حبيب الزموري
ما إن أعلنت حكومة هشام المشيشي توصّلها إلى اتفاق مع تنسيقية اعتصام الكامور بتطاوين -تتوزع بنوده على محورين رئيسيين هما التشغيل والتنمية الجهوية- حتى اندلعت عشرات الاحتجاجات وتشكلت عشرات التنسيقيات الجهوية والمحلية وسارعت كل ولاية وكل معتمدية للبحث عن “فانتها المنشودة ” لغلقها ومحاولة النسج على منوال الحركة الاحتجاجية في تطاوين التي انطلقت منذ حوالي خمس سنوات.
إنّ السمات المشتركة لهذه الموجة الاحتجاجية المتصاعدة هي طابعها الجهوي والمحلي ومطالبها التي لم تتجاوز السقف الاجتماعي والاقتصادي وعداؤها للتنظيمات السياسية والمدنية. فرغم مراكمة التجربة السياسية التي حققها الشعب التونسي منذ سنة 2011 إلى اليوم كما لم يحققها طيلة التاريخ السياسي الحديث والمعاصر للبلاد فإنّ هذه التجربة كانت مستهدفة من قبل أجهزة الدعاية البورجوازية والرجعية التي ماتزال تحت سيطرة وتوجيه نفس الطبقة الاجتماعية المهيمنة قبل 2011 التي مارست أشرس الحملات الدعائية ضد المسار الثوري وضد القوى المنادية بمواصلته إلى حين تحقيق مطالبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية… وأوصلت التونسيين والتونسيات إلى مستويات من اليأس والإحباط أصبح معه عدد كبير من التونسيين والتونسيات يتمنّون عودة الاستبداد. سيسجل تاريخ بلادنا أنّ هذه المرحلة قد شهدت أوسع عملية تضليل وتزييف دعائي وإعلامي تجاوزت في فسادها وعبثها بمصير البلاد ما اقترفته أجهزة الدعاية النوفمبرية بأساليبها الخشبية.
في ظل هذا الوضع الفاسد والمتعفن وجدت الجهات والفئات المضطهدة في “النموذج الكاموري” المنتصر على نموذج حكم مارس شتى أنواع التمييز الجهوي والطبقي طيلة عقود مثالا يحتذى، بالمقابل تتعالى الأصوات من المعسكر الطبقي المقابل متباكية على هيبة الدولة “المداسة” تحت نعال أبناء الصحراء و”البروتوكولات” المنتهكة في قصر القصبة بذلك الهندام الصحراوي (اللحفة) الذي شوّه أناقة القصبة المتوارثة جيلا بعد جيل منذ أكثر من خمسة قرون. ولكن الغريب في الأمر أنّ نفس هذه الأصوات الناحبة على هيبة الدولة المنتهكة من قبل أبنائها العاقين هي نفس الأصوات المهللة لشتى الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية والثقافية المنتهكة للسيادة الوطنية بل والمذلة لكرامة الشعب التونسي.
في نفس السياق نجد عددا من الناشطين والمناضلين السياسيين والنقابيين الذين كانوا في طليعة الحركات المناهضة للديكتاتورية النوفمبرية وكان لهم دور طليعي في جهاتهم خلال الثورة قد انخرط في حملات تجريم الحركة الاحتجاجية ودعوات إنقاذ هيبة الدولة، متناسين أنه لا وجود لحركة نقية في التاريخ وأنّ ما يحدد مصير أيّ حركة لتغيير الوضع القائم هو موازين القوى داخلها. إنّ التعالي على الحركات الشعبية من قبل الأحزاب والمنظمات والشخصيات التقدمية والوطنية والديموقراطية موقف يفاقم من اختلال موازين القوى على الأرض لفائدة التيارات الرجعية والشعبوية ويفاقم في الآن نفسه من عزلة هذه القوى فلا الشعب وجدهم عند الحاجة ولا الدولة الكومبرادورية ستعترف برثائياتهم على هيبتها وضعفها.
مهما كان موقفنا من انعزالية هذه التحركات الشعبية ومن مناهضتها للعمل السياسي الذي تفننت أجهزة الدعاية البورجوازية في ترذيله ومن طرق الاحتجاج نفسه فإنّ هذه المواقف لا تخلق مبررا للتعالي عليها وترك الشعب وحيدا في مواجهة قمع المنظومة الحاكمة المادي منه واللامادي. إنّ تسليح الشعب بالوعي والتنظيم مهمة شاقة في درب طويل وقاسي وليست مهمة “كن فيكون”.
إنّ ما تعلّمه الشعب التونسي بتجربته الذاتية طيلة العشر سنوات الأخيرة يفوق كل ما تعلّمه طيلة تاريخه ولكنه غير كاف بعدُ لإيصاله إلى برّ العدالة الإجتماعية والسيادة الوطنية. وما على بنات وأبناء هذا الشعب اللاتي والذين مارسوا العمل السياسي والمدني المنظم المنحاز لقضايا العدالة والحرية والمساواة مهما كانت انتماءاتهم التنظيمية إلاّ تحمّل مسؤولياتهم وعدم “ترك الشعب وحيدا ” في مواجهة آلة من أبشع آليات الانحراف بالوعي وتزييف الواقع تكاد تحوّل الثورة إلى غنيمة بيد عصابة متحكمة في المنظومة السياسية والاقتصادية والثقافية… ببلادنا. ولا خلاص إلاّ بإسقاطها ووضع أسس نظام بديل شعبي، وطني، ديموقراطي ممكن وضروري.