جيلاني الهمامي
يحيي الشعب التونسي وقواه الثورية والتقدمية هذه الأيام الذكرى العاشرة للثورة التي أطاحت بدكتاتورية جثمت على البلاد لعقود من الزمن. في خضمّ الاحتفاء بهذه الذكرى يجرى – ككل سنة – تقييم حصيلة هذه الثورة وتتجه الآراء في ذلك اتجاهات متباينة بل ومتناقضة في أحيان كثيرة. وراء هذا الاختلاف أسباب كثيرة منها المصالح المادية والسياسية وهي في عمقها مصالح طبقية، ومنها الاختلاف في زوايا النظر لما حصل طيلة السنوات العشر المنقضية بعد رحيل بن علي واختلافات في الرؤى الفكرية والمنطلقات النظرية في النظر إلى مسألة الثورة بصفة عامة.
والحقيقة أنّ ما يقع تداوله من تحاليل لطبيعة ما حصل في تونس ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 يحتاج إلى ردود كثيرة ومتنوعة تأتي على مختلف الأفكار والمواقف التي يقع التعبير عنها والتي يسعى أصحابها إلى نشرها وتحويلها إلى حقائق مسلّم بها. ويستغل هؤلاء جوانب من معطيات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن لتبرير تلك الأفكار والمواقف وإضفاء نوع من الوجاهة والمصداقية عليها.
تفاعلا مع ما راج من أطروحات أقتصر في هذه المحاولة على تدقيق بعض المفاهيم التي أُلحق بها الكثير من التشويهات وخاصة تلك المتعلقة بطبيعة الأحداث التي عرفتها بلادنا شتاء 2010 – 2011. أقصد بذلك الجدل الذي حصل حول تعريف الثورة ومفهومها من وجهة نظر ماركسية.
الثّورة مسار ولها شروطها
إنّ الثورة ليست حدثا عرضيا ولا يمكن اختزالها في أحداث لحظة اندلاع الانتفاضة أو التمرد أو العصيان المدني أو نشوب الاحتجاجات وأعمال العنف. بل هي مسار طويل مركّب ومعقّد يمتدّ على فترة طويلة من الزمن تحصل فيه مراكمات كمية تتجسد في معارك طبقية متنوعة جزئية ومحدودة الحجم أو قطاعية وتأخذ طابعا ظرفيا – قد تحقق مكاسب للجماهير التي تخوضها وقد لا تحقق شيئا يذكر – ولكنها في كل الأحوال ترسم على مدى فترة من الزمن ملامح المعركة الحاسمة التي يستحيل قيامها ما لم تتوفر شروطها الموضوعية والذاتية.
فمن الناحية الموضوعية، عامة ما تكون الأزمة الاقتصادية سببا في نشوء أزمة ثورية. معنى ذلك أنّ الجماهير التي تتحمّل ولفترة من الزمن دفع فاتورة تلك الأزمة وهي تتذمر وتشتكي وتعبّر عن استيائها بهذا الشكل أو ذاك تصل إلى الحد الذي تصبح فيه غير مستعدة لمزيد الصبر والتحمّل. بل وتبدي استعدادها لإعلان القيام ضد تلك الأوضاع بصورة صريحة وجريئة. فعلى قدر حدّة الأزمة وخطورتها تتحول إلى أزمة ثورية تتفاقم فيها حالة الغضب العام وتنتقل الجماهير من مجرد التذمر والاستياء إلى التمرد على ظروف عيشها وشقّ عصا الطاعة في وجه السلطة القائمة. وفي الكثير من الحالات – إن لم نقل في كل الحالات – تتسرب إلى صفوف أجهزة الحكم خلافات وصراعات بين مختلف المقاربات التي تظهر في صفوفها حول كيفية مواجهة الوضع. فمنها من يرى في اعتماد القمع والغطرسة السبيل الوحيد لإنقاذ النظام والقضاء على الغضب الشعبي ومنها من يجنح أكثر إلى أسلوب المناورة والمغالطة عبر تقديم تنازلات شكلية وجزئية لامتصاص الغضب وسلّ فتيل الثورة.
