علي البعزاوي
مع استفحال الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تعيشها البلاد إلى جانب الخطر المحدق بها جرّاء تدهور الأوضاع الأمنية في الجارة ليبيا. وبدل التوافق والتضامن لمقاومتها والبحث المشترك عن سبل معالجتها والاستعداد الجيد لكل التطورات الممكنة على حدودنا الشرقية، احتدّت صراعات الحكم وطفت على السطح من جديد بأكثر قوة غير عابئة بما يعيشه الشعب التونسي من خصاصة وتهميش وبطالة وانعدام للتنمية الجهوية والمحلية وتدهور للقدرة الشرائية والخدمات الأساسية.
المتابع لمشهد الحكم في تونس يدرك دون كبير عناء أنه بقدر اشتداد الأزمة العامة تشتدّ بالموازاة معها النزاعات/التجاذبات بين أطراف الحكم التي وصلت اليوم إلى مرحلة اللاعودة. هذا الواقع عبّر عنه قرار مجلس شورى حركة النهضة الداعي إلى ضرورة “تغيير المشهد الحكومي” لأن رئيس الحكومة – حسب راي النهضة- مورّط في الفساد ولم يعد قادرا على إدارة الحكم وتحقيق أفضل النتائج. قرار قوبل بموقف رافض من قبل رئيس الدولة للتشاور حول أيّ تغيير مادام رئيس الحكومة لم يستقلّ ومادام البرلمان لم يسحب منه الثقة، وبموقف آخر مهدد من قبل رئيس الحكومة الذي بدا يخطط لإقالة وزراء النهضة باعتبارهم من وجهة نظره لا يحترمون قرارات الحكومة وينضبطون لحزبهم قبل انضباطهم للحكومة. وفي نفس الوقت شرعت بعض الكتل النيابية في الإعداد لسحب الثقة من رئيس البرلمان ظاهريا لعدم قدرته على تسيير المجلس والسماح بالانتهاكات والفوضى خاصة من قبل كتلة ائتلاف الكرامة التي اشتد صلفها وضربها لأبسط قواعد التعامل الأخلاقي داخل البرلمان. لكن في الجوهر من أجل الضغط لسد الباب أمام سحب الثقة من رئيس الحكومة رغم تورّطه في الفساد باستخدامه لمؤسسات الدولة لأجل تحقيق مكاسب مادية من خلال بعض الشركات التي يساهم في رأسمالها أو إدارتها.ثم وبسرعة فائقة تطور الموقف بقرار مجلس شورى النهضة في اجتماع طارىء سحب الثقة من رئيس الحكومة ورد رئيس الدولة السريع بدعوته إلى الاستقالة حتى يضمن التحكم في اللعبة وتعيين رئيس الحكومة الجديد.
تسارعت إذا أحداث مسلسل صراعات الحكم مؤكدة تهافتها ولهثها المحموم وراء تحقيق مغانم سريعة دون حساب لقضايا الشعب والبلاد الحقيقية.
صراع على حساب القضايا الحقيقية
لم نقرأ ولم نتابع داخل الفريق الحاكم تباينا في المواقف إزاء غلق المؤسسات وتسريح العمال أو بحثا عن حلول للحفاظ على مواطن الشغل ولا حول الاعتداءات على المحتجين السلميين في مختلف الجهات والقطاعات وآخرها الاعتداء الوحشي على الدكاترة المعتصمين في ظروف لا إنسانية بمقر وزارة التعليم العالي، ولا حول شح الاستثمارات وطرق جلبها ولا حول الخيارات الاقتصادية الواجب مراجعتها ولا حول غلاء المعيشة ولا حول البطالة وسبل معالجتها ولا حول السيادة الوطنية من خلال مراجعة الاتفاقيات المهينة مثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وانخراط تونس في الحلف الأطلسي كشريك عير عضو وما يمكن أن يترتب عن ذلك من تسهيلات لوجستية يجب توفيرها للجيوش الأطلسية خاصة أمام تدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية في الجارة ليبيا ودخول عديد الأطراف على الخط في هذا الملف الشائك والخطير.
لم نسمع ولم نقرأ خبر تباين لوجهات النظر حول ميزانية التقشف وحول الميزانية التكميلية التي بصدد الإعداد من قبل الحكومة ولا حول سياسة الاقتراض والتداين التي باتت تهدد مصالح البلاد والعباد ومستقبل الأجيال القادمة.
