جيلاني الهمامي
سقطت لائحة سحب الثقة من راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان واحتفل أنصاره إبان الإعلان عن نتائج التصويت على مرأى من كل من تابع بث الحصة على شاشة التلفزة. ولا شك أنّ الغنوشي قد سرّ هو الآخر بهذه النتيجة التي اجتهد أيما اجتهاد من أجل حصولها. فقد كشفت كواليس المجلس عن اللقاءات الماراطونية التي عقدها الغنوشي ليلة الجلسة العامة لإقناع هذا وذاك بعدم التصويت لفائدة اللائحة. وتفيد التسريبات – التي أصبحت أخبارا صحيحة هذه الأيام – أنّ الغنوشي اقتلع بجهد جهيد موافقة البعض مقابل وعود بالاستقالة مع انطلاق الدورة النيابية الجديدة شهر سبتمبر القادم. وبصرف النظر عما إذا كان جادا في ذلك ام لا فالأمر الأكيد أنه سيقضي مدة العطلة النيابية يقلّب الأمر على كل وجه ليس فقط بغاية الوفاء بوعده وإنما أساسا لاتخاذ الموقف الذي باتت تقتضيه الأوضاع في المدة الأخيرة والتي ستقتضيه بلا شك المرحلة القادمة. إذ يبدو الغنوشي اليوم قد ولج المسافات الأخيرة من مسيرته السياسية بعد أن استهلك رصيده السياسي والشخصي ونفذ مخزونه من الدهاء والمناورة واللعب على حبال اللغة المزدوجة و”أخفق حالب التيس” كما يقال.
والحقيقة إنه بالعودة إلى مسيرة الرجل منذ عودته إلى تونس بعد الثورة إلى اليوم ندرك اتجاه المنحنى النازل بلا توقف لمسيرة “زعيم سياسي” اُطلقت عليه الكثير من الصفات منها صفة “التكتاك” البارع. ويمثل ترشحه للمجلس النيابي ثم، وبعد افتكاك كرسي فيه، ترشحه لمنصب رئاسته المنعرج الحاسم الذي أذن بصورة صريحة وجلية بانتهاء مسيرة واحد من أخبث ما أنجب الإسلام السياسي في الوطن العربي وأكثرهم دهاء.
استقبل راشد الغنوشي يوم عودته من لندن إلى تونس بـ”طلع البدر علينا”. ووصلت إلى التونسيين والتونسيات أولى الرسائل بما فيها من معاني ربما ألهاهم أجيج الأحداث عن استيعاب خطورتها. كان واضحا وبصورة مبكّرة أنّ مركزا للقرار السياسي بصدد الظهور. ولم تتضح معالمه بجلاء إلاّ بعد انتخابات المجلس التأسيسي خريف 2011 التي حصدت فيها حركته نصيب الأسد من المقاعد. وكان هذا الانتصار إيذانا علنيا بانطلاق خطة النهضة، وفي جوهر الأمر، خطة الغنوشي للمسك بخيوط اللعبة السياسية ورسم صورة مستقبل البلاد تحت سيطرته.
وانطلق الغنوشي في لعبة كبرى ما كان يتوقع أنّ التاريخ سيمنحه مثل هذه الفرصة للعبها. كان يدرك أنّ عامل الزمن سيف حاد لن يغفر له أية غفلة أو تراخ. فراح يلعب على كل الأوتار المتداخلة والمتشابكة سواء اتصلت بالداخل أو بالخارج. كان عليه أن يربط خيوط الود مع القوى النافذة على ساحة الصراع في العالم فكثف من اتصالاته مع هذه القوى وأدّى زيارات للعديد من العواصم المؤثرة، واشنطن وباريس وبرلين وروما ولكن أيضا الدوحة (نوفمبر 2011) وأنقرة والجزائر والسعودية. واستقبل في تونس ماك كين والبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وإسماعيل هنية وتوسط لقدوم وفد شبابي من حماس للدراسة والإقامة في تونس واستقدم قافلة من الدعاة السلفيين المتشددين الخ… جرى كل ذلك تحت عنوان الديبلوماسية الشعبية والتي ليست غير ديبلوماسية موازية لهيئات الدولة القائمة.
أمّا في الداخل فالمسيرة كانت حافلة بالمواقف والمبادرات والأعمال سواء زمن الترويكا الأولى أو في عهد الائتلاف مع نداء تونس. وقد بدا في المرحلة الأولى، أي زمن الترويكا وحكومة الخليفة السادس في عجلة من أمره لبسط نفوذ مشروعه “الإخواني”. وكشف مبكّرا عن نيّته في إقامة دولة الشريعة ومراجعة كلّ المكتسبات العلمانية والديمقراطية كاد يمرّرها في نسخة غرة جوان 2013 لمشروع الدستور الجديد.
كان الغنوشي من وراء الستار يدير فعليا حكومات الجبالي والعريض وعموم مؤسسات الدولة التي وضع خطة للتسرب إلى كل مفاصلها بما في ذلك مؤسسات الجيش والأمن التي تعتبرهما غير مضمونين. وراح يخطط لاختراقهما. واستخدم في ذلك كل إمكانيات حزبه ولكن أيضا وبشكل خبيث مجموعات التكفيريين الذين التقى رموزهم ونسج معهم صلات تعاون خفية وكال لهم عبارات العطف واعتبرهم “حالة متوترة” يمثلون “الإسلام الغاضب” ولا يمكن ” تكفيرهم ” لعدم جواز تكفير من يقول “لا اله إلا الله”. وكان فيما سبق صرّح بخصوصهم أنهم يذكّرونه بشبابه وأنّ المجموعات المتحصنة بالجبال إنما يمارسون الرياضة لا أكثر. واتضح في فترة لاحقة أنّ مخططات كثيرة تقاطع فيها الجهاز السري لحركته مع هذه المجموعات وأكثر عناصرها تورّطا في الاغتيالات السياسية التي طالت مناضلين تقدميّين، الشهداء شكري بلعيد ومحمد البراهمي، كما طالت عناصر أمنية وعسكرية.
وعلى صعيد آخر اتّبع خطة شيطانية لتشويش المشهد السياسي وتفجير الأحزاب السياسية بما في ذلك تلك التي هي في تحالف معه (حزب المؤتمر والتكتل ونداء تونس) وبنى ميليشيا على الشبكة الافتراضية لتشويه الخصوم وبثّ الإشاعات حولهم ونصب معدات للتنصّت عليهم وزرع أتباعه في النقابات والمنظمات والجمعيات وشكّل شبكة تُعنى بالاحتطاب وابتزاز رجال الأعمال واختراق شبكات التجارة والتجارة الموازية ولوبيات البزنس. كل ذلك بغاية تقزيم كل من يخالفه الرأي ريثما تستقر له الأوضاع وتحيّن فرصة التخلص منهم بأشكال أخرى وإن لزم الأمر بواسطة القمع والمنع واستخدام مؤسسة القضاء التي استمال البعض من رجالاتها منذ تولّى نورالدين البحيري حقيبة وزارة العدل.
لقد اعتمد الغنوشي ازدواجية الخطاب لتمرير المصطلحات التي أراد إقحامها في الخطاب السياسي المتداول من قبيل “التكامل” بدلا عن المساواة بين المرأة والرجل و”التدافع الاجتماعي” بدل الصراع الطبقي والسياسي و”الإسلام الغاضب” بدل الإرهاب والإرهابيين. وفي كل مرة كانت الحركة الديمقراطية تردّ عليه يجد مهرب “تصريحات أخرجت من سياقها”. بل كانت له الجرأة على التنكر لما سبق له التصريح بما لا يرقى له أي شك من قبيل أنّ “النهضة لن تكون في حكومة تضم قلب تونس والدستوري الحر بسبب شبهات الفساد التي تحوم حول الأول الخ…” ثم الارتداد على ذلك ارتدادا تاما بذريعة “توسيع الائتلاف الحكومي” و”الوحدة الوطنية” و”احترام نتائج الانتخابات” الخ…
لقد بنى الغنوشي منظومة أشبه بما يعبّر عنه بالفرنسية بـnébuleuse اشتغلت في جميع الاتجاهات أشرف هو بنفسه على إدارتها وتصريف تفاصيلها بعناية. وينبغي أن نعترف أنه أحرز “نجاحات” مهمة وهو يتصرف كرئيس حزب، الحزب الأول، ومن خارج المؤسسات الرسمية للدولة ووراء الستار في غالب الحالات. وتعود هذه “النجاحات” فيما تعود إلى حسن توزيع الأدوار داخل الفريق القيادي للنهضة وتحديدا للموقع الذي كان يتحرك منه الغنوشي.
يوم ترشح الغنوشي للمجلس بدا وأنّ الأمور ستنقلب ولو بعد حين. والحقيقة أنّ هذه الخطوة لم تكن اعتباطية، ذلك أنّ الغنوشي خطط لها منذ المؤتمر العاشر لحركته حيث خصّ نفسه بمقتضى النظام الداخلي للحركة بصلاحيات واسعة في تعيين أعضاء المكتب التنفيذي وتعيين مرشح الحركة للمناصب العليا للدولة والتصرف في القائمات المترشحة للتشريعية. وقد تمكّن بعد صراع حاد مع بعض قادة الحركة من فرض هذه الصلاحيات. وكان ذلك إشارة أولى لنوايا الغنوشي لا فقط في المسك بناصية الحركة بقبضته ولكن أيضا إشارة إلى اعتزامه الدخول في معمعان المنافسة على المراكز العليا في الدولة رئاسة الجمهورية أو رئاسة البرلمان. وهو ما حصل فعلا.
من هنا بدأ المنعرج الجديد. طور جديد في مسيرة الغنوشي انقاد فيها وفق ما أملته عليه أطماعه الشخصية وأثبت أنها كان حقا “أطمع من أشعب”. لقد أخطأ الحساب على غير عادته ووضع نفسه في واجهة الصراع سواء في الحملة الانتخابية أو في البرلمان ولم يقدّر حق قدره فداحة الخطأ بالترشح لرئاسة المجلس الذي كان وعلى الدوام منذ المجلس التأسيسي مجلبة “لتطييح القدر” و”التمرميد” فما بالك في ظل تركيبة المجلس الجديد التي ستكون إدارة جلساته – وقد تأكّد ذلك – مهمة محفوفة بكل المشاكل ومكشوفة أمام الرأي العام ووسائل الإعلام.
لم يمرّ على الجلسة الافتتاحية للمجلس الجديد، ولم يمرّ على انتخاب الغنوشي رئيسا له بـأضعف عدد من النواب مقارنة بالذين سبقوه في مثل خطته (123 صوت فقط)، غير ثمانية أشهر حتى وجد الغنوشي نفسه محلّ طعن وعرضة لسحب الثقة منه. عملية نجا منها بأعجوبة بل قل بفضيحة. ورغم أنّ لائحة سحب الثقة لم تنجح في مسعاها فهو، أي الغنوشي، بات أخلاقيا ومن حيث المصداقية علاوة على المعاني السياسية مطعون في جدارته برئاسة المجلس. ولا يجب أن ننسى كمّ التهريج الذي عاش على وقعه المجلس طوال المدة القصيرة من حياته بسبب أسلوب الغنوشي في تسيير الجلسات وتصريحاته في علاقة ببعض الملفات التي تداول فيها المجلس (زيارته لتركيا مثلا إبان سقوط حكومة الجملي، وقولته “الظلال والموت لأعداء ديمقراطيتنا”). لذلك أقدّر أنه سيجد نفسه مضطرا إلى الاستقالة لأنّ كل الحسابات سقطت في الماء. ولا أتوقع أن يقف الأمر عند هذا الحد. فالغنوشي يواجه صعوبات حقيقية داخل النهضة. وأسلوبه في تسيير الحركة نفسه يلاقي انتقادات شديدة واحتجاجات أدّت إلى استقالة الجلاصي والعذاري. وممّا لا شك فيه أنّ خروج النهضة من الحكومة القادمة سيكون مثيرا لانتقادات جديدة وستتجه أصابع الاتهام مرة أخرى إلى رئيس الحركة الذي أودى بها إلى مثل هذا المآل. والمعروف أنّ من خصائص الأزمات، وإن كان من السابق لأوانه الكلام عن أزمة بالمعنى الكامل للكلمة صلب النهضة، تعميق الخلافات حول سبل مجابهتها. خروج النهضة من الحكومة سيعزز مناخات الأزمة داخلها أكثر مما سيدفع نحو التضامن بين قياداتها بوجود الغنوشي الذي سيكون في نظر طائفة من القيادات ساعة التقييم هو المتسبب في كل “الخسارات” التي فرضت على الحركة. بمعنى آخر سيكون على الغنوشي أن يدفع الثمن لأنه في الحقيقة دخل وجر وراءه النهضة في سياق الحسابات الشخصية واستعجل جني المنافع لخاصة نفسه أكثر ممّا فكر في مستقبل الحركة.
الأمر الذي لا جدال فيه، من وجهة نظر الديمقراطية، أنّ المشهد السياسي سيتخلص من أحد أكثر اللاعبين الذين وتّروا المناخ السياسي وحوّلوا السياسة إلى رذيلة وزرعوا الألغام في حقلها رغم أنّ البلاد مازالت تعيش على وقع آخر حلقات المسار الثوري ومازالت تطمح في تغييرات جدية وعميقة.
فهل يعترف الغنوشي ويقول على نفسه القولة العربية الشهيرة “شفيت نفسي ولكن جدعت أنفي”؟.