وهو ما حصل فعلا أكثر مرة في تونس. فكلّما احتدّت الأزمة الاقتصادية إلاّ وساءت أحوال الناس ودبّ في صفوفهم الغضب وراحوا يعبّرون عن ذلك في حركات احتجاج قطاعية وجهوية قبل أن تعمّ حالة الغضب وتتحوّل الحركة إلى تمرّد عام يهزّ أركان البلاد والنظام القائم. فقبيل 26 جانفي 78 مثلا وفي وقت كان الاقتصاد التونسي يعاني من أزمة حادة انعكست بشكل مأساوي على حياة التونسيين اندلعت حركة إضرابية هنا وهناك إلى أن أدّت إلى الإضراب العام الذي اتخذ طابعا سياسيا. وقد انقسمت البرجوازية بين من يدعو إلى التعاطي مع الحركة الإضرابية الواسعة والغضب العمالي والشعبي العام باعتماد عصا القمع والتعسف (شقّ نويرة والصياح ومن لفّ لفّهم) وبين من كان يدعو إلى امتصاص هذا الغضب باتّباع أسلوب المناورة والتظاهر بالتنازل وإيجاد أرضية تفاهم مع البيروقراطية النقابية التي وجدت في الإضرابات العمالية سلاحا لخوض الصراع مع غريمها شق الصقور في الحكم.
وقد تكررت الحالة أيضا سنة 1984 في أحداث الخبز وكذلك نهاية سنة 2010. وبطبيعة الحال كان للأزمة الاقتصادية سنوات 2008 – 2010 انعكاسات اجتماعية وخيمة مثّلت الأسباب العميقة لاندلاع ثوة 17 ديسمبر – 14 جانفي. وقد بات من تقاليد الحركة الاجتماعية في تونس حدوث هزّات اجتماعية عنيفة وعفوية خاصة في فصل الشتاء تسبقها فترة طويلة من الهدوء يظهر فيها الشعب التونسي مستكينا وخانعا ثم ولأبسط قادح يفجّر في وجه السلطة جام غضبه ونقمته بشكل تعجز عن ترويضه مهما استعملت من عنف وقمع.
غير أنّ هذه الهزات عامة ما تحصل بصورة فجئية وعفوية وعامة ما تكون فاقدة للبرنامج السياسي الملموس وتندلع في غياب عنصر التنظيم والتخطيط. وهو ما حكم عليها دائما بالقصور عن تحقيق أهدافها أو فرض مكاسب ذات بال ترتقي إلى مستوى التضحيات التي يتكبّدها الشعب في كل مرة.
والحقيقة أنه لا غرابة أن تؤول الثورة إلى هذا المآل الأليم كلما كانت تفتقد لشرط آخر – إلى جانب الشرط الموضوعي – ألا وهو الشرط الذاتي أي وجود القيادة السياسية المنظمة والتي تحظى بثقة الجماهير المنتفضة وتتمتع بالقدرة على تنظيم كامل الحركة في تيار واحد تحت راية شعارات وأهداف موحّدة. وتنطبع هذه الأهداف والشعارات، برنامج الثورة، بطابع القوى الاجتماعية التي تخوض المعركة وبطابع طلائعها التي تقودها. وهو ما يمكن اعتباره بوجه ما محدّدا في النجاح والفشل في كل ثورة.
إنّ هذين العاملين هما شرطان متلازمان كي تطمح أي ثورة في الظفر وبلوغ أهدافها. ومن دون ذلك تبقى مهددة بالانتكاس والفشل أمام القوى الرجعية التي تعبّئ كامل طاقتها وكافة أجهزة دولتها لتدافع عن نظامها بفائق الحزم والبطش والجبروت.
