير الشغل لدكاترتها، بل العلة كل العلة في الفئات الطفيلية الاستغلالية والعميلة التي تسيطر على مصائرها وفي الحكّام الذي يصونون مصالح هذه الفئات ويحافظون عليها. وإن كان لزاما علينا، أخلاقيّا وسياسيّا، أن نسند اليوم دكاترتنا كي يُنْتدبوا “الآن وهنا” من أجل التمتّع بحقّهم المشروع فمن واجبنا مواصلة النضال كي نخلق الشّروط الجديدة التي تنقذ الأجيال القادمة من الدكاترة من الواقع المرّ الذي يمرّ به أسلافهم الذين يعتصمون اليوم أمام وزارة التعليم العالي في ظروف لا إنسانية، تذكّر بظروف أقبية وزارة الداخلية حيث لا ماء ولا بيوت راحة ولا أفرشة ولا أغطية لجبر المعتصمين على التسليم ولكنهم لا يستسلمون ومن الأكيد أنهم سينتصرون…
إن اليوم الذي ستعي فيه الأغلبية الساحقة أن التغيير بيدها آت لا ريب فيه. ولكن المسألة تبقى مسألة وقت لا غير. إن الغضب يتنامى. وهو يشمل كل يوم فئات جديدة من الشعب. ويعبّر عن نفسه بألف طريقة وطريقة إلى أن يجيء يوم، كما جاء من قبل، تتجمّع فيه القطرات والينابيع الصغيرة وتتحول إلى سيل جارف:
“حذار فتحت الرّماد اللهيبُ ومنْ يزرعِ الشّوكَ يَجْنِ الجِراحْ”
حمه الهمامي
تونس في 6 جويلية 2020