صُدم الشعب المغربي الشقيق بإعلان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عن تطبيع العلاقات رسميا بين المغرب الأقصى والكيان الصهيوني. لكن هذا الإعلان في الحقيقة لم يكن سوى تتويجا لمسار طويل من الخيانات التي اقترفها نظام المخزن في حق القضية الفلسطينية والقضايا القومية شأنه شأن بقية الأنظمة الرجعية العربية. ورغم عراقة علاقات النظام الملكي بالمغرب بالكيان الصهيوني لا سيما في عهد الملك الراحل الحسن الثاني فإنّ السّبق في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني بالكامل كان لموريطانيا سنة 1999 في عهد الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع لتصبح بذلك ثالث دولة عربية في ذلك الوقت تعترف بدولة الاحتلال وتقيم معها علاقات ديبلوماسية كاملة.
نظام المخزن المغربي صديق غير معلن للكيان الصّهيوني:
لقد تعددت اللقاءات بين كبار المسؤولين في المغرب والكيان الصهيوني منذ ثمانينات القرن الماضي حيث استقبل الملك الحسن الثاني سنة 1986 رئيس الوزراء الصهيوني شمعون بيريز والتي لم تكن الزيارة الوحيدة لهذا الأخير إلى المغرب، حيث زار المغرب أربع مرات في زيارات رسمية اثنان منهما علنية وزيارتان سرّيّتان. بالإضافة إلى زيارة خامسة سنة 1999 لتقديم التعزية لمحمد السادس في وفاة والده. وقد صرّح بيريز في أكثر من مناسبة بأنّ “الملك الحسن الثاني كان صديقا كبيرا لـ”إسرائيل” وبأنه “كان يبدي تفهّما عميقا وحرارة تاريخية للعالم اليهودي.” وفي 01 سبتمبر 1994 فتح الكيان الصهيوني مكتب اتصال بالمغرب وفي سنة 1995 فتحت المغرب مكتبا مماثلا في تل أبيب.
فإعلان يوم 10 سبتمبر 2020 كان تتويجا لمسار طويل من التطبيع المعلن وغير المعلن بين الطرفين وتتويجا للحملة السياسية التي شنّها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على الأنظمة العربية لدفعها إلى تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني حيث أعلن البيت الأبيض أنّ “ترامب” والعاهل المغربي اتّفقا على “استئناف المملكة علاقاتها الديبلوماسية مع “إسرائيل” فضلا عن تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدين بما يدعم الاستقرار في المنطقة”. بالمقابل وكمكافأة من إدارة الرئيس “دونالد ترامب” لنظام المخزن على استجابته للضغوطات الأمريكية، قام الرئيس الأمريكي بإعلام محمد السادس في مكالمة هاتفية بدعمه لمقترح المغرب المتعلق بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية كأساس وحيد وعادل ودائم لحل النزاع. وقد وصف ممثل جبهة البوليساريو لدى منظمة الأمم المتحدة سيدي عمر هذه الخطوات: “تشير الخطوة إلى أنّ النظام المغربي مستعدّ لبيع نفسه في سبيل الحفاظ على الاحتلال غير القانوني لأجزاء من الصحراء الغربية”.
التّجارة تقود السّياسة التّطبيعيّة:
تُعتبر المغرب رابع شريك تجاري يعتمد عليه الكيان الصهيوني في وارداته في القارة الإفريقية وتاسع مصدر إفريقي للكيان الصهيوني. وقد وصلت قيمة المبادلات التجارية بينها إلى 149 مليون يورو بين سنتي 2014 و2016. كما تستقطب المغرب أبرز الاستثمارات الصهيونية العلنية في المنطقة العربية ومن أبرز الأمثلة الحديثة على هذا افتتاح الشركة العملاقة “نيتافيم” المتخصّصة في التكنولوجيا الزراعية لفرع لها في المغرب الأقصى سنة 2017 بتكلفة ناهزت 03 مليون دولار بعد أن كانت تنشط منذ سنة 1994 تحت غطاء اسم شركة تابعة لها “ريفافيم”.