الثّورة وأشكالها
تتّخذ الثورة أشكالا متنوعة ومتعددة بحسب الظروف التي تحفّ باندلاعها وبالقوى الاجتماعية التي تخوضها والأهداف التي تحرّكها وبحسب درجة تنظّم الطلائع الطبقية التي تقودها وتؤثر في مجرياتها. ومن البلاهة بمكان أن نحصرها في شكل محدّد ووحيد فكما قال لينين “إنّ التاريخ بوجه عام، وتاريخ الثورات بوجه خاص، لَهُوَ على الدوام أغنى بالمضامين وأكثر تنوّعا وشمولا وأنبض بالحياة و«أكثر روغانا» ممّا تتصوره أحسن الأحزاب وأكثر الطلائع وعيا من أكثر الطبقات تقدما. وذلك أمر مفهوم، لأنّ أفضل الطلائع إنما تُعرب عن وعي وإرادة عشرات الألوف وعن عواطفهم وتخيّلاتهم، بينما تتحقق الثورات في لحظات تفجّر جميع الطاقات البشرية وتوتّرها لدرجة كبيرة، وهي تتحقق بوعي وإرادة وعواطف وتخيّلات عشرات الملايين المدفوعة بأحد الصراع بين الطبقات. وهنا ينبثق استنتاجان عمليان على غاية من الأهمية: الأول، أنه يجب على الطبقة الثورية، من أجل تحقيق مهمتها أن تضطلع بجميع أشكال النشاط الاجتماعي ونواحيه دون استثناء (وبعد الاستيلاء على السلطة السياسية، أن تنجز، أحيانا، بمجازفات كبيرة وأخطار جسيمة، ما لم تنجزه قبل الاستيلاء عليها) والثاني، أنه يجب على الطبقة الثورية أن تكون على استعداد لتنتقل، بأتمّ السرعة والمفاجأة، من شكل إلى شكل آخر. ” ( 1 )
لقد أثارت الثورة في تونس جدلا في أوساط المثقفين والمتشيّعين للفكر الماركسي على وجه أخصّ حول مدلولات ما حدث ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. وامتدّ الخلاف في هذا الجدل إلى مضمون بعض المصطلحات، فثارت حروب كلامية حول “الثورة” و”المسار الثوري” و”الانتفاضة” و”الحراك” وما إلى ذلك من المصطلحات. وبدا وكأنّ الأمر يتعلق فعلا بخلافات نظرية ومبدئية فيما لم تكن هذه الخلافات في غالب الأمر – عدا بعض الحالات – مجرّد ترف فكري ينمّ في كثير من الأحيان عن ضيق أفق بل وربما حتى عن جهل بالماركسية.
والحقيقة أنّ ما ظهر من جدل حول هذه التوصيفات لما جرى في تونس في تلك الفترة لم ينته إلى بلورة مقاربات أعطت لكلّ مصطلح من هذه المصطلحات على حدة معنى متميزا وتصوّرا مخالفا – بالعمق الكافي – لمعاني أخرى ولم يرسم حدود التباين بشكل جليّ. لذلك ما زلت أعتقد أنّ ما عرفته بلادنا مطلع العشرية الحالية هو في ذات الوقت “ثورة” و”مسار ثوري” و”انتفاضة”. فهو “ثورة” بما أنّ الهدف منه كان إسقاط نظام الحكم بصرف النظر عمّا إذا تحقق هذا الهدف فعلا أم لا. علما وأنه منذ الأسبوع الثالث من المواجهات التي عرفتها البلاد آنذاك كان الشعب يهتف بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. وقد بلغ يوم 14 جانفي جانبا من هذا الهدف حيث فرّ رأس النظام الدكتاتور بن علي. وهو في ذات الوقت انتفاضة شعبية تجسّدت في تلك المظاهرات والمسيرات وما صاحبها من مواجهات عنيفة مع قوات البوليس معبّرة عن حالة التمرد العامة التي استبدّت بالشباب وبعموم المتظاهرين ليلا نهارا في أكثر من مكان. وهو أيضا تمرّد وعصيان مدني في نفس الوقت. وهو أخيرا الإضرابات التي شملت مؤسسات إنتاج ومصالح إدارية متنوعة وإضرابات جهوية كانت كلها ذات طابع سياسي للاحتجاج على سلوك السلطة القمعي حيال الحركة الاحتجاجية حتى وإن كانت هذه الإضرابات من تنظيم النقابات ولم ترتق إلى مستوى الإضراب السياسي العام الذي عملت البيروقراطية النقابية ما في وسعها على تلافيه فاستبدلته بإضرابات جهوية بقرار الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل تحت ضغط التمرد العام الذي شمل كل جهات البلاد ومجاراة له. لقد جمعت الثورة كل هذه الاشكال وأدّت معنى كل هذه المصطلحات مجتمعة.
