عمار عمروسية
يبدو أنّ منظومة الحكم في بلادنا رمت بنفسها بصفة نهائية في أتون حرب مراكز نفوذها المتصارعة على حاضر السلطة ومستقبلها دون أدنى اكتراث لاستحقاقات الحركة الاجتماعيّة والشعبيّة النّاهضة.
فكلّ حيثيات حراك “الفوق”، من “قرطاج” إلى “باردو” مرورا بـ”القصبة” يسير بنسق تصاعدي على إيقاع تدوير الزوايا وزرع ألألغام في مسالك مرور هذه الجهة أو تلك. فحرب شركاء الحكم دخلت أطوارها المتّقدّمة وأضحت تقريبا شبه عصيّة عن جميع إمكانيات عودة الوئام والتّعايش تحت سقف أكذوبة الإبداع التّونسيّ المتمثّل في الوفاق الذي احترق بناره كلْ من أدار لعبته عدا حزب “حركة النهضة”.
أضلع الحكم الثلاثة تدير حروبها بلا هوادة ودون ضوابط قيميّة على رقاب الشعب المنهك بتفاقم أوضاعه المعيشية كما لم يحدث من قبل.
مؤسسة الرئاسة تتكشّف على خواء كبير أعاد إدارة أمور “قرطاج” إلى الاجتهادات المتقلّبة إلى الرئيس دون سواه.
فالأخير يدير سهامه من حين لآخر نحو خصومه المعلومين والمجهولين بإطلالات خطابيّة مبهمة يدور جميعها في المدّة الأخيرة حول مؤامرات الدّاخل والخارج دون تقديم القليل من التّوضيحات للرأي العام الوطني حول طبيعة تلك المؤامرات وهوّية تلك الأطراف.
فهو “مشروع شهادة” والدّولة في أخطر أزماتها. ويضيف في آخر تصريح “أطراف داخلية وأخرى خارجية تعمل على تفجير الدولة”. على هذه الشاكلة وبهذا الغموض الكبير يدير رئيس الجمهورية معركة الخروج من النّظام السياسي الحالي والعودة إلى النظام الرئاسي في تناقض صارخ مع أساسيات خطابه الانتخابي القائم على تمجيد الشعب وسلطته ضمن منظور شعبوي غلافه “الشعب يريد” وجوهره “الفرد” أو الزّعيم الفذّ مصدر الإرادة والفعل نيابة عن الجمهور الرّعية أو القطيع.
كلّ الأمور مبهمة حول الرئيس وتوجّهاته السياسيّة في الدّاخل والخارج. فهو في الخطب مع “الفقراء” و”المسحوقين” اجتماعيّا. وهو الصّامت حدّ الحيرة على النّظام الاقتصادي والاجتماعي المتوحّش الذي يبشّر بفظاعاته رئيس الحكومة الذي أوصله إلى منصبه رئيس الجمهورية.
الأخير قدم من سرديات نظافة اليد ومن حكايات قاربت أساطير الناسكين والمتّزهّدين وأهدى مفاتيح “القصبة” إلى “علي بابا” المثقل بشبهات تضارب المصالح ولهف المال العام عبر ترسانة شركات مجهولة الشركاء والأموال.
والأغرب من ذاك الاختيار هو بقاء سيّد “قرطاج” على دعمه لحكومة أحرقت كلّ رصيدها الشعبي في تتالي فضائح الفساد المالي والإداري تحت مزاعم الخوف من الفراغ والسّقوط في المجهول.
انقلبت الأمور من “الشعب يريد” إلى “القائد الفذّ” يريد بقاء مكسور الأجنحة السيّد “الفخفاخ” وحكومته في بيت الإنعاش تحت رحمة جرعات “أوكسيجين” مجلس شورى “حركة النهضة” وحلفائها.
تتالي ضربات شركاء الحكم فوق الحزام وتحت الحزام وتصل السجالات الكلاميّة حدودا مقرفة تلامس مكروه الانزلاقات الخطيرة نحو أبشع مظاهر العنف وأشدّ أنواع العجز في إدارة الشأن العام وعلى الأخصّ في القضايا الحارقة التي تطال الجزء الأكبر من الشعب التّونسي.
في كلّ ربوع الوطن ينهض المتضررون ويواصلون حراكهم من أجل حقوقهم العادلة في الشغل والعيش الكريم، غير أنّ منظومة الحكم تزداد سقوطا في حروبها ألخاسرة ومعاركها الهامشية قياسا بمقتضيات واقع البلد وأهله.
جميع مظاهر الأزمة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة تنحو تجاه مزيد التعقيد والانفجار، غير أنّ قوى الحكم ممعنة في هدر الوقت وترتيب تحالفاتها وتنظيم قواها بعيدا عن أهداف إنقاذ تونس.