علي الجلولي
تحيي الإنسانية التقدمية اليوم 10 أكتوبر الذكرى الثامنة عشر لـ”اليوم العالمي لمناهضة عقوبة الإعدام”. وقد تكرس إحياء هذه الذكرى السنوية في بلادنا من قِبَل الحركة الحقوقية وعلى رأسها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وفرع تونس لمنظمة العفو الدولية وقوى حقوقية أخرى تكونت تدريجيا في سيرورة نضال الحركة الديمقراطية التي نجحت في تشكيل رأي عام حقوقي و تقدمي مناهض لهذه العقوبة بما خلق سنة2007 “الائتلاف التونسي لمناهضة عقوبة الإعدام” الذي قام بعديد الأنشطة قبل الثورة وبعدها سواء للتحسيس أو للضغط على مختلف مؤسسات الحكم لاتخاذ موقف جريء وشجاع لإلغاء هذه العقوبة من القوانين والممارسة، ولم ينجح التيار المناهض للإعدام في فرض التنصيص على ذلك في الدستور الجديد رغم فرض الفصل 22 الذي ينص على “الحق في الحياة مقدس، لا يجوز المساس به إلاّ في حالات قصوى يضبطها القانون”، وهو ما جعل الباب مواربا لأكثر من ثمانين تهمة في المجلة الجزائية وفي مختلف النصوص القانونية الأخرى (مجلة التجارة، مجلة المواصلات…) يمكن الحكم فيها بالإعدام. ولئن اتجه القرار السياسي في بلادنا إلى تجميد تنفيذ العقوبة منذ أواسط التسعينات إذ شمل آخر تنفيذ للحكم مُتهمَيْ “عملية باب سويقة” التي نفذتها حركة النهضة سنة1991، وسفاح نابل “الناصر الدامرجي” الذي أتهم باغتصاب وقتل 11 طفلا. وقد صمد القرار السياسي، لاعتبارات مختلفة، أمام ضغط الرأي العام بمناسبة حدوث جرائم فضيعة، فبعد الثورة خرجت مسيرات من أهالي الضحايا وأقاربهم وجزء من الرأي العام حتى “الديمقراطي”، للمطالبة لا بالحكم بالإعدام فحسب، بل وتنفيذه. وتصل الغوغائية في بعض الحالات أن يطالب البعض بالتنفيذ الفوري في الساحات العامة وحتى دون محاكمة. وقد عاد جدل كبير للساحة العامة مؤخرا بمناسبة جريمة قتل الشابة “رحمة” وانقسم الرأي العام إلى قسمين كالعادة، قسم يعتبر أنّ المطلوب هو القصاص، وأنّ القضاء على الجريمة يتطلب الصرامة في تطبيق القانون، ورأي عام حقوقي مناهض للإعدام ويدافع عن معالجة أخرى لظاهرة الجريمة في المجتمع. وقد انحرف هذا النقاش في أكثر من مناسبة ووقع تسويقه من طرف بعض الجهات المشبوهة على أنّ الخلاف يقابل بين أعداء الجريمة وأنصارها، فمن يرفض الإعدام هو متسامح مع الجريمة ومهادن لها، وهو أمر غير صحيح وحامل لمغالطات كثيرة هي بصدد تشويه وعي الناس بمن فيهم بعض المثقفين والناشطين الذين يدّعون التقدمية.
