جيلاني الهمامي
سقطت اليوم لائحة سحب الثقة من الغنوشي وأسدل الستار مؤقتا على فصل من مسرحية مازالت مفتوحة على فصول أخرى. وكانت ما أسماه البعض بـ”خيانة” البعض الآخر هي السبب في نجاة الغنوشي من الإزاحة من على مجلس تحول تحت رئاسته إلى ملهى وركح للعبث. من مظاهر العبث والوضاعة سلوك البعض ممن أقسموا بـ”أغلظ الأيمان” بالالتزام بالتصويت الجماعي لتنحية والغنوشي ثم وبعد التصويت وتصوير ورقة الاقتراع للإدلاء بها لمن يهمه الأمر لإثبات التزامه بالعهد يضيف لتلك الورقة قبل إيداعها بالصندوق أي شيء، إمضاء أو تعليق الخ… وبذلك حصل أن بلغ عدد الورقات الملغاة 18 ورقة بما حرم مجموعة المصوتين بنعم من أجل إزاحة الغنوشي من عدد الأصوات التي كان من الممكن أن تؤدي إلى نجاح اللائحة.
لكن وبصرف النظر عن هذا التفصيل، المعبر في حد ذاته، فإنّ بقاء الغنوشي على رأس البرلمان الذي سيدخل مباشرة في عطلة له دلالات سياسية وتداعيات كثيرة. أولا لا بد من القول إنّ بقاءه بعد تعبير 97 نائبا عن رفضهم له من أصل 133 نائبا أمر لا يدعو لا إلى الفخر ولا إلى الفرح مثلما شاهدنا في أعقاب عملية الإعلان عن نتائج الفرز. فرئيس يصل إلى هذا المنصب بـ123 صوتا فقط وبعد أقل من سنة ينجو بأعجوبة من سحب الثقة منه دليل لا لبس فيه على أنّ الرجل غير مرحّب به وأنه قد جمع ما يكفي من الكراهية والنفور ما كان يملي عليه الرحيل من تلقاء نفسه لو كانت لديه ذرة من المروءة و”كرم اللحية”. وحسب بعض التسريبات فإنّ راشد الغنوشي قد أسرّ لبعض النواب الذي التقى بهم ليلة التصويت يفكر جديا في الاستقالة عند افتتاح الدورة النيابية الجديدة أي شهر سبتمبر القادم. وبطبيعة الحال سيكون على الحبيب خضر ومحرزية العبيدي وغيرهم جمع أدباشهم والرحيل. قد يكون هذا التسريب يعكس الحقيقة وقد يكون مجرد مناورة لإفشال محاولة سحب الثقة منه. لكن يبدو أنّ هذه المسألة لن تغيّر كثيرا في سياقات التطورات الجارية الآن على الساحة السياسية والتحولات التي تشهدها موازين القوى بين أقطاب السلطة المتقاتلة. بقاء الغنوشي على رأس البرلمان أو مغادرته لمنصب الرئاسة لا يغيّر كثيرا من الحالة التي سيكون عليها البرلمان في الدورة القادمة. فالأمر كل الأمر مرتبط بموقع النهضة من الحكومة الجديدة، حكومة المشيشي. فإذا ما تأكد خروج النهضة من هذه الحكومة، وهو احتمال مرجح، فإنّ سلوكها في البرلمان كما في الشارع لن يكون كما لو حصلت على بعض الحقائب الوزارية مع المشيشي.
إنّ النهضة تدرك جيدا أنّ وجودها في الحكم لا يعني شيئا إذا لم يكن في الفريق الحكومي لأنه هناك وهناك فقط – تقريبا – تستطيع توجيه الحكم الوجهة التي تنفعها، تعيينات ونفوذ ومنافع مادية وصفقات ومعلومات دقيقة حول سير دواليب الدولة الخ… لذلك تعتبر أنّ خروجها من الحكومة هو أكبر مضرة يمكن أن تصيبها ولا يمكن أن يعوضه عنها وجودها على رأس البرلمان. والأمر الذي لا يمكن أن يختلف فيه إثنان هو أنّ خروج النهضة من الحكومة سيضعها مباشرة في موقع المعارضة لها وليست أي معارضة.
فسواء كان الغنوشي رئيسا للبرلمان أم لا فإنّ النهضة، وهي في المعارضة، ستتحول إلى أكبر مهرج في قبة البرلمان ومهما حاول الغنوشي التظاهر بالاتزان والاستقامة فإنه سيدفع بجماعته إلى تعطيل كل مشاريع القوانين ومشاريع الميزانيات والاتفاقيات التي ستعرض على البرلمان. لأنّ منطق النهضة ” أنا أو لا أحد” وستنقاد بهدف مركزي هو إفشال الحكومة التي لا تتواجد بها بكل الطرق.
