عزيز بن جمعة
يدافع البعض عن السيد قيس سعيد واختياره رئيسا للجمهورية بالاستناد إلى عدة حجج، لعل أهمها نظافة يد الرجل ونزاهته وصورته النمطية التي تعكس انتماءه للشعب (أستاذ جامعي نظيف، محافظ ومتواضع، عائلة من الطبقة الوسطى، ابن منطقة المنيهلة، الخ…) وتشبّعه بالدستور والقانون وحرصه على تطبيقهما، بالإضافة إلى استقلاليته عن المنظومة السياسية السائدة والتي فقد معظم التونسيين الأمل فيها.
وللأمانة والموضوعية، لا يمكن أن ننكر خصالا ثبتت على السيد قيس سعيد مثل النزاهة والنظافة، وهي خصال محمودة ومطلوبة أصلا لدى أيّ مترشح أو مسؤول في أيّ منصب كان، ولكنها ليست بالشيء المميّز، فما جعلها كذلك هو تعفن الحياة السياسية وانحطاط المشهد السياسي، فالأصل هو النزاهة والاستقامة ونظافة اليد والاستثناء هو الفساد وبيع الذمم، أمّا في واقعنا السياسي تحوّل الفساد إلى قاعدة ونظافة اليد إلى استثناء، وهو ما جعل الكثيرين يتوسمون خيرا في السيد قيس سعيد.
ثم إنه لا يجب أن تتحول هذه الخصال إلى المعيار الوحيد والأوحد لتقييم الرجل، فنظافة اليد والنزاهة شرط ضروري وأساسي ولكنها لا تكفي لإدارة دفة البلاد وقيادتها نحو الحرية والسيادة الوطنية والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.
أمّا عن الاستقلالية عن المنظومة السياسية السائدة فهي لم تعد حجّة يمكن اعتمادها، فالسيد قيس سعيد اليوم هو رئيس الجمهورية ورئيس الدولة، أي أنه على رأس المنظومة وفي قلبها، بل إنه صار طرفا في تناقضاتها وأزمتها.
الآن، مرّت سنة على الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس وصعود السيد قيس سعيد إلى رئاسة الجمهورية التونسية، وصار بإمكاننا بعدها تقديم تقييم موضوعي لمدى نجاح أستاذ القانون الدستوري في مهامه الجديدة من عدمه. فهل أصابت تونس في اختيار رئيسها؟ إليكم أبرز الأسباب التي تجعل التونسيات والتونسيين يقرّون بفشل رئيس الجمهورية في السنة المنقضية من ولايته:
وعود فضفاضة.. غياب للبرامج.. وتضارب مع فلسفته
لم يقدم السيد قيس سعيد منذ البداية برامج واضحة للإنجاز وغابت عنه التصورات في مختلف المجالات، واكتفى بترديد خطابات وجمل طنّانة وشعبوية أو في أحسن الأحوال الوعد بتقديم بعض مشاريع القوانين والتي قد لا يصادق عليها البرلمان باعتبار أنّ السيد قيس سعيد يفتقر إلى ماكينة حزبية وإلى حزام برلماني يسنده.
أمّا فلسفته حول اللاّمركزية والبناء من القاعدة إلى القمة. فلم تجد سبيلها إلى الواقع وبقيت سجينة شعارات من قبيل “الشعب يريد ويعرف ما يريد” وغيرها… ولم يقم باتخاذ أيّ قرار أو باقتراح أيّ قانون لتعميق الديمقراطية وتوسيعها أفقيا ولا مركزيا. بل إنّ السيد قيس سعيد ومنذ وصوله إلى قرطاج، تحوّل في لهجته وخطاباته إلى مدافع شرس عن الدولة وهيبة الدولة ومركزيتها وذكّر أكثر من مرّة أنّ للدولة رئيسا واحدا هو رئيس الجمهورية.
الفشل في ملف تشكيل الحكومة:
في خضمّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تمرّ بها البلاد وتعفّن المنظومة السياسية وصراعات أقطابها، سنحت للسيد قيس سعيد فرصتان لتكليف الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة، وكان اختياره الأول على السيد الياس الفخفاخ والثاني على السيد هشام المشيشي.
فأما السيد الياس الفخفاخ فقد استقال بعد أن تفجّرت فضيحة اشتباهه في قضايا فساد من العيار الثقيل، وأما السيد المشيشي فقد أعلن “تمرده” على رئيس الجمهورية واختار التحالف مع الثلاثي النهضة – قلب تونس-ائتلاف الكرامة، وهو الثلاثي المعادي لرئيس الجمهورية قيس سعيد. وكلاهما، أي الفخفاخ والمشيشي، يشتركان في سوء إدارة الأزمة الصحية وفي انتهاج سياسات زادت وستزيد عجز البلاد المالي ومديونيتها وتفاقم البطالة والفقر والفوارق الاجتماعية والطبقية.
وبالتالي فإنّ السيد قيس سعيد يتحمل المسؤولية الأولى في تكليف الياس الفخفاخ وهشام المشيشي ومسؤول أيضا في جانب مهم على أدائهما وأداء حكومتهما.
