وائل نوار
شهدت الفترة الأخيرة، وبالتزامن مع عرض مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح الذي تغير اسمه لقانون حماية الأمنيين وأعوان الديوانة على الجلسة العامة لمجلس النواب، تصاعدا قويا للإيقافات والاعتداءات والمحاكمات مع انتشار واسع لخطاب القمع والتهديد والوعيد والتشهير بالحقوقيين وبالنشطاء على صفحات الفايسبوك وفي وسائل التواصل الاجتماعي وذلك على خلفية التحركات الرافضة للمشروع والتي دعا اليها المجتمع المدني والسياسي في العاصمة والجهات. وقد مثلت صفحات النقابات الأمنية رأس حربة الأمنيين في التهديد والوعيد والتشهير وهتك الأعراض ونشر المعطيات الشخصية ومثلت نقابات الأمن ومنتسبيها رأس حربة الأمنيين في بعض المنابر الإعلامية المحرّضة على المحتجين وفي تنظيم بعض الوقفات التي تطالب بسجن “المتطاولين” على المؤسسة الأمنية. طبعا هذا السلوك لدى النقابات الأمنية، وغيره من السلوكات التي سنأتي عليها فيما يلي، دفعت من الناحية المقابلة عددا كبيرا من الناشطين والقوى المدنية وحتى السياسية، ليس فقط إلى الوقوف ضد النقابات الأمنية بل إلى المطالبة بحلها وأكثر من ذلك بتجريم العمل النقابي في صفوف الأمنيين. وهو ما يفرض علينا اليوم العودة إلى هذا الموضوع من كل زواياه لكي لا ننساق في هذا الاتجاه أو ذاك تسرعا أو ردة فعل على قضايا مطروحة بصفة مباشرة وآنية.
في معاني الأمن الجمهوري
لن نتناول في هذا النص المؤسسة الأمنية من زاوية التحليل الماركسي بوصفها أداة من أدوات الدولة بتعريف الأخيرة كونها جهازا طبقيا قمعيا يهدف إلى إخضاع الطبقة المحكومة إلى سلطة الطبقة الحاكمة، بل سنتناول سقفا أدنى من ذلك بكثير، سنأخذ بالتحليل في نصنا هذا أدوار المؤسسة الأمنية في ظل المنظومة البرجوازية الحالية والاستحقاقات المطروحة في بلادنا الآن وهنا.
تقوم فلسفة الأمن الجمهوري في قوانين الديمقراطيات البرجوازية على كون المؤسسة الأمنية تعمل على حفظ الأمن الداخلي داخل حدود الوطن، تدين بالولاء فقط للجمهورية وتعمل على حسن تنفيذ القانون وفرضه على الجميع دون أي تمييز لأي سبب كان ودون استثناءات، ويحترم في أثناء أدائه لمهامه حقوق وحريات المواطنين والقوانين المنظمة لها. ويقوم المسؤول الأمني علاوة على أدواره الأمنية بمتابعة تجاوزات الأعوان والتبليغ عنها وتلقي تشكيات المواطنين بهذا الصدد، وتلتزم المؤسسة الأمنية الجمهورية بالحياد التام الحزبي والسياسي وتخضع تعييناتها وخططها واستراتيجياتها لمعايير مهنية وموضوعية وعلمية ومنطقية ولها قوانين تحمي الأمنيين أثناء أداء مهامهم وبعدها، ولهم أيضا الحق في التنظم النقابي للدفاع عن حقوقهم بتحسين ظروف العمل والمنح والامتيازات وسائر الحقوق الشغلية. هذا على الأقل من الناحية النظرية العامة ذلك أنه في الممارسة وعلى أرض الواقع تحصل أشياء أخرى ومخالفة تماما لما يضبطه القانون الذي تصوغه النظريات السياسية.
وفي تونس لا يختلف تعريف المؤسسة الأمنية عن هذه الفلسفة حيث يؤكد الفصل 19 من الدستور التونسي على أنّ “الأمن الوطني أمن جمهوري قواته مكلفة بحفظ الأمن، والنظام العام، وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات، وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ”. ويضيف في فصله 36 أنّ “الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون. ولا ينطبق هذا الحق على الجيش الوطني. ولا يشمل حق الإضراب قوّات الأمن الدّاخلي والدّيوانة”.
إذن هذا هو تعريف الأمن الجمهوري قانونيا (في الفكر البرجوازي) ودستوريا في تونس، وبذلك فعندما نستعمل مصطلح الأمن الجمهوري فنحن نقصد هذا المعنى وهذا التعريف لا غيره من التعريفات. وفي ظل الدولة البرجوازية فإنّ التقدميين عموما يدافعون عن هذا المفهوم للأمن الجمهوري ودوره وفي المقابل فإنّ الحكومات ومن ورائها الطبقة الحاكمة لا تتردد بتاتا في الدوس على هذا المفهوم كلما أحست أنّ مصالحها في خطر أمام التحركات الشعبية فتضرب عرض الحائط “حياد” المؤسسة الأمنية واحترام حقوق المواطنين وتحرك المؤسسة الأمنية لقمع تحركات شعوبها.
في هذا الإطار فإنّ التنظم النقابي للأمنيين يكفل لهم أولا حقهم في الدفاع عن مطالبهم الشغلية المباشرة كالمنح المالية وتحسين ظروف العمل والمطالبة بالتجهيزات الضرورية وثانيا دفاعهم عن قيم الأمن الجمهوري وتصديهم لمحاولات توظيفهم سياسيا ولمحاولات التدخل الحزبي في تعييناتهم وخططهم الأمنية ووقوفهم ضد استعمالهم لقمع التحركات المشروعة. بهذا المعنى وهذا الدور لا يمكن إلاّ أن تكون النقابات الأمنية دعامة من دعائم الأمن الجمهوري.
النقابات الأمنية في تونس
لقد حققت الثورة في تونس مكاسب ديمقراطية مهمة مثل حرية التعبير وحرية التنظم ومنها حق الأمنيين في التنظم النقابي وحرية الإعلام.. لكن مسار الثورة في تونس ظل متعثرا حيث سرعان ما عادت قوى الثورة المضادة إلى الالتفاف على الثورة ومكاسبها التي منها ما هو مهدد في كل لحظة بالتراجع كحرية التعبير وحرية التظاهر ومنها ما تمّ استيعابه واستعماله وتوظيفه لفائدة الثورة المضادة و”الدولة العميقة” والرجعية الجديدة مثل النقابات الأمنية. فالنقابات الأمنية التي تشكلت مباشرة بعد الثورة حاولت في البداية ونظرا للنهوض الثوري العام لعب دورها الطبيعي أي الدفاع عن الأمن الجمهوري. وقد سجلت السنوات التي تلت الثورة مباشرة خاصة في زمن الترويكا بعض المواقف الإيجابية لنقابات أمنية منها رفض الاعتداء على المتظاهرين إثر اغتيال الشهيد محمد البراهمي ورفض التعيينات الحزبية ورفض اختراق المؤسسة الأمنية حزبيا ورفض إدخال مظاهر الأخونة في مؤسسات الأمن. لكن جملة هذه المواقف لم تكن مرتبطة كليا بمنطلق الدفاع عن الأمن الجمهوري وإن كانت مغلفة شكليا بهذه الشعارات، حيث أنّ المنطلق الحقيقي لأغلب المؤسسة الأمنية بما فيها أغلب النقابات كان إضعاف وإسقاط الترويكا وأساسا النهضة وفاء لتوجه المؤسسة الأمنية ابنة النظام القديم وخوفا من المحاسبة في ملفات التعذيب والعدالة الانتقالية. ثم مع دخول تونس إلى مرحلة سياسة التوافق بين النظام القديم ووريثه نداء تونس وجهاز الإخوان المسلمين وممثله حركة النهضة ومع انتهاء الشكل المحتدم للصراع الدستوري الإخواني وتمرير حزمة من القوانين وعلى رأسها قانون المصالحة وعودة النظام القديم إلى الحكم وإلى المشهد، حسمت توجهات النقابات الأمنية وتمّ تصفية النزر القليل من العناصر والنزعات المدافعة عن أمن جمهوري وأصبحت النقابات الأمنية ملاذا لأكثر العناصر الأمنية فسادا وعجرفة وتحولت إلى كارتيلات للجريمة ومدافع رسمي عن تجاوزات الأمنيين وأبواق تنظّر للعودة إلى الاستبداد والعصا الغليظة.
كما تولت تنظيم وقيادة العديد من الأعمال ذات الجوهر الاستبدادي منها على سبيل المثال اقتحام محكمة بن عروس لفرض إطلاق سراح زميلهم المتورط في تجاوزات. وتمثل الصفحات الرسمية للنقابات الأمنية على موقع فايسبوك أكبر دليل على ما وصلت إليه هذه النقابات حيث تواترت على هذه الصفحات في المدة الأخيرة، وحتى قبل محاولة تمرير قانون الزجر، تجاوزات عديدة ويومية منها تنزيل صور موقوفين دون أن تثبت إدانتهم وأحيانا قبل حتى أن توجه لهم تهم خصوصا وأنه قد تمت تبرئة جزء كبير منهم أو تم الاعتراف بإيقافهم على وجه الخطأ وهو ما ينتج عنه عملية وصم وتشويه لمن نشرت صورهم لا يمكن إزالتها فضلا عن كون نشر معطياتهم الشخصية هو أصلا عمل غير قانوني ويحاسب عليه القانون. كما قامت عديد صفحات النقابات الأمنية بنشر صور كل من تصدى لتجاوزات الأمنيين مع تحريض عليهم ممّا أدّى إلى إيقاف بعضهم أو تعرضهم للعنف من قبل “الزملاء المتحمسين” الذين طالعوا الصور في صفحات الفايسبوك.. وقد كان آخر مهازل النقابات الأمنية متعلقا بمشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح، والذي لن نتعرض إليه بالتحليل في هذا النص..
فلقد نشرت صفحات النقابات بمناسبة دفاعها عن مشروع القانون منشورات عديدة تدين فيها الأطراف السياسية والمدنية المناهضة لقانون الزجر وتتهمها بالتخريب والخيانة الوطنية وهو ما يتناقض وأحد أهم مبادئ الأمن الجمهوري وهو الحياد. كما قامت النقابات بتصوير المتظاهرين ونشر صورهم مع أبشع النعوت والاتهامات والتحريض والتهديد، كما نشرت جزءً من معطياتهم الشخصية كأرقام بطاقة التعريف، كما أوصت منظوريها وقوات الأمن بشكل عام بالتعرض لأصحاب الصور المنشورة وهو ما تمّ لعدد كبير من الناشطين الذين أوقفتهم دوريات وقامت بهرسلتهم والتحرش بهم انطلاقا من الصور المنشورة في صفحات النقابات الأمنية.. وبالمناسبة فإنّ ما تقوم به النقابات الأمنية من تجاوزات ترقى إلى مستوى الجريمة حجة كافية لوحدها لضرورة التصدي لمشروع قانون زجر الاعتداءات الذي يعزز الإفلات من العقاب لدى الأمنيين.
يمكن القول في كلمة إنّ النقابات الأمنية الحالية، تحت تأثير توجهات وعناصر لا تقيم للقانون وزنا ولا تتوانى عن خرقه والدوس عليه وتعتبر نفسها بحكم وظيفتها فوق المحاسبة والتتبع ولا تخضع لأية رقابة، دخلت في مسار معاكس تماما لمنطلق وجودها ودورها الذي أرادته لها الثورة. وقد حوّلها هذا المسار بشكل كبير إلى أداة في يد الثورة المضادة التي تستهدف كل مكتسبات الثورة – على محدوديتها وهشاشتها – بما في ذلك حق الأمنيين في الانتظام النقابي وقد يؤدي تواصل هذا المسار إلى تحويلها بشكل نهائي إلى ميليشيات عنف وإجرام ومجموعات قمع وحشي.
ما هي الحلول؟
لقد دفع سلوك النقابات الأمنية القوى الديمقراطية سوى المنظمة أو الأفراد إلى التفكير في هذا المشكل واقتراح حلول له وقد انتشرت في فضاءات التواصل الاجتماعي عشرات المقترحات لعل أبرزها المطالبة بتحجير العمل النقابي على الأمنيين. إنّ هذا المقترح في اعتقادنا هو مجانب للصواب ويبحث عن حلول آنية وعاجلة لتأمين الحاضر دون التعمق في ما سيفرزه في المستقبل، حيث أنّ المشكل الحقيقي ليس في العمل النقابي للأمنيين ولن يحل منعهم من العمل النقابي المشكل، بل بالعكس فإنّ الاستيعاب الحقيقي لمفهوم الأمن الجمهوري ودور النقابات الأمنية فيه هو الطريق الأمثل لترسيخ الأمن الجمهوري. فلا قضاء مستقل دون قضاة مستقلين ونقابة قضاة تمثلهم وتدافع عن قيم الاستقلالية وتتصدى لوضع اليد على القضاء، ولا إعلام حر دون إعلاميين أحرار ونقابة إعلام تمثل الإعلاميين وتدافع عن قيم الحرية وتتصدى لتكميم الأفواه، كذلك لا مؤسسة أمنية جمهورية دون أمنيين جمهوريين ونقابة أمنية تمثل الأمنيين وتدافع عن قيم الأمن الجمهوري، هذا هو المبدأ وهذا ما ينبغي أن يعمل من أجله كل المتشبثين بمبدأ الأمن الجمهوري وفي مقدمتهم الأمنيون الصادقون في انتصارهم للأمن الجمهوري. لكن في المقابل وعلى أرض الواقع وبعيدا عما هو مفروض أن يكون، فإنّ النقابات الأمنية الحالية بُنيت على معايير وقيم خاطئة واتخذ مسار تشكيلها وبلورة خطها مسارا خاطئا أفضى لما هي عليه الآن. إنّ المشكل ليس في مبدأ العمل النقابي للأمنيين بل في النقابات الأمنية القائمة.
لذلك فالمطلوب في اعتقادنا هو مزيد تنظيم تشكيل النقابات الأمنية إذ يجب أن تتبنّى هذه النقابات قولا وفعلا، بقوة القانون، مفهوم الأمن الجمهوري وخاصة احترام القانون واحترام حقوق المواطنين والمواطنات وأن تكتفي النقابات بالدفاع عن المصالح الشغلية للأمنيين وأن تكون هناك محاسبة صارمة لكل أمني يتجاوز هذه المبادئ بأيّ شكل من الأشكال. أمّا الآن وبشكل مباشر وعاجل يجب محاسبة التجاوزات الحاصلة حاليا فما سيبنى على باطل لن يكون إلاّ باطلا والتسامح مع ضرب الحقوق لن يؤدي إلاّ إلى مزيد ضربها لذلك يجب محاسبة الأمنيين وخاصة النقابيين الذين تورطوا في التشهير والتعنيف والتشويه والتحريض في وسائل الإعلام أو على الفايسبوك. كما يجب معاقبة كل النقابات التي ارتكبت تجاوزات قانونية، حيث أنّ قانون الجمعيات الذي يضبط من ضمن ما يضبط عمل النقابات الأمنية ينصص في الوضوح على احترام القانون والحريات ونبذ العنف وعلى ضرورة العقوبة بالتنبيه المؤدي إلى الحذف وتعليق النشاط وحل الجمعية (النقابة) تناسبا مع حجم التجاوز المرتكب ونوعيته.
إنّ مطلب محاسبة نقابات الأمن وتتبعها بما يؤدي حتى إلى حل البعض منها يختلف شكلا ومضمونا وآفاقا عن تحجير العمل النقابي للأمنيين ويمكن أن يشكل خطوة في الاتجاه السليم من أجل أمن جمهوري. خطوة لا يمكن أن تكون ناجحة دون خطوات أخرى أهمها عملية إصلاح شامل ومتلائم مع مقتضيات الدستور لمؤسسات الدولة ومنها المؤسسة الأمنية. وهو استحقاق ومسار بصدد التعطل من قبل ائتلاف الحكم الذي تربع على البلاد والتفّ على كل استحقاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية التي رفعتها وعبّرت عنها الثورة.
إنّ بلادنا وشعبنا في حاجة ماسة إلى أمن جمهوري، أمن يحمي المواطنين من الجريمة ويصون الوطن من الإرهاب، وانّ مصلحة بلادنا اليوم هي في التمسك بالفصل 36 من الدستور لا الالتفاف عليه، وفي اعتقادنا فإنّ أول طرف مستفيد من قيام أمن جمهوري هم الأمنيون ذاتهم، الأمنيون الذين وقع توظيفهم منذ بعث هذا الجهاز لقمع الشعب وقهره ودوس حقوقه. لقد حررت الثورة شعبنا ومنه قطاع الأمن، إنّ الأمنيين سيكونون أول المتضررين من عودة الاستبداد الأمني وعودة العصا الغليظة التي لن تجد من الشعب الرضا والقبول، بل ستجد الرفض والمقاومة، لذلك فإنّ مصلحة الأمنيين اليوم ليست في قانون يعطيهم امتيازات قانونية استثنائية، بل قانون يحميهم من التعسف والاحتكام إلى القوة المادية لإشاعة الظلم والقهر، حينها سنعود إلى الوراء، وتعود صورة الأمني عدو الحرية ورديف الاستبداد.