علي بنجدو/ ناشط سياسي يساري مستقل
تعالت بعض الأصوات من أطراف سياسية وكتل برلمانية ومنظمات وفعاليات مدنية واجتماعية وازنة سياسيا في الفترة الأخيرة للمناداة بحوار وطني لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة في تونس واحتواء تداعياتها التي تشهدها البلاد والمنظومة الحاكمة منذ نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية 2019.
ويهمّنا في هذا المقال رصد الظروف الحافة بهذه الدعوات وبواعثها وخلفياتها التي وإن كانت تدّعي زيفا حلّ المشاكل الاقتصادية والسياسية ورسم برنامج عمل وخارطة سياسية لإنقاذ الشعب والبلاد فإنها في واقع الحال ليست أكثر من محاولة جديدة لإنقاذ منظومة الحكم وإعادة ترميم مؤسساتها وإشاعة مناخ مفقود للثقة والسلم الاجتماعي عبر احتواء حالة الحراك الاجتماعي الاحتجاجي/ المطلبي في أغلب جهات البلاد وجغرافيا الفقر الاجتماعي من جهة ومحاولة لتأبيد الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجت الأزمة الشاملة والمركبة التي تمرّ بها البلاد من جهة ثانية.
وقبل البدء في تحديد ملامح هذا الحوار الوطني وتحديد مكوناته وذوي المصلحة من الداعين إليه والمستفيدين منه، وقبل تحديد رهاناته المتاحة وآفاق تحققها الممكنة من عدمها يجب الوقوف على خاصيات اللحظة السياسية الحالية وتقاطعاتها والنتائج التي يمكن أن تفرزها بالمحصلة النهائية.
● أزمة اجتماعية خانقة تحتدّ يوما بعد يوم: بطالة تقارب المليون معطل عن العمل، تسريح وطرد متزايد للعمال والأجراء من المؤسسات الاقتصادية المفلسة، فقدان عشرات الآلاف من العمال وأصحاب الأنشطة الاقتصادية والخدمية العرضية والهامشية والموسمية لمواطن عملهم وأنشطتهم بسبب جائحة كورونا وظروف الحجر الصحي العام وتخلي الدولة عن الخدمات الاجتماعية وترديها في القطاعات العمومية، زيادات صاروخية في أسعار المواد الأساسية والطبية وغياب أيّ رقابة على مسالك التوزيع والتجارة والتخزين والتحكم.
● تنكّر الحكومات التي تلت انتخابات 2019 لجزء كبير من الاتفاقات الموقعة قطاعيا وجهويا وخاصة تلك الاتفاقات ذات الصّلة بالأطراف الاجتماعية والمهنية وبالاتحاد العام التونسي للشغل.
● زيادة غير مسبوقة في حجم الديون الداخلية والخارجية بما يقارب ميزانية الدولة ممّا يزيد من وهن الاقتصاد المحلي ويضعف قدراته الإنتاجية التبادلية ويخضعه أكثر فأكثر لتحكم الجهات المالية المقرضة والدوائر الاستعمارية المرتبطة بها ويعيق بالنتيجة كل إمكانات حلّ الأزمة ولو ظرفيا ويهدّد بإفلاس الدولة.
● صدور تقرير محكمة المحاسبات الخاص بالخروقات المالية والإشهارية وتوظيف المال الفاسد في الحملات الانتخابية لانتخابات 2019 بما يؤكد توظيف كل أساليب وتقنيات التحيل الانتخابي لأحزاب وقائمات انتخابية تمثل كتلا وازنة في مجلس نواب الشعب وتثبت مرة أخرى أنّ انتخابات 2019 لم تخرج البتة عن سياق المتاجرة بأصوات الناخبين والاستفادة من مناخ الفساد السياسي وشبهات التمويل الداخلي والخارجي وتقصير الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من حيث الرقابة وتطبيق القانون وفرض الإجراءات العقابية والجزائية بإسقاط القائمات التي تأكدت مخالفتها للقانون الانتخابي من ناحية تجاوز سقف التمويل كما من ناحية مخالفات الإشهار الانتخابي/ السياسي.
● الصورة النمطية المألوفة لمؤسسة تشريعية فاقدة لكل مصداقية سياسية/شعبية وتعبّر عن حالة قصوى من الرداءة والابتذال… صورة كاريكاتورية لمجلس نيابي تشقّه الخلافات المرضية بين كتل وازنة تعبّر عن مصالح ضيّقة لأحزاب ومجموعات مافيوزية توظف هذا المجلس (من خلال تمثيليتها في مكتب المجلس واللجان التشريعية والتصويت لتمرير أو إسقاط مشاريع قوانين…) لأغراض خاصة تتناغم فيها مطامع الحكم والسلطة مع رهانات التموقع في كل مؤسسات الحكم وعصبها الإداري مركزيا وجهويا ومحليا وقطاعيا… .
● المراوحة بين المعالجة الأمنية/ القمعية وسياسات التسويف والتنكر للاتفاقات الموقّعة من قبل الحكومات المتعاقبة في ما يتصل بالملفات الاجتماعية القاهرة مع كل ما يستتبع ذلك من فقدان مصداقية سياسية وترذيل لصورة القائمين على حكم تونس أفرادا ومؤسسات… .
هذه الأزمة المركبة بكل عناصرها وتقاطع مضامينها الاقتصادية والاجتماعية بما فيها عجز منظومة الحكم عن التعامل معها رغم كل الإيهامات الكاذبة والوعود الزائفة والزعم الوهمي بالاستجابة للاستحقاقات الشعبية، هي تتجسد في جزء منها في حالة من الصراع بين مؤسسات الحكم، صراع تتباين فيه المواقف وتتناقض تناقض المصالح والرهانات التي تمثل من يرأس هذه المؤسسات ويتحكم فيها ويحاول توظيفها لحسابه الخاص بعيدا تماما عن كل الاستحقاقات الشعبية وسيادة الشعب على وطنه ومصيره.
إنّ هذه الأزمة المعقدة التي تسود المشهد العام للبلاد وتتحكم فيه ليست حالة طارئة ومستجدة ولا هي حالة قدرية وإنما هي في عمقها وشروط حدوثها واستمرارها نتاج لسنوات عديدة من التراكم وإخفاق خيارات الحكم وفشله المستديم في التعامل مع الأزمات واحتوائها. هي أزمة ناجمة بالضرورة عن تعامل سياسي قاصر من قبل مؤسسات الحكم يوظف نفس الوصفات الفاشلة لمعالجة أزمات متشابهة. فإغراق البلاد في المديونية الخارجية وتعطيل حركة الإنتاج الاقتصادي الوطني وضرب كل قدراته التنافسية وفوضى التوريد وعدم مراجعة العقود والاتفاقات الاقتصادية غير المنصفة وضرب كل مقومات السيادة الوطنية جميعها شروط مباشرة لإضعاف القدرات التنموية للاقتصاد الوطني وإضعاف معدلات التشغيل وتراجع الدولة عن تأمين الخدمات الاجتماعية ومعالجة نقائص واختلال المؤسسات العمومية وقدراتها الإنتاجية والتنافسية والتشغيلية….
كلّ هذه الاعتبارات تترجم بالنهاية أزمة عامة لمنظومة الحكم مثلما تسقط كل الأوهام عن حلول ممكنة يمكن أن تقدمها هذه المنظومة لتجاوز هذه الأزمة سواء بصلاحياتها المتاحة لها أو من حيث تملكها للإرادة السياسية المطلوبة. هذا الوضع أدّى في النهاية إلى إعادة استحضار “وصفة الحوار الوطني” كحل للأزمة مع ما يتلاءم ويتلازم مع هذه “الوصفة” من معجم مفردات مستهلكة على شاكلة “وحدة وطنية”، “المصلحة تقتضي حوارا وطنيا”، “لمّ الشمل”، “تسبيق المصلحة الوطنية”، “تقاسم التضحيات”، “العودة إلى طاولة الحوار”، “هيبة الدولة”…. وكل ما شابه هذه العبارات وماثلها من حيث شحنة الزّيف والتمويه والمغالطة والإيهام بتملّك وامتلاك الحلول… دعوات لحوار وطني تتزامن مع تعمّق الأزمة وبوادر ثورة جديدة في تونس تؤكّدها وتنبئ بها الاحتجاجات الاجتماعية التي تعمّ جزء كبيرا من جغرافيا تونس من اعتصامات وإضرابات جهوية ومحلية وأشكال معتادة وجديدة للتنسيق الاحتجاجي الميداني. حراك اجتماعي يتوهج ويتجذر أكثر فأكثر خارج تقدير من يحكم البلاد ويكذّب كل مزاعم الذين يعتبرون أنّ المسار الثوري انتهى إلى حال من الاستقرار واللاّعودة إلى وضعية بدئه الأولى.
إنّ هذه الدعوات لإنجاز حوار وطني ليست أكثر من دعوات لإنقاذ منظومة الحكم والأحزاب السياسية المشكّلة لها والمستفيدة منها، دعوات لاحتواء الأزمة المركّبة وإدامتها بأقل تكلفة سياسية ممكنة تضع هذه المنظومة الفاقدة للشرعية الشعبية خارج دائرة المحاسبة، حوار وطني ينتهي إلى إعادة هذا الشعب المنتفض إلى وضعية الثقة فيمن كذّبت كل السنوات والتجارب السابقة كل ادّعاءاتهم ووعودهم وسياستهم لحل الملفات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة. مزاعم تسفّهها كلّ محطات وحلقات “الحوار الوطني” من 2013 انتهاء إلى قرطاج 1 و2 وما توسّط هذه المحطات وما تلاها من محاولات كانت في كل مرة تعيدنا إلى مربع الخيارات الخاطئة والفاشلة أيّا كان مأتاها والداعون إليها.
إنّ مشهدا سياسيّا جديد يلد من عمق الأزمة بدأ بالتشكل. وقد يكون الفاعلون الأساسيون فيه محدّدون لوقائعه السياسية ومآلاته الممكنة، فاعلون اجتماعيون فقراء ومهمشون وعاطلون عن العمل ونساء وشباب من الذين راهنوا على الثورة وظلت آمالهم في العدالة الاجتماعية والديمقراطية الشعبية يقظة بروح واقعية تطرح ما هو ممكن…
قد يفضي الوضع الراهن بكل تفاصيله إلى حركية ثورية تجمع بين العفوية والتنظم التلقائي. وإزاء الوضع ما هو مطروح على الفاعلين السياسيين/ الاجتماعيين في الحراك الثوري هو تشبيك العلاقات الاحتجاجية أفقيا مثلما هو مطروح على القوى الوطنية والتقدمية والثورية الانخراط في هذا الحراك وتسليحه بمهمات وبرنامج سياسي يتلاءمان مع انتظارات المحتجين وأهدافهم المرحلية والاستراتيجية وفي النضال من أجل ديمقراطية شعبية وعدالة اجتماعية وسيادة وطنية تقطع مع التبعية ومع كل أشكال الهيمنة الخارجية.
ملاحظة: سيتبع هذا المقال بمقال آخر حول الحراك الاجتماعي الراهن من حيث مهماته ودور القوى الوطنية والثورية.