الحركة المناهضة لعقوبة الإعدام حركة حقوقية، تقدمية و كونية
وجب الإشارة إلى أنّ الجدل حول هذه المسألة ليس جديدا في بلادنا وفي العالم، ففي كل المجتمعات يعود هذا النقاش بمناسبة حدوث جرائم تهز الضمير الاجتماعي، وبلادنا أيضا يعود إليها هذا النقاش بقوة في نفس السياق. المسألة معقدة وذات عمق اجتماعي، وأيضا ثقافي وحضاري. وهي ترتبط بالتحولات العميقة التي عرفتها المجتمعات المعاصرة والتي انعكست في تشريعاتها وقوانينها التي تعكس القواعد الجديدة لكيفية تنظيم المجتمع والعلاقات صلبه على مختلف الواجهات. ولئن حمل المجتمع المعاصر أفكارا تنويرية وثورية مثل أنّ الجريمة شخصية والعقوبة كذلك، وأنّ العقوبة لا تهدف إلى القصاص والانتقام بل إحقاق حقوق الضحية وإصلاح المجتمع بالتوازي مع معاقبة الجاني، وقد عبّرت المنظومة الجزائية عن هذه التحولات المهمة في النظرة إلى المجتمع وإلى الإنسان. ففي المجتمعات السابقة لم يكن ثمة قوانين تطبّق على الجميع، بل ثمة أحكام جاهزة تطبّق فقط على الأقنان والعبيد المحرومين من صفة المواطنة ومن صفة الإنسانية أصلا. ولم يكن فرض رؤية جديدة أمرا هيّنا ولا سهلا، بل ظلت النزعة التقليدية مهيمنة إلى وقت قريب. فرغم التقدم الهائل في المنظومة القانونية وفي منظومة العقوبات التي تقدمت عملية أنسنتها بشكل كبير، إلاّ أنّ الجدل حول عقوبة الإعدام ظل محتكما إلى رواسب تاريخية واجتماعية وثقافية، ولم يكن سهلا على الحركة الحقوقية التي عرفت انطلاقة متصاعدة خاصة بعد إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10ديسمبر 1948، إقناع الشعوب والدول وحتى الحركات السياسية والاجتماعية، بعدالة مطلب إلغاء عقوبة الإعدام. لكن الإصرار والعمل الدؤوب بدأ يعطي ثماره حين بدأت دول بإلغاء العقوبة من قوانينها، في حين خيّرت أخرى تجميد التنفيذ في انتظار ظروف أنسب لتغيير القوانين، وقد شكّل “البرتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية” الصادر سنة 1989 إطارا قانونيا وسياسيا لخلق فرز على المستوى العالمي بين دول متماسكة في التزامها بمنظومة حقوق الإنسان الكونية، ودول معادية لهذه الحقوق بما في ذلك باسم الخصوصية الثقافية والحضارية مثل أغلب البلدان العربية والإسلامية التي تتخفّى وراء “الهوية الدينية” لتمارس أبشع الانتهاكات لحقوق البشر.
هذا وتحتكم الحركة المناهضة لهذه العقوبة اللاانسانية إلى مجموعة من الحجج للدفاع عن موقفها ومقاربتها.
حجج رفض هذه العقوبة
عديدة هي الحجج التي صاغها أنصار إلغاء عقوبة سلب الحياة، ومجمل هذه الحجج لم تهدف سابقا ولا اليوم إلى التواطؤ مع الجريمة أو التساهل مع مرتكبيها، فعلى خلاف ذلك، فأغلب أنصار الإلغاء ليس لهم من هاجس سوى صياغة معالجة أسلم وأصح لظاهرة الجريمة التي تجد أسبابها في المجتمع ذاته. لقد مارست الدولة عبر تاريخها الطويل عقوبة الإعدام لكن الجريمة لم تختف ولم تنقص. ففي حالات عديدة بما فيها في عصرنا تتنامى الجريمة أكثر في ظل منظومات الإعدام، بينما حققت أغلب البلدان التي ألغته نقصا ملموسا في الجريمة لأنّ الإلغاء تزامن مع إجراءات أخرى تستهدف أسس الجريمة ومناخاتها، وفي كل الحالات نحن نعتقد أنّ الجريمة هي ظاهرة اجتماعية لن يقضي عليها التعاطي القضائي والأمني على أهميته وضرورته. إنّ القضاء على الجريمة أو لنقل التقليص من وجودها يرتبط بمنظومة اجتماعية تضرب أسباب الجريمة التي تجد في الفقر والحرمان والتفاوت الاجتماعي والأمية… مدعمات لانتشارها وتصاعدها، والمعالجة الأمنية والقضائية لا يمكن لوحدها أن تخلق مجتمعا بلا جريمة، فهذا وهم. وحدها العدالة الاجتماعية والارتقاء بالوضع المعاشي لكل الناس وتمكينهم من التعلم ونشر الثقافة الإنسانية المتنورة، يمكن أن تحدّ من الجريمة وتقلّص منها، ففي مجتمع عادل ومتوازن لن يكون مجرما إلاّ من كان مهتزا لا يجب أن يكون مكانه المجتمع، بل مكانه العزل والعلاج.
