جيلاني الهمامي
نشر معهد الإحصاء التونسي هذا الشهر “خارطة الفقر في تونس” وهو تقرير أعده المعهد بالتعاون مع البنك العالمي (1). وقد تم احتساب مؤشرات الفقر في جميع جهات البلاد على قاعدةّ بيانات التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2014 والمسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الاسر لسنة 2015.
يستعرض التقرير، من خلال 111 صفحة، مؤشرات الفقر في كل معتمدية من الـ264 معتمدية ويتضح من البيانات الواردة أنّ جهات الداخل وخاصة الوسط الغربي والشمال الغربي هي الجهات الأكثر فقرا، فيما تسجل تونس الكبرى بولاياتها الأربع (تونس وبن عروس وأريانة ومنوبة) أضعف نسب الفقر.
وقد جاء بالتقرير أنّ ولايات القصرين والكاف والقيروان هي أكثر الولايات فقرا وأنّ أكثر ثلاث معتمديات فقرا وهي حسي الفريد (53%) وجدليان (53.1%) والعيون (50.1%). في المقابل من ذلك تعرف معتمديات حلق الوادي (والمنزه (0.2%) وأريانة أضعف درجات الفقر في البلاد.
ويرتفع معدل الفقر في منطقة الشمال الغربي إلى 25.8% وتسجل معتمدية نبر من ولاية الكاف أعلى نسبة بـ 45.4%.
وكما سبق قوله فإنّ هذه النسب لم يتمّ الحصول عليها من خلال عملية بحث أو مسح وإنما اعتمادا على تقنيات إحصائية قاربت بين بيانات التعداد العام لسنة 2014 ومسح الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015 ما يعني أنّ هامش الخطأ في هذه التقديرات يمكن حسب عملية المقاربة (أقل من 5%) أن لا يؤثر على النتائج النهائية التي تم الإعلان عنها في الأوساط الاجتماعية الثلاثة: المدن الكبرى والأوساط الحضرية الأخرى والوسط الريفي.
من جانب آخر لتحديد الفقر تم الاعتماد على بعدين أساسيين هما:
– محدودية الدخل
– عدم النفاذ للخدمات الأساسية في السكن والصحة والتربية والماء والكهرباء الخ…
بما يسمح بتقدير نسب الفقر في علاقة بالبطالة وبأزمة السكن وحالة البنية الأساسية وحالة منظومة التربية وغيرها من المؤشرات سواء في الوسط الحضري أو في الريف.
وبصرف النظر عن صدقية المعطيات والاستنتاجات التي توصّل لها التقرير فإنّ ما يلفت الانتباه هو صعود مؤشرات الفقر في كامل جهات البلاد بما في ذلك في العاصمة والمناطق المحيطة بها. وقد ارتفعت المعدلات العامة للفقر إلى ما يزيد عن الـ20% بعد الثورة وذلك نتيجة للأزمة الحادة التي تردى فيها الاقتصاد التونسي. ففي ظل هذه الأزمة ارتفعت معدلات البطالة والفقر والانقطاع عن الدراسة والهجرة بكل أشكالها (الهجرة السرية، الهجرة المنظمة، هجرة الأدمغة والكفاءات الخ…) والجريمة بما في ذلك الجريمة المنظمة والإرهاب ومظاهر أخرى من التحلل الاجتماعي والقيمي والأخلاقي كالطلاق والبغاء وتعاطي المخدرات والاتجار بالبشر وغيرها.
ومن المفارقات أنّ هذه الفترة، فترة ما بعد الثورة، التي أصبحت فيها تونس بحسب تقارير دولية (تقرير مخبر البحوث البريطاني New World Heath) أفقر بلد في شمال افريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وعرفت في المقابل من ذلك ارتفاع عدد الأثرياء أصحاب المليارات (70 ملياردير سنة 2013) وأصحاب الملايين (6500 مليونير). وتعكس هذه المفارقة حجم الهوة التي باتت تفصل بين جيش الفقراء في تونس وهم الغالبية العظمى من الشعب من جهة والأقلية الثرية التي ازدادت بعد الثورة ثراء. فكما في الحرب يغنم أمراء الحرب ويصنعون من ويلاتها ثرواتهم، ففي زمن الأزمة أيضا يغنم أمراء الأزمة ويصنعون من مآسي الأزمة ثروتهم.
ومرة أخرى أيضا يثبت علم الاقتصاد السياسي أنّ الثورة في بلد ما، تماما مثلها مثل الحرب، هي منعرج يتوّج مسارا من التراكم ومركزة رأس المال ولكنها أيضا منطلق لمسار جديد من المراكمة والمركزة تتعمق خلاله الفوارق الطبقية كما لم يحصل من قبل.
هذا وجه من أوجه ما حصل في تونس بعد الثورة.
هذا التقرير، رغم أنه لا يعكس بدقة حقيقة الظاهرة، كشف وبشكل رسمي مدى تفشي الفقر في ربوع تونس، ويمكن أن يكون منطلقا لأبحاث أخرى في المجالات الاقتصادية والاجتماعية لمظاهر لصيقة بالفقر وتداعيات من تداعياته.
———-
(1) – للاطلاع على تقرير “خارطة الفقر في تونس” على الرابط التالي :
http://www.ins.tn/sites/default/files/publication/pdf/Carte%20de%20la%20pauvret%C3%A9%20en%20Tunisie_final.pdf
Carte de la pauvreté en Tunisie_final