خطاب شعبوي وتحريضي قائم على التفرقة والمؤامرة:
بالإضافة إلى الجمل الطنانة والشعبوية، تقريبا لا نكاد نسمع خطابا للرئيس قيس سعيد دون حديث عن “مؤامرات تحاك في الغرف” وأطراف ومكائد وصواريخ على منصات وتهجّم على هذا وذاك، ما جعل السيد قيس سعيد يفشل لا فقط في أن يكون عنصر تجميع وإجماع وإنما أيضا في تقديم خطاب مسؤول وواضح لطمأنة الشعب وحشد أكثر ما يمكن من القوى السياسية والاجتماعية في اتجاه مشروع واضح.
لم يقدم رئيس الجمهورية إجابات أو حلول، بل اكتفى بترديد معجم المؤامرة وتحذير الشعب من المتآمرين، وكأنّ الرجل ليس في أعلى هرم الدولة والسلطة وليس رئيسا لمجلس الأمن القومي، له من الصلاحيات والنفوذ لاتخاذ القرارات والتدابير اللاّزمة لكلّ ما يهدّد بلادنا وشعبنا. والأهمّ والأخطر، هو توجيه هذا النوع من الخطابات من وراء العسكريين وفي الثكنات والمنشآت العسكرية، وهي سابقة لم يقم بها أيّ رئيس قبل السيد قيس سعيد تقريبا.
فشل في السياسة الخارجية:
من أكثر المجالات التي فشل فيها السيد قيس سعيد هي المجالات التي تهمّ صلاحياته (الدفاع والخارجية أساسا). ففي الملف الليبي، (الذي يعتبر من الأولويات الاستراتيجية بالنسبة إلى الاقتصاد والأمن القومي التونسي) رصدنا ارتباكا كبيرا في الموقف التونسي وغيابا لرؤية استراتيجية واضحة، ما جعل تونس بعيدة عن المنصات الدولية والاقليمية التي انبثقت منها الاتفاقات والتوافقات، وغائبة عن الحلول الأخيرة، بل وتقدم حلولا بعيدة عن الواقع حتى لا نقول مثيرة للسخرية، من قبيل دستور شبيه بالدستور الأفغاني وغيرها..
ملف آخر لا يقلّ أهمية، جعل منه السيد قيس سعيد إحدى ركائز “حملته التفسيرية” وهو ملف القضية الفلسطينية. وفي هذا الملف ولمدة سنة كاملة، لم نر دعما من رئاسة الجمهورية للمبادرات القانونية الداعية إلى تجريم التطبيع ولم نر مواقف وقرارات فعلية وملموسة داعمة لفلسطين أو تقوّي الموقف الفلسطيني أو تدين التطبيع العربي سوى خطب شعبوية كالعادة. ويمكن أن نذكّر بموقف تونس المتحفظ في الجامعة العربية تجاه التطبيع الاماراتي.
جانب آخر لابدّ من تسليط الضوء عليه في ملف السياسة الخارجية هو كثرة التعيينات والإقالات في السلك الديبلوماسي من وزراء خارجية إلى سفراء وممثلين ديبلوماسيين.
فشل في السياسة الداخلية:
في الشأن الداخلي، تميزت علاقة قيس سعيد بالتوتر مع الأحزاب ورفضه للمنظومة الحزبية ككل وبالتوتر مع عدة كتل برلمانية، بالإضافة إلى صراع مع رئاسة البرلمان وعلاقة فتور وضبابية مع الحكومات ورؤساءها (الذين كلفهم هو).
ولم يقدم رئيس الجمهورية رغم انقضاء سنة على تولّيه لمهامه، أيّ مبادرات تشريعية للبرلمان تتعلق بالتنمية والتشغيل وحل المشاكل والأزمات التي تمرّ بها البلاد رغم أنّ مبادرات رئيس الجمهورية لها أسبقية العرض والنقاش حسب الدستور.
أمّا مواقفه المحافظة والمتضاربة في خصوص الحقوق والحريات، جعلته يخسر النخب والمثقفين والمبدعين ويخسر جزءً مهما من الشعب التونسي.
لهذه الأسباب وغيرها، نجد السيد قيس سعيد، رغم تصدّره نوايا التصويت في الرئاسية بفارق واسع، نجده في تراجع مستمر، خاسرا بذلك ثقة العديد من التونسييات والتونسيين يوما بعد يوم.
——————————————————-
]كتب حمة الهمامي مقالا بعنوان “عام من حكم قيس سعيد: الشعبوية على محك الواقع” لتقييم أداء السيد قيس سعيد في رئاسة الجمهورية، بوّب هذا التقييم حسب المحاور التالية: أولا: المسألة الوطنية، ثانيا: مسألة الحكم، ثالثا: مسألة الحريات والحقوق والمساواة، رابعا: مسألة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خامسا: مسألة السياسة الخارجية والتطبيع مع الكيان الصهيوني، سادسا: مسألة الأسلوب. ونحن ننصح القارئ بمزيد الاطلاع عليه. (نشر المقال بجريدة الشارع المغاربي بتاريخ 20 أكتوبر 2020، وأعيد نشره على موقع صوت الشعب)[