جيلاني الهمامي
صادقت يوم أمس الأربعاء 18 نوفمبر لجنة المالية في البرلمان على مشروع قانون الميزانية التكميلية لسنة 2020 بعد أن كانت اللجنة رفضت التصويت عليها في وقت سابق واضطرّت الحكومة إلى سحبها وإدخال بعض التنقيحات عليها. ومن المنتظر أن يقع عرضها على الجلسة العامة في الأيام القليلة القادمة للنقاش ثمّ التصويت. وليس معروفا بعدُ ما إذا كانت ستحظى بالمصادقة عليها أم لا. ذلك أنّ التنقيحات الحكومية المدخلة على المشروع لم تغيّر في النسخة الأولى الشيء الكثير. والمشروع الجديد توصّل إلى تقليص نسبة عجز الميزانية من 13.4 إلى 11.4% فقط. وتوقع المشروع أن يقع تمويل العجز بالاقتراض الداخلي في حدود 8.5 مليار دينار وبالاقتراض الخارجي في حدود 3 مليار دينار. والسؤال المطروح هو كيف سيتسنّى تعبئة موارد الاقتراض الداخلي مع تأكيد البنك المركزي على قدرته تعبئة مبلغ لا يتجاوز 3.5 مليار دينار. فمن أين سيقع توفير حوالي 5 مليار دينار من السوق المالية الداخلية؟ ومن جانب آخر ما هي ضمانات الحكومة في التوصّل إلى الحصول على ما قدره 3 مليار دينار من الخارج؟
ويبدو بحسب ما جاء في وثيقة المشروع المعدّلة أنّ وزارة المالية استجابت لطلبات النواب بخصوص بعض النقاط الواجب تضمينها في التقرير المرفق بالمشروع مثل فرضيات النمو وتقديرات دعم المواد الأساسية والنقل وتقديرات نفقات الأجور وحجم ديون الدولة لدى المؤسسات العمومية.
وبانعقاد الجلسة العامة سينطلق مشوار المداولات السنوية حول الميزانية وقانون المالية الذي ينبغي أن ينتهي يوم 10 ديسمبر القادم، المدة الزمنية المتبقّية للانتهاء من النظر في ميزانيات كلّ الوزارات في اللجنة ثم في الجلسات العامة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مشروع قانون المالية. ومن الممكن إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض القضايا المالية التي ستثار مثلما أثيرت في ميزانية 2020 أن تكون هذه الميزانية تحت الضغط والتهديد بمآلات غير متوقعة.
ما من شكّ في أنّ الميزانية الجديدة وقانون المالية للعام القادم يكتسيان أهمية كبيرة. ومن الطبيعي أن ينشغل بهما المواطن وأن يتابع مجريات المداولات حولهما في البرلمان وفي وسائل الإعلام وخاصة المكتوبة. ولكن هذه المداولات التي كثيرا ما تتخلّلها مشاهد صراخ وشتم ومشادات كلامية لم تعد تستقطب اهتمام المتفرجين لأنّ هذه الصراعات غيّرت مواضيعها وبات واضحا للناس أنها لا تتّصل بمشاكلهم وأوضاعهم. أكثر من ذلك عادت مشاهد المداولات البرلمانية لأن تأخذ مكانها ضمن عناصر واقع الروتين المملّ وديكور النظام الرسمي الممجوج.
وفوق كلّ ذلك بات من باب اليقين أنّ كلّ هذا اللغو والصراخ والضجيج الذي تحفل به الساحة السياسية والإعلامية في مثل هذا الموسم من كلّ سنة لا يُرجى منه خير وأنه مجرّد ثرثرة تدور حول خيارات وسياسات معروفة لا نفع فيها للمواطنين.