إنّ عقوبة الإعدام هي عقوبة يجب رفضها وإدانتها مبدئيا لأنها تحمل في رمزيتها ووقائعها كل معاني القصاص والثأر والوحشية التي تدّعي الإنسانية أنها تجاوزتها بالتمدن والتحضر، فأن يقوم فرد بجريمة فهذا وارد وممكن يوميا، لكن أن تقوم الدولة التي ترمز إلى ضرب من العقلانية بالقتل فهذا غير سويّ وغير مهضوم موضوعيا، فالدولة المعاصرة هي نتاج لثورة عميقة هزت المجتمع وبناه المادية والفكرية وأتت بقيم ومبادئ جديدة تعتبر الإنسان مركز الوجود بل وصانعه، ضمن هذا المسار التحديثي برزت فلسفة جديدة للقانون هي فلسفة المعالجة العقلانية والاجتماعية لانحراف البشر وأجرامه، وضمن هذا المسار ولدت فكرة الإصلاح وقُبرت فكرة القصاص، فالقصاص يعيد الإنسانية إلى ماضيها الوحشي. لذلك كثيرا ما يوصف القاتل بأنه فاقد للإنسانية، فماذا نصف عملية القتل التي تمارسها الدولة، بل وتكلف أجهزة كاملة لهذا الغرض؟ ماذا نسمي الشخص المكلف بانجاز هذه المهمة؟ لقد تحايلت الدول المعاصرة من أجل “أنسنة” تطبيق العقوبة التي لم تعد في الولايات المتحدة مثلا تتمّ بالشنق ولا قطع الرأس، بل أصبحت تتمّ عبر الكرسي الكهربائي أو الحقنة القاتلة كشكل من أشكال “الموت/الإعدام الرحيم”، كما منع التشهير بالإعدام وهو الذي ظل لقرون يمارس في الساحات العامة.
إنّ ممارسة الدولة للقتل هي بكل المعاني ممارسة للجريمة وإن كانت ردا على جريمة، وأن يجرّم شخص فهذا له كل التفسيرات الاجتماعية والنفسية والثقافية…، لكن أن تقتل الدولة فهذا لا يمكن أن يبرر بأيّ وجه من الوجوه المعقولة، فالعنصر أو العناصر الخطيرة على المجتمع يجب أن تعزل عنه، والنظام الجزائي أوجد كل العقوبات الرادعة والتي يمكن أن تكون بمعنى من المعاني حتى أشدّ من الإعدام والقتل مثل عقوبة السجن المؤبد بما يعني تخلصا نهائيا من صاحب الجريمة لكن دون قتله. في خضم هذا الجدل يطرح الحقوقيون والقانونيون حجة إمكان وجود خطأ في إجراءات الإدانة بما يستحيل معه إصلاح الوضعية بعد تنفيذ الإعدام، وهذه حجة معقولة، ففي عديد الحالات وقعت أخطاء لأيّ سبب من الأسباب استوجبت إعادة المحاكمة، فكيف سيكون الحال حين يطبق القتل؟ علما وأنّ عديد البلدان يتّسم نظامها القضائي بالسرعة القصوى في إصدار الأحكام وتنفيذها مثل السعودية وباكستان وإيران والصين..، علما وأنّ بلدا مثل السعودية لا يشمل الإعدام إلاّ الفقراء وأغلبهم من الأجانب العرب والأفارقة والآسيويين وغالبا ما يتمّ على خلفية تهم “ضعيفة” وملفّقة مثل سرقة مصوغ صاحب البيت أو محاولة قتله في حين أنّ الحقيقة تتعلق برفض الاغتصاب والخضوع لطلبات المشغل الثري. وفي هذا البلد ينفّذ الإعدام بطريقة بدائية وموغلة في البشاعة وعن طريق التشهير. إذ يتم بحدّ السيف في باحة المساجد استثارة للعقيدة واستدرارا لتعاطف الجمهور. وعموما فإنّ عقوبة الإعدام في كل العالم تشمل غالبا الفقراء الذين هم بدورهم ضحايا للمجتمع الطبقي.
والإعدام مرفوض ومدان لأنه لا يخفي فقط المنظومة الاجتماعية القائمة على التفاوت والتهميش، بل كثيرا ما يخفي أهدافا سياسية، فالأنظمة الاستبدادية تنحو نحو تصفية خصومها عبر المحاكم، ويكون ذلك إما عبر التّهم السياسية أو عبر تهم جنائية يرصفها القضاء التابع ويصدر أحكامه وينفذها على هذا الأساس. قد يتحجج البعض هنا بالقضايا المتعلقة بالإرهاب وبالحركات الإرهابية، وجب الإشارة هنا أنّ منتسبي حركات الإرهاب الديني وحتى غير الديني، غالبا ما يعملون ما في وسعهم لدفع القضاة للحكم عليهم بالإعدام، فهذا جزء من الايديولوجيا الإرهابية، فكرة الاستشهاد إمّا عبر العمل المسلح بما فيه تفجير الذات، أو من خلال الموت على يد الأعداء (الطاغوت في ثقافة الحركات الإرهابية الإسلامية)، وكذلك أيضا فكرة التحول إلى أبطال يخلدهم التاريخ عاجلا أم آجلا، أبطال يتعاطف معهم الناس ليتحول موتهم إلى دفع جديد “لرسالتهم”. وحين تحكم الدولة على هؤلاء بالإعدام وتنفذه فإنها تكون من حيث تقصد أو لا تقصد لبّت لهم رغبة دفينة أو معلنة، وتكون بمعنى ما خدمت الإرهاب. إنّ الحكم على الإرهابيين بعقوبات سالبة للحرية عوضا عن عقوبات سالبة للحياة هو أكثر نجاعة في مقاومة الظاهرة الإرهابية. وقد أكدت عديد الدراسات في عديد البلدان هذا الاستنتاج. طبعا يكون ذلك بالتساوق مع إجراءات أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية… لضرب القاعدة المادية للإرهاب. إنّ هذا لا ينسحب على التعاطي مع الإرهابيين في ساحات القتال، علما وأنّ القبض على الإرهابي أفضل للدولة والمجتمع من قتله. مع الإشارة إلى أنّ تهمة الإرهاب قد تطال نشاطات سياسية وفكرية…بعيدة كل البعد عن الإرهاب الذي يصحّ أكثر على ممارسة الدولة، ففي ظل حكم بن علي أحيل عديد المعارضين بمن فيهم مناضلو حزب العمال أمام المحاكم بتهم إرهابية على معنى الفصل 52 مكرر من المجلة الجنائية الذي ينص على:
“يعاقب مرتكب الجريمة المتصفة بالإرهابية بالعقاب المقرر للجريمة نفسها ولا يمكن النزول به إلى ما دون النصف.
وتوصف بإرهابية كل جريمة لها علاقة بمشروع فردي أو جماعي يستهدف النيل من الأشخاص أو الممتلكات لغرض التخويف والترويع.
وتعامل معاملة الجرائم المتصفة بإرهابية أعمال التحريض على الكراهية أو التعصب العنصري أو الديني مهما كانت الوسائل المستعملة.
وتحتم المراقبة الإدارية لمدة خمس أعوام، ولا يمكن ضم العقوبات لبعضها.
وتطبق أحكام الفصل 134 من هذا القانون”
لقد أُحِلتُ صحبة رفاقي أمام عميد قضاة التحقيق في ديسمبر 1995 على خلفية هذا الفصل الذي سنّه بن علي في 22 نوفمبر 1993 لتشديد الأحكام ضد الإسلاميين بقطع النظر عن تورطهم من عدمه في أعمال إرهابية، ثم استعمل ذات الفصل لإرهاب كل خصومه السياسيين، علما وأنّ الوسائل “الإرهابية” التي أودعت في ملف قضيتنا هي بضعة أعداد من جريدة “صوت الشعب” لا غير.
إنّ استعراض هذا المثال يهدف إلى الإشارة إلى أنّ التهم الإرهابية يمكن أن توجّه إلى أيّ خصم سياسي، وهو ما يحدث في أماكن عديدة في العالم بما فيها ضد مناضلي الحرية. لهذا السبب وقفت الحركة الديمقراطية جميعا ضد قانون مكافحة الإرهاب الذي سنّه بن علي سنة 2003 لا لتواطؤ مع الإرهاب، بل لتحفّز ضد توظيفه لمزيد تدجين الحياة العامة، فضلا عن نسفه لكل شروط المحاكمة العادلة بما فيها لمن تورّط في جرائم إرهابية.