لا ينتابنا شك في أنّ حكومة المشيشي ستواجه، حالما تنتهي مدة الستة أشهر المنصوص عليها في الدستور، هجومات ودعوات للاستقالة ومحاولات سحب الثقة منها لأنّ مآلها المحتوم هو الفشل مهما فعلت. فحكومة ستتولّى مقاليد الحكم، والبلاد مفلسة تعاني من ثغرة مخيفة في الميزانية لا تقلّ عن 13 مليار دينار وانسداد أبواب الحصول على قروض جديدة، لن تتقدم قيد أنملة في الاستجابة للطلبات الاجتماعية كما لن تخطو خطوة واحدة في تجاوز حالة الانكماش الاقتصادي ولن تفلح في الخروج من ورطة المالية العمومية المنهارة. وستقيم البراهين على أنها حكومة فاشلة وعاجزة بما سيعطي فرصة للجميع بما في ذلك النهضة لمهاجمتها ومحاصرتها والمناداة برحيلها بصورة مبكرة. ولا نتوقع أن تعمّر حكومة المشيشي أكثر من الربيع القادم.
بالعودة إلى موضوع النهضة، وفي صورة خروجها من الحكومة، وهو أمر مرجح كما سبق قوله، فإنها ستدفع بجماعاتها إلى الشارع وبميليشياتها إلى الشبكة ليكثفوا من أعمال الضغط دعائيا وميدانيا بما يجسم التهديدات المبطنة التي أطلقها البحيري والخميري في المدة الأخيرة. لن تتوانى النهضة عن الدفع باتجاه انفلات الأوضاع تماما حتى يقال إنها كانت على الأقل “ضامنة” في الاستقرار الاجتماعي والأهلي. كما لن تتوانى مرة أخرى عن تحريك المجموعات الإرهابية والخلايا النائمة للقيام ببعض الاعمال التي من شأنها إرباك الجميع، الدولة والمجتمع والمواطن. بما في ذلك من رسائل للداخل والخارج مفادها أنّ النهضة في تونس ليست مرسي في مصر ولا عمر البشير في السودان، فهي شر لا بد منه وهي une donne incontournable.
أما إذا غادر الغنوشي منصب رئاسة البرلمان وهو أمر ممكن في إطار “حسبة” في علاقة بخروج حركته من الحكومة فسيكون البرلمان لا فقط ملهى بل مرقصا وساحة فوضى عارمة وستعمل النهضة فيه بمنطق “بعدي الطوفان”. فما لم تتمكن من تحقيقه خلال جولة الصراع التي جرت منذ الخريف الماضي حتى اليوم، وكان صراعا تحكمه أخلاق المخاتلة والرياء والحربائية ستعمل على تحقيقه في المرحلة القادمة من الصراع – الذي سيستمر بلا شك – وفق قواعد أخرى أساسها ممارسة الضغط والمغامرية والعنف.
إننا مقدمون على مرحلة سمتها الرئيسية التعفن بما لا حد له. وسنكون حيال ثلاثة أقطاب أساسية في الحكم، قيس سعيد والنهضة والحكومة، فضلا عن باقي اللاعبين الثانويين الذين ستكون مهمتهم مزيد تنغيص الحياة العامة، يفرقهم كل شيء ولا يجمع بينهم إلاّ تدمير ما تبقّى من مقومات الدولة والمجتمع والحياة المشتركة على هذه الرقعة الصغيرة من تراب تونس. كل منهم، ثلاثتهم، لا يعنيه سوى مصلحته وحساباته واستدامة موقعه في الحكم والاستزادة في النفوذ. قيس سعيد لن يهدأ له بال إلاّ متى غيّر النظام السياسي واستوى على كرسي الرئاسة كرئيس بصلاحيات لا محدودة ليشفي نهمه السلطوي اللامحدود على الشاكلة الرئاسوية بقبعة أمبراطورية. والنهضة لن ترضى بأقل من استعادة “مجد” عهد الترويكا سنوات 2012 و2013 بخليفة سادس “على بزو ومعناه” والحكومة لا تلوي على شي حتى تثبت أنها نجحت فيما فشل فيه الفخفاخ ولكن هيهات فكما يقال “اتسع الرقع على الراقع”.
الخاسر الأول والأكبر هو الشعب الكريم.