وعدم إدراك هذه الحقيقة هو في نظري ينمّ عن خلط نظري وخطأ منهجي في فهم وتحليل ما جرى في تونس ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. ومن ذهب إلى القول بأنّ الأمر لا يعدو أن يكون انتفاضة، ظنا منه أنّ الانتفاضة هي درجة أدنى من الثورة، فإنه يسقط في هذا الخلط بين الأشكال التي تتّخذها الثورة، أيّ ثورة، ومدلولها السياسي العميق.
الثورة هي عمل نضالي جماهيري راق يهدف إلى تغيير النظام القائم سواء أكان النظام السياسي أي تركيبة السلطة فقط أو نظام العلاقات الاجتماعية القائم. وتقاس نوعية الثورة بمدى عمق التغيير الذي تُجريه على شكل الدولة أو على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية برمّتها. أمّا الشكل الذي تتّخذه الثورة فهو متعدّد ومتنوع ومرتبط بطبيعة القوى التي تشارك فيها وتقودها ويمكن أن تنحصر في شكل محدد أو تجمع بين أشكال متعددة. وبحسب هذه الأشكال يمكن أن تتخذ طابعا سلميا أو أن تنحو نحو العنف. وفي الغالبية العظمى من الحالات عامة ما تكون القوى الاجتماعية المهيمنة والماسكة بالسلطة هي المبادرة باستعمال العنف لتزجّ بالثورة في أتون العنف والعنف المضاد والذي يمكن أن ينقلب بسرعة إلى حرب أهلية وعمل مسلّح.
ولا تقاس الثورة بمدى نجاحها، فمن ينزع عن ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي هذه الصفة إنما يقترف هو الآخر خطأ نظريا فادحا جرّاء الخلط بين المدلول العام للعمل الثوري ونتائجه. إنّ الثورة ليست بالضرورة هي الثورة المظفرة لأنّ نجاح أيّ ثورة مرتبط أشد الارتباط بموازين القوى ساعة اندلاعها وبجملة من العوامل الأخرى.
فما كل ثورة تقوم إلاّ وتنجح بالضرورة حتى تستحق تسميتها بثورة. فكما هي مرشحة للظفر فإنها تبقى مرشحة أيضا للفشل وذلك مرتبط بموازين القوى وقدرة كل من المعسكرين المتصارعين على قلب موازين القوى لصالحه والحفاظ عليها. لذلك يمكن أن تفشل وتعجز عن تحقيق أهدافها أي بلغة أخرى لا تتوصّل إلى إجراء التغيير المطلوب فتبقى السلطة بيد الطبقة أو التحالف الطبقي المهيمن على المجتمع والماسك بجهاز الحكم. ويمكن أيضا أن تحقق الثورة نصف انتصار وتفشل في تحقيق كلّ أهدافها ولا تجري بالتالي إلاّ تغييرا طفيفا على موازين القوى فتحقق فقط جزءً من أهدافها حسب ما تسمح به تلك الموازين. وكما سبق أن قلنا فإنّ الثورة مسار متواصل وهوما يعني أنها يمكن أن تسجّل تقدّما كما تظلّ دوما قابلة للانتكاس والتراجع طالما هنالك صراع بين الطبقات، صراع في كل أبعاده. بل يمكن أن تنجح الثورة ولكن القوى المعادية تستطيع لأسباب متعددة الالتفاف عليها وتقوم بثورة مضادة وتعود بالأوضاع إلى ما قبل الثورة.