وفي كل الحالات فإنّ تطبيق عقوبة الإعدام لم ولن يقضي على الظاهرة الإرهابية، وما قيل عن الظاهرة الإجرامية عموما يستقيم على هذه الأخيرة التي تجد أسبابها في الواقع المادي للجماعات والشعوب والأمم. إنّ الضرب بقوة على أيدي الجريمة المنظمة محليا ودوليا مطلوب وواجب محمول على الدولة، لكن ذلك يبقى نصف العلاج إن لم يكن أقلّ، فالقضاء على مجموعة من الإرهابيين ممكن ومتاح وسهل بإصدار أحكام وتطبيقها فورا، لكن تحصين المجتمع حاضرا ومستقبلا من الخطر الإرهابي لن يتحقق بذلك فقط، إنه عملية معقدة وطويلة المدى تتطلب مراجعة جذرية لا للواقع الاقتصادي والاجتماعي في بلد ما، بل في قلب العلاقات الدولية وضرب علاقات الهيمنة والسيطرة ونسف الأسس المادية للجريمة الدولية التي تقف وراءها عصابات وبارونات وأباطرة يوظفون المقدس والشعور العرقي ويؤججون نوازع التعصب والعدوانية والبدائية من أجل إحكام سيطرتهم وتحقيق مصالحهم الأنانية والجشعة.
الإعدام يجب أن يستهدف أسباب الجريمة
إنّ المجتمع الرأسمالي بصدد خلق وتعزيز كل شروط ومقومات الظاهرة الإجرامية في المجتمع، فالتفاوت الطبقي والاجتماعي والشعور بالحرمان والنقص والانقطاع المبكر عن التمدرس الذي يطال في بلادنا كل عام أكثر من 100 ألف تلميذ(ة) بما يحوّل جزء غير يسير منهم إلى قنابل موقوتة وإلى احتياطي لكل أنواع وأشكال الجريمة الفردية والمنظمة من حرقة إلى اعتداء ومخدرات وقتل وبغاء إلى إرهاب…، وإنّ تحوّل “الذات البشرية العاقلة” إلى حالة ذئبوية كما هو الحال في جريمة قتل الفتاة “رحمة”، وهي حالة شائعة في كل المجتمعات، فالأفراد (كما الجماعات) يمكن أن يجنحوا إلى “التفنّن” في العنف والفضاعة بما يشيع مشاعر القرف وحتى التشكيك في إنسانية هذا المجرم ومدى حيازته لشروط الصفة الإنسانية أصلا.
لن نغوص في موضوع التركيبة الخاصة لشخصية المجرم في أبعادها السيكولوجية والذهنية والاجتماعية والأسرية ومستواه التعليمي وسيرته الذاتية منذ طفولته الأولى…، ومجمل هذه الجوانب هي معطيات أساسية ومهمة لتفسير السلوك الإجرامي والكشف عن خفاياه وأسبابه الدفينة. لكن في مطلق الحالات لا بدّ من التعمق في أسباب الجريمة وأساسا أسباب استفحالها وتمددها واستقطابها لأعداد متنامية من أفراد المجتمع، هذا المجتمع الذي لا ينتبه عموما إلاّ إلى الجرائم الأكثر فضاعة ودموية، لكن “الأصناف” الأقل بشاعة هي بصدد التصاعد ولا أدلّ على ذلك الأرقام المفزعة للقضايا المنشورة في المحاكم وأعداد الموقوفين وحجم الأحكام الجزائية..الخ، علما وأنّ جريمة قتل “رحمة” تبعتها في نفس الأسبوع جرائم لا تقلّ بشاعة في جهات مختلفة من البلاد، كما سبقتها من قبل.
إنّ مقاومة الجريمة هي هاجس اجتماعي مازلنا بعيدين عن تحقيقه أو تحقيق مكاسب ذات بال في صدده. إنّ المعالجة الأسلم والأقل كلفة لإنسانيتنا ولمدنيتنا لن تكون بالدفاع عن إصدار حكم الإعدام وتنفيذه وهو ما انخرط فيه مؤخرا حتى رئيس الدولة في إطار تكريس نزعته الشعبوية التي تخاطب الجوانب الأكثر تخلفا وقسوة في مجتمعنا. إنّ المعالجة الأسلم يجب أن تتجه نحو رؤية شاملة ومتكاملة تقف على أسباب الجريمة وتتجه نحو ضرب وإعدام أسبابها الموجودة في الواقع وفي ذهنية جزء من المجتمع. دونا عن ذلك سنبقى نتخبط لتُستثار فينا نوازع البدائية بمناسبة كل جريمة تهزّ الوجدان والضمير الجمعي.