هذا الانطباع العام لدى القطاعات الشعبية من الرأي العام حصل في الحقيقة نتيجة ما أسفرت عنه جولات وجولات من المداولات البرلمانية من أضرار جسيمة لحقت بمعيشة الناس وظروف حياتهم في سكناهم وعملهم وتنقّلاتهم ودراسة أبنائهم وفي صحّتهم وفي جميع جوانب حياتهم. كيف لا والجميع يُعرف اليوم أنّ البطالة بلغت معدّلات غير مسبوقة؟ كيف لا وهم يعلمون علم اليقين درجة انهيار مقدرتهم الشرائية نتيجة ارتفاع لهيب الأسعار كما لم يحصل من قبل؟ كيف لا وهم يرون ويلمسون مدى اتّساع رقعة الفقر والاحتياج وانتشار مظاهر الإملاق؟ كيف لا وهم يسمعون ويشاهدون أكثر من حجة وبرهان يفيد أنّ البلاد أصبحت مستعمرة لهذا وذاك من البلدان الاستعمارية المعروفة، أمريكا والاتحاد الأوروبي، بل ولبلدان أخرى لا تُخفي أطماعها في السيطرة على بلادنا مثل تركيا وقطر والإمارات الخ…
النسخة الجديدة من ميزانية الدولة للسنة المقبلة وما سيرافق نقاشها في البرلمان من المشاهد المذكورة ستؤكّد أكثر فأكثر هذا الانطباع وقد يكون سببا في إثارة الغضب والاحتجاج الشعبي.
فالميزانية الجديدة، كما وردت في الوثيقة المتداولة والتي سيعرض مضمونها رئيس الحكومة يوم السبت 21 نوفمبر الجاري في بيانه أمام الجلسة العامة لمجلس النواب، علاوة على أنها نسخة من سابقاتها من حيث الشكل والمنطق العام، فهي تكرار لنفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية. بل وإيغال فيها وبشكل يبعث على الحيرة والخوف مثل مسألة المديونية. وهي في كلمة خطوة أخرى بالاتجاه الأسوأ، الاتجاه الذي يقرّب البلاد من الإفلاس والانهيار ويضع المجتمع على حافة الانفجار الذي قد يفتح على مآلات غير معلومة العواقب.
فهذه الميزانية ستعمّق الأزمة على الأقل في ثلاثة مستويات أساسية هي المديونية التي سترتفع إلى حوالي مليار دينار، أي حوالي 93% من الناتج الداخلي الخام وسيكون على الميزانية تخصيص حوالي 15.8 مليار أي 30% من الميزانية لتغطية خدمات الدّين علما وأنه سيتعيّن على الحكومة تعبئة أكثر من 20 مليار دينار لتمويل عجز الميزانية.
من ناحية أخرى فإنّ هذه الميزانية التي لم تخصّص سوى 7 مليار دينار، أي ما لا يزيد عن 13% فقط من الميزانية للتنمية. منها 4 مليار دينار فقط تمويلات لمشاريع ما يعني أن لا مجال للتفكير في خلق مواطن شغل جديدة. وقد برمجت الميزانية الجديدة 16 ألف انتداب فقط لفائدة وزارتي الداخلية والدفاع وبنسبة صغيرة وزارة التربية. وإذا كنا نعرف أنّ حوالي 90 ألف طالب شغل جديد يفدون سنويا على سوق الشغل في ظل نسبة بطالة فاقت 18% فمن المرجح أن ترتفع هذه النسبة إلى ما يفوق 20% في السنوات القادمة.
أمّا من الناحية الثالثة فإنّ الإجراءات الجبائية غير المباشرة على بعض المواد والتخفيض في اعتمادات الدعم بأكثر من 1500 مليون دينار من شأنه أن يزيد في تدهور المقدرة الشرائية للمواطنين زيادة على ما لحق بها من ضرر طوال المدة الفائتة.
هذه الجوانب وغيرها سنعود إليها بعد بيان رئيس الحكومة يوم السبت أمام البرلمان لنقف بأكثر تفصيل على سمات هذه الميزانية وما سيترتب عنها ماليّا واقتصاديّا واجتماعيّا وكيف ينبغي العمل من أجل التصدّي لها.