ونجد في تاريخ الثورات أمثلة كثيرة على ذلك. ففي فرنسا مثلا التي عرفت ثورات متعاقبة فشلت كلها باستثناء الثورة البرجوازية الكبرى (1789) ولم يمنع ذلك من الحديث عن ثورات، ولم يكن فشل ثورتي 1848 و1871 مبرّرا للقول بإنهما كانتا مجرد انتفاضة أو مسار ثوري كما يحلو للبعض ترديده والذين يتشبثون بنزع عمّا جرى في تونس صفة الثورة.
فما بين 1848 و1852 عاشت فرنسا ثورة عارمة استمرّت لأربع سنوات وشهدت تقلبات عجيبة انطلقت بمطلب أساسي وهو إعادة حق الانتخاب للشعب الفرنسي سرعان ما تطوّر ليصبح المطالبة بالجمهورية الاجتماعية ولينتهي في الأخير إلى الفشل التام وعودة الملكية تحت بونابارت الثاني. لقد رسم ماركس، وبدقة متناهية، في مؤلفه الشهير “18 برومر لويس بونابارت” تفاصيل تعرجات المسار الثوري في فرنسا آنذاك ليستخلص في الأخير قائلا “ولهذا يبدو أنّ فرنسا لم تَنجُ من استبداد طبقة برمّتها إلاّ لتقع تحت استبداد فرد بل وتحت سلطة فرد بلا سلطة. ويبدو أنّ الصراع قد انتهى بحيث أنّ جميع الطبقات، وقد تساوت عجزًا وسكوتًا، جثت على ركبتيها أمام عقب البندقية “( 2 ) بعد أن سرق بونابارت الثورة واستوى امبراطورا جديدا على فرنسا ودفن حلم الجمهورية الاجتماعية بل وحتى الجمهورية من النمط البرجوازي لعقدين من الزمن. ومع ذلك لم يتردد ماركس في الحديث عن “ثورة شهر فيفري” رغم ما آلت إليه قائلا “إنّ ثورة شباط (فيفري) كانت هجومًا مفاجئًا، كانت أخذًا مباغتًا للمجتمع القديم. وقد أشاد الشعب بهذه الضربة غير المتوقعة باعتبارها عملاً ذا أهمية تاريخية عالمية يؤدي بحقبة جديدة. وفي اليوم الثاني من كانون الأول (ديسمبر) تختفي ثورة شباط (فيفري) بين يدي نصاب ماكر ويبدو في النتيجة أنّ ما أطيح به ليس هو الملكية بل التنازلات الليبيرالية التي انتزعتها منها قرون من الكفاح. وبدلاً من أن يظفر المجتمع نفسه لنفسه بمحتوى جديد، بدا أنّ الدولة قد عادت إلى أقدم أشكالها فحسب – إلى السيطرة البدائية العديمة الحياء – سيطرة السيف والقلنسوة الكهنوتية” ( 3 ) .
بعد حوالي 20 سنة من ذلك عاد التاريخ ليكرّر حكمه القاسي وعاد الشعب الفرنسي والطبقة العاملة الباريسية على وجه التحديد لتكرّر التاريخ ويخطّ بأحرف من العرق والدم وبنار السلاح تجربة الكومونة الشهيرة في معركة دامية طوال حوالي ثلاثة أشهر. وامتدّ لهيب الثورة لكل أرجاء فرنسا التي عقدت صفقة استسلامها أمام الجيوش البيسماركية الغازية فابتدع عمال باريس نمط الدولة الجديدة، الكومونة تكريسا حيا “للجمهورية الاجتماعية”. يقول ماركس في مؤلفه “الحرب الأهلية في فرنسا” “إنّ شعار الجمهورية الاجتماعية”، الذي هلّلت به بروليتاريا باريس لثورة شباط (فيفري)، لم يكن إلاّ تعبيرا عن طموح غامض إلى جمهورية ينبغي لها أن تُزيل لا الشكل الملكي للحكم الطبقي فحسب بل الحكم الطبقي ذاته. وجاءت الكومونة الشكل المعني بالذات لتلك الجمهورية ” ( 4 ).
ولكنّ الكومونة لم تكن غير نصر مؤقت لأسباب عدّدها ماركس في ذات المؤلف إذ انقادت الثورة التي بدت في طريق مفتوح لصنع تاريخ جديد لفرنسا بل لكل أوروبا إلى هزيمة نكراء كما سابقاتها من الثورات الفرنسية. إنّ مفارقة الصراع الطبقي في فرنسا هي كما يقول انجلز “فإنّ كلّ ثورة كان ينتصر فيها العمال كان ينشب في أعقابها نضال جديد ينتهي بهزيمتهم” ( 5 ) .
أمّا في روسيا فإنّ ثورة 1905 (وأشدّد على كلمة ثورة) التي كان هدفها الإطاحة بالنظام القيصري الاستبدادي فإنها انتهت إلى اقتلاع نزر قليل من الحريات “أكره القيصر” كما يقول لينين “على إصدار قانون انتخابي جديد يزيد بصورة ملحوظة عدد الناخبين ويعترف بطابع الدوما التشريعي ” ( 6 ) . والمقصود هنا هو دوما بوليغين الذي لم يسبق له أن انعقد أصلا من قبل.
ورغم هزيمة الثورة فإنّ ذلك لم يمنع لينين من القول في نصه الشهير “تقرير عن ثورة 1905 “… ولذا نرى أنّ الثورة في روسيا لم تبلغ فقط الهدف التالي وهو أنها أيقظت نهائيا من السبات أكبر بلد في أوربا وأشد بلدانها تخلفا، وأنشأت شعبا ثوريا تقوده بروليتاريا ثورية. لم تبلغ هذا فقط. فإنّ الثورة الروسية قد استثارت كذلك حركة في عموم آسيا. وتُبيّن الثورات في تركيا وبلاد فارس والصين أنّ الانتفاضة الجبّارة في عام 1905 قد تركت آثارا عميقة وأنّ تأثيرها الذي يتجلّى في تحرك مئات ومئات الملايين من الناس إلى الأمام، إنما يستحيل استئصاله… ” (7) .
وعلى معنى هذه الاستنتاجات ألا يحقّ لنا القول إنّ الثورة التونسية التي كان لها صدى لدى كل الشعوب العربية تقريبا ولدى الكثير من شعوب العالم قد أيقظت هي الأخرى – بقدر ما على غرار الثورة الروسية – الحس الثوري لدى هذه الشعوب والأمم في زمن كانت قد انطلت على أجيال متعاقبة كذبة أفول عهد الثورات وخضوع الإنسانية خضوعا أبديا للنظام الرأسمالي الذي يصارع سكرات أزماته وآخرها أزمة أكتوبر 2008.
وخلاصة القول إنّ ما جعل ماركس وانجلز ولينين يصطلحون على الأحداث التي سقناها كأمثلة بـ”الثورة” رغم فشلها في تحقيق أهدافها، بل رغم الهزيمة التي مُنيت بها، إنما هو ذلك الغضب العارم المنتفض على حياة الهوان والاستغلال والقهر وتلك المبادئ التي تحرّكه وتلك الأهداف التي تعبّئ طاقاته وطاقات الفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير. لكن أن تنجح في ذلك أو تفشل فهو ليس بالأمر المؤكد لمجرد قيامها – أي الثورة – بل هو أمر مرتبط كما سبق أن قلنا بجملة من الظروف المتشابكة والمركبة. فكلما نضجت الظروف الموضوعية والذاتية إلاّ وكان النجاح مضمونا وكلّما اختلّت هذه الشروط آلت النضالات العظيمة إلى الفشل بل وفتحت الباