جيلاني الهمامي
جمعتني بنجيب الزغلامي سنوات من النضال النقابي المشترك في نهاية الثمانينات وطيلة السنوات التسعين. وأحتفظ له بذكريات كثيرة أكتفي بالحديث عن اثنتين منها على أن أعود إلى غيرها في مناسبات قادمة.
الأولى: كان نجيب الزغلامي كاتبا عاما لنقابة شركة اللحوم. وكان نور الدين الطبوبي الأمين العام الحالي للاتحاد عضوا معه. كنا في قطاع البريد خضنا سلسلة نضالات مكثفة وقوية من أجل جملة من المطالب المادية والمهنية (منحة التغطية، منح صنفية أخرى، التعاونية، إعادة الهيكلة الخ…) قادتنا في أكثر من مناسبة للدخول في إضراب قطاعي عام.
كانت إضراباتنا ناجحة وكانت الاجتماعات العامة التي ننظمها بمناسبة الإضراب تشكّل مناسبة نقابية يلتقي فيها البريديات والبريديون ويتناقشون في مطالبهم المادية والمهنية. وكان النقابيون الديمقراطيون والتقدميون من مختلف القطاعات يحضرون لهذه الاجتماعات وكانت العديد من النقابات وخاصة نقابات التعليم بأصنافه ونقابة شركة اللحوم تبعث لنا برقيات المساندة. وكان الرفيق الفقيد نجيب الزغلامي لا يتخلف عن أي تحرك للبريديين لا يحضره أو لا يبعث إلينا ببرقية مساندة.
بعد مؤتمر الكرم الأول (1993) الذي جدد انتخاب إسماعيل السحباني أمينا عاما، أُغلق قوس الفترة النضالية التي عرفتها الحركة النقابية في تونس بعيد مؤتمر سوسة ودخل الاتحاد في مسار بسطت فيه البيروقراطية النقابية بقيادة السحباني والمكتب التنفيذي الذي يعلم النقابيون آنذاك أنّ السلطة وبن علي نفسه تدخّل في رسم معالم تركيبته وفي أقل الأحوال في استبعاد بعض الوجوه التي لم تكن محل رضا السلطة. ونتذكر التعليمات التي صدرت بإزاحة علي بن رمضان ومحمد الطاهر الشايب وكمال سعد عضو المكتب التنفيذي الحالي مقابل دخول وجوه جديدة ستوكل إليها لاحقا مهمات لتبييض وجه البيروقراطية. تزامن هذا التحول في الحياة الداخلية للمنظمة مع التحول الذي شهدته سياسة بن علي الداخلية باتجاه تصعيد القمع وإحكام حالة الانغلاق السياسي. فضمن هذا التوجه تم إخضاع المعارضة السياسية المعترف بها وتحويلها إلى معارضة كرطونية فيما اعتمدت سياسة الاجتثاث الكامل حيال المعارضة غير المعترف بها وخاصة الإسلاميين من جهة وحزب العمال من الجهة الأخرى. وتكفلت البيروقراطية النقابية بترويض أجنحة اليسار العاملة في الاتحاد وتمكينها من بعض المواقع النقابية وفتات امتيازات.
وفي المقابل من ذلك شنّت البيروقراطية حملة تصفية ضد كل من كان في شق علي رمضان خلال مؤتمر سوسة وشملت هذه الحملة عدة قطاعات (البنوك والستاغ والفلاحة والتكوين المهني وغيرها) وجهات (زغوان وباجة والقصرين الخ…) كما شملت قطاعات وجهات تسربت إليها قيادات ذات ميولات يسارية وديمقراطية (سليانة ونابل…). وتم استيعاب بعض العناصر (القيمون، سكك الحديد، وجندوبة…) وجرت عملية إعادة ترتيب أوضاع الاتحاد الداخلية أشرفت عليها غرفة عمليات تولّى عبد السلام جراد وفريق من المتعاونين تنفيذ أبشع الأعمال التعسفية والانقلابات الفجة (جندوبة مثال).
في ظل هذا الهجوم المزدوج، من قبل السلطة من جهة والبيروقراطية من جهة أخرى، خيّم على الحركة النقابية جو من الخوف والارتباك فتراجعت الحركة المقاومة النقابية بعد أن فرضت سياسة الزيادات الثلاثية التي بموجبها تم تفكيك مقومات العمل النقابي حتى في بعده المطلبي والقطاعي أو الجهوي البسيط. وفي ظل هذا المناخ وجد قطاع البريد نفسه يواجه بمفرده مخطط إعادة الهيكلة المملى من قبل صندوق النقد الدولي. وهو مخطط تم اعتماده في عدد كبير من البلدان بمباركة النقابات اليمينية والإصلاحية تحت عنوان “اللائحة الاجتماعية للعولمة”. ووجدت السلطة والبيروقراطية النقابية في ذلك مناسبة للتخلص من نقابة البريد المشاكسة والمشتبه فيها نقابة تحت تأثير الشيوعيين وبالتحديد حزب العمال أو البوكت كما درجوا على تسميته.
عندما شنت البيروقراطية هجوما كاسحا على نقابة البريد آخر معاقل النضال النقابي الديمقراطي والقاعدي في ذلك الوقت (سنوات 95 وما تلاها) حيث تم حل الجامعة العامة للبريد وأغلق مقرها بالشمع الأحمر جريا على أسلوب “اللوسي” وأطردنا من العمل أنا ومحمد جوابلية وأحيل سالم صيود على المحكمة وجرى التنكيل ببلقاسم النمري وليلى حازم وغيرهم كثير، وقتها أصبح مجرد الحديث مع نقابي من قطاع البريد على قارعة الطريق مجلبة لغضب القيادة والأمين العام ولشتى ضروب الخطر. لأن مجرد التعاطف مع نقابيي البريد آنذاك معناه مناهضة الدولة ونظام السابع ومعاداة المركزية النقابية بقيادة إسماعيل السحباني.
وقتها كان نجيب الزغلامي من النقابيين القلائل والقلائل جدا الذي يتجشم خطر الإعلان عن مساندته لقطاع البريد ولمناضليه وقيادته النقابية ضحية التعسف المزدوج.
نجيب الزغلامي من النقابيين القلائل الذي أصدع بموقفه صراحة ضد المؤامرة التي نظمتها قيادة الاتحاد لتفكيك نقابات البريد لتسهيل مهمة تمرير برنامج إعادة الهيكلة التي أدت إلى ما أدت إليه. والبريديون والبريديات يدركون آثار تلك الجريمة التي اقترفتها البيروقراطية النقابية في شخص السحباني وأعضاده وخاصة منهم محمد شندول والهادي الغضباني.
الحالة الثانية التي لا يمكنني أن أذكر نجيب الزغلامي دون الحديث عنها هي موقفه يوم 29 أفريل 1997 يوم التجمع العام في بطحاء محمد علي بالعاصمة وكانت زوجتي رفيقة الرقيق وأبنائي صابر الهمامي وعمره أنذاك 11 سنة وأكرم الهمامي وعمره آنذاك 6 سنوات يحملون لافتات “أطلقوا سراح أبي”. وكما سبق أن قلت كان النقابيون يتحاشون الاقتراب منهم خشية أن يغضب منهم السحباني وعصابته.
يوم 29 أفريل كنت أنا وثلة من النقابيين (رشيد النجار عضو سابق بجامعة الفلاحة والاتحاد الجهوي بتونس، أحمد رميلة عضو سابق بالمكتب التنفيذي للاتحاد، منجي صواب كاتب عام نقابة وزارة التجهيز) رهن الاعتقال في السجن منذ بداية شهر أفريل إثر شكاية كان السحباني رفعها ضدنا. التهم الموجهة إلينا: نشر أخبار زائفة، القيام بعمل من شأنه تعكير صفو النظام العام، المسّ من هيبة هيئة رسمية الخ…
لكن من هي الهيئة الرسمية؟ الاتحاد العام التونسي للشغل وأمينه العام تحديدا.
وفيما يتمثل المسّ من هيبته؟ ترويج عريضة في صفوف النقابيين تطالب بعقد المجلس الوطني للاتحاد الذي لم ينعقد وبخرق صارخ للنظام الداخلي للاتحاد منذ 6 سنوات.
كنت حررت هذه العريضة أنا والكاتب العام لجامعة البنوك الحبيب بسباس في مقهى بباب الفلة وعرضناها للإمضاء فأمضى عليها علي الضاوي الكاتب العام لجامعة العدلية ومنير العذاري الكاتب العام لنقابة الإذاعة والتلفزة علاوة على إمضائنا انا والحبيب بسباس.
راجت العريضة خلسة بين النقابيين وأصبحت موضوع نقاش وجدل.
أخذ الجدل منحى آخر لما سارع لطفي الحمروني الكاتب العام للجامعة العامة للأشغال العامة بتبليغ السحباني بالعريضة التي وصلته عن طريق منجي صواب. وفي الحين كلف السحباني أحد موظفي الاتحاد (سالم الجلاصي) بتقديم الشكاية لدى مركز الأمن فندق الغلة بتونس العاصمة.
وعلى خلفية هذه الشكاية تمّ إيقافنا، الأربعة المذكورين،. وجيء بعدد من النقابيين للاستنطاق أو كشهود وأحلنا على السجن. وإزاء ذلك رأت زوجتي وأبنائي أن ينظموا الاحتجاج على طريقتهم في بطحاء محمد علي بينما كان السحباني يتشدق بالحديث عن “المنظمة العتيدة”.
كان نجيب الزغلامي وسالم صيود من قطاع البريد النقابيّين الوحيدين اللذين تجرّآ على الوقوف إلى جانب زوجتي وأبنيّ المحاصرين بفرق البوليس من كل جانب.
نجيب الزغلامي لم يخش لا غضب السحباني ولا بطش البوليس وانتصر للحق وتضامن مع أصحابه.