لم نشهد أيضا مقاومة جدية للفساد الذي استشرى في أعلى هرم الحكم وبات حقيقة تفقأ الأعين ولا تباينا في وجهات النظر حول الإجراءات المنحازة التي اتخذتها الحكومة لمعالجة تداعيات جائحة كورونا رغم تذمّر عديد الفئات والقطاعات المتضررة.
الخلافات والصراعات هي حول المناصب والحقائب والمواقع وسبل السيطرة على مؤسسات الدولة والظفر بنصيب الأسد من الولاة والمعتمدين ورؤساء المؤسسات. وهي حامية الوطيس كلما تعلق الأمر بمصالح القوى الاقليمية الداعمة لأطراف الحكم إلى درجة أنّ التونسي بات مقتنعا بأنّ هذه الأخيرة تدافع بشراسة عن مصالح أسيادها في الخارج أكثر من الاهتمام بمصالح شعبها.
إنّ أولوية الأولويات بالنسبة إلى أطراف الحكم دون استثناء هي حجم تواجدهم في مشهد الحكم القادم ولم لا الانفراد بالسلطة خاصة بالنسبة إلى الأطراف التي تعتبر نفسها الأقوى وتحديدا حركة النهضة ورئيس الدولة.
إنّ الصراع بين الطرفين الأخيرين وصل درجة من السوء والانحدار لم تشهدها البلاد من قبل. فهذا الطرف يصرّح ويؤكّد وذاك يكذّب ويهدّد. طرف يحذّر وينبّه والآخر يمضي قدما في أجندته الخاصة بالانقلاب على السائد وتغيير مشهد الحكم بطرق يراها الطرف الآخر غير “مشروعة”… والمتضرر الأكبر من كل هذه الصراعات هو الشعب التونسي الذي انتظر من ثورة الحرية والكرامة الشغل والحرية والعدالة الاجتماعية والسيادة على ثروات بلاده. لكنه لم يجد سوى الفقر والتهميش والقمع والتنكيل وبيع الوطن تضاف إليها الصراعات الدونكيشوتية التي لا علاقة لها بمشاغله الأساسية.
المنظومة في نفق مسدود
بات واضحا لدى غالبية الشعب أنّ منظومة الحكم الحالية نخرها السوس وأصبحت غير قادرة على معالجة الأزمة الشاملة والعميقة التي تهز البلاد. وهناك قناعة راسخة بأنّ هذه المنظومة هي السبب الرئيسي في هذه الأزمة بالنظر إلى خياراتها اللاشعبية واللاوطنية التي جاءت عكس ما انتظره الشعب المنتفض في 2011. وبالنظر أيضا لإعطائها الأولوية للصراعات من أجل السيطرة على مفاصل الدولة. بل لعل هذه الصراعات تتمّ في جزء منها للتغطية على هذا الفشل والتنصل من المسؤولية والإلقاء بها على هذا الطرف أو ذاك.
صحيح أنّ الصراعات تبدو في الظاهر مشروعة باعتبار البلاد تعيش مرحلة مخاض قبل الاستقرار. فمن أجل أن يستتبّ الأمر نهائيا لهذا الطرف أو ذاك لا بدّ من خوض هذا الصراع حتى النهاية. لكن هذا يعتبر مشروعا ويمكن قبوله وتفهمه عندما يتعلق الأمر بصراع بين خيارات وبرامج وسياسات متناقضة مدارها مصالح البلاد والعباد. لكن في حقيقة الأمر الصراع داخل أطراف المنظومة وحتى بين هذه الأخيرة والمعارضة البرلمانية هو صراع حول السلطة دون تباين أو اختلاف في الخيارات والبرامج. كل الأطراف المتصارعة التي وقع ذكرها خادمة لمصالح القوى الكمبرادورية المحلية وكبرى الشركات والمؤسسات والدول الاستعمارية التي تهيمن على بلادنا وهي معادية للثورة وللديمقراطية ومكرسة للاستغلال والتطبيع والفساد. وقد أثبتت التجربة انسجامها وتوحدها حول هذه الملفات.
وحتى رئيس الحكومة المرتقب الذي سيعوض الفخفاخ فلا ننتظر منه حلولا جدية لأنّ هذه المنظومة أصبحت عاقرا وغير قادرة على إنجاب الجديد الإيجابي القادر على معالجة الأورام. والحلول الحقيقية لن تأتي إلاّ من خلال بديل شعبي وطني ديمقراطي لا علاقة له بالقديم المتهالك الذي بات يشكّل عبئا على حياة الناس.