يتابع صفحة “نيتافيم” على الفايسبوك في المغرب أكثر من 26 ألف مستخدم. وتشير الصورة الرئيسية للصفحة إلى تأسيس الشركة سنة 1965 كمستوطنة زراعية صهيونية قبل أن تصبح شركة رائدة عالميا في إنتاج أنظمة الريّ بالتنقيط (قطرة قطرة) التي تعود لها براءة اختراعها حسب موقعها على شبكة الأنترنات.
وفي الوقت الذي ما فتئت فيه المبادلات التجارية والاستثمارات تتنامى كانت الحكومات المغربية المتعاقبة تصرّ على إنكار وجود أية علاقات تجارية بينها وبين الكيان الصهيوني بما فيها حكومة حزب العدالة والتنمية، حيث صرّح الوزير المنتدب لدى وزير الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي المكلف بالتجارة الخارجية محمد عبو خلال كلمة ألقاها أمام البرلمان سنة 2016، “لا تربط المغرب أيّ علاقات تجارية مع هذا الكيان. كما تحرص حكومته على التصدي لدخول جميع البضائع “الإسرائيلية” إلى الأراضي المغربية. لم تمنح الحكومة أيّ ترخيص لأيّ شخص لاستيراد التمور أو أيّ منتجات “إسرائيلية” أخرى”. وهي في الحقيقة اللغة الخشبية نفسها التي تستخدمها حكومات البلدان المجاورة وفي مقدمتها تونس في ردّها على تهمة التطبيع. وهي تبريرات واهية سرعان ما ينكشف زيفها، حيث يشير الباحث في مركز “بروكنجز”، “عادل عبد الغفار” إلى أنّ هذه العلاقات الاقتصادية تدور في كنف السرية. إذ لا توجد أيّ سجلات خاصة بالتجارة مع الكيان الصهيوني أو تلك التي تتعلق بشركاته في المغرب وأنّ الكثير من الأعمال تتمّ بشكل غير مباشر عبر الشركات الفرنسية كما يمكن للكثيرين التعامل مع وسيط خاصة عندما يتعلق الأمر بالتمويل أو شراء معدات.
لن يتوقف قطار التطبيع الرسمي بالمغرب العربي بتاتا في محطة الرباط بل إنه سيكتسح بقية العواصم المغربية من طرابلس شرقا إلى نواكشوط غربا مرورا بتونس وبدرجة أقل الجزائر.
تونس: تطبيع يجري تحت ساقي رئيس مناهض للتطبيع بلسان خشبي
تعود العلاقات التونسية بالكيان الصهيوني إلى ما سنة 1956 حيث يشير تقرير صادر عن مركز البحوث “الإسرائيلي” Rubin Center for Research in International Affairs صادر في جوان 2000 تحت عنوان “إسرائيل والمغرب العربي في أوج الصراع العربي الإسرائيلي 1950 – 1970″ إلى لقاء الوفد التونسي بقيادة الباهي الأدغم سنة 1952 بمقر منظمة الأمم المتحدة بالوفد الصهيوني برئاسة رفائيل جدعون لإقناعه بأنّ الدولة المستقلة القادمة لا تُكِنُّ العداء لـ”إسرائيل” ولن تنخرط في أيّ أعمال عدائية ضدها. لقاء تدعّم بلقاء ثانٍ في باريس بين الحبيب بورقيبة وسفير الكيان الصهيوني في فرنسا يعقوب تسور في فيفري 1956 أكّد فيه زعيم حزب الدستور على مناهضته للخطابي الناصري المعادي للصهيونية.
لا يختلف مسار التطبيع في تونس كثيرا عن مثيله في المغرب الأقصى بالنظر إلى العلاقات الوثيقة التي كانت تجمع النظامين الرجعيين البورقيبي والمخزني، حيث أعلن الحبيب بورقيبة في خطابه الشهير في أريحا بتاريخ 03 – 03 – 1965 عن رؤيته للصراع العربي الصهيوني بالدفاع عن حل الدولتين والاعتراف المتبادل. وقد سنحت الفرصة للنظام البورقيبي وسليله النوفمبري للدفع في اتجاه هذا الحل الاستسلامي باستقبالهم للشق المهادن في الحركة الوطنية الفلسطينية الذي رضخ لسياسة الأمر الواقع التي فرضتها القوى الإمبريالية ووكلاؤها المحليين من الرجعيات العربية. وأصبحت تونس منصّة إطلاق “لمعاهدة السلام” بين الفلسطينيّين و”الإسرائيليين” والذي فتح أبواب التطبيع على مصراعيها وكأنّ الأنظمة العربية ومن بينها النظام النوفمبري في تونس قد أزاحت عن كاهلها عبئا ثقيلا كان يحول دون الجهر بعلاقاتها مع الكيان الصهيوني ليلتقي وزير الخارجية النوفمبري الحبيب بن يحي بإيهود باراك في برشلونة في مناسبة أولى سنة 1995 ليسارع الكيان الصهيوني بفتح مكتب “رعاية مصالح” له في تونس في أفريل 1996 لينسج النظام النوفمبري على منواله بفتح مكتب في تل أبيب في الشهر الموالي. وتعددت مظاهر التطبيع الثقافي والاقتصادي منذ ذلك الوقت.
تشير إحصائيات المنظمة العالمية للتجارة إلى أنّ أولى المبادلات التجارية بين تونس الكيان الصهيوني تعود إلى سنة 1995. وقد سجّلت صادرات الكيان الصهيوني إلى تونس ارتفاعا قياسيا بين سنتي 2007 و2012 من 2,2 مليون دولار إلى 15 مليون دولار. وتشير إحصائيات المنظمة العالمية للتجارة إلى تركيبة هذه المبادلات التجارية بدقة في ظل غياب أيّ أثر لها في إحصائيات المؤسسات والهياكل الرسمية التونسية ذات الصلة كوزارة التجارة أو المالية أو الخارجية… وحتى قرار غلق مكتب رعاية المصالح الصهيونية في تونس في 22 أكتوبر 2000 كردّ على المجازر الصهيونية في حقّ أبناء الانتفاضة الفلسطينية لم يكن له أدنى تأثير على تواصل تدفّق البضائع الصهيونية إلى تونس وحتى بعد 2011 وخلال حكم الترويكا سجلت الصادرات الصهيونية للبلاد التونسية نموّا مطّردا وسجلت تونس عجزا في ميزان المبادلات التجارية الثنائية بقيمة 14 مليون دولار.
يتواصل التطبيع التجاري والمالي والثقافي والرياضي على قدم وساق منذ 2011، بل بوتيرة أسرع في ظلّ حكم أطراف رجعية تجاهر بمعاداتها للصهيونية على مستوى الخطاب لتوفّر على مستوى ممارستها للحكم الأرضية الملائمة للاختراق الصهيوني لبلادنا على جميع الأصعدة. وهي التي استماتت في إسقاط مشروع قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في ثلاث مناسبات سنة 2012 و2015 وأخيرا في 2018.
لكنّ قضية التطبيع في بلادنا أخذت في انتخابات 2019 منعرجا حاسما بثبوت تورّط أطراف سياسية في التعاقد مع شركات علاقات عامة وإشهار أجنبية بعضها تربطه صلات وطيدة بأجهزة الاستخبارات الصهيونية. ولم يشذّ الرئيس الحالي قيس سعيد عن قاعدة الاستثمار في قضية التطبيع ومناهضة الصهيونية حيث ركّز في حملته الدعائية على اعتبار التطبيع جريمة خيانة عظمى ممّا جلب له تعاطف شرائح واسعة من الناخبين. ولكن على مستوى الممارسة أغمض عينيه تماما على كافة أشكال التطبيع الاقتصادي والثقافي والرياضي ويكتفي كعادته بإشهار لسانه الخشبي.
“المجد للمقاومة،
لقد أقبلوا…
فلا مساومة”
هو البيت الذي وضعه الشاعر الفلسطيني المقاوم معين بسيسو لتصدير أعداد جريدة “المعركة” التي أصدرتها جبهة المقاومة الوطنية سنة 1982 إبّان تصدّيها للاجتياح الصهيوني لبيروت بمعاضدة طابورها الخامس من اللبنانيين. وهو الشعار الذي ينبغي أن يرتفع الآن وهنا في كل عاصمة عربية محتلة من قبل نظام رجعي ما فتئ ينتهك سيادة الأوطان ويمتهن كرامة شعوبها، فإلى المقاومة…
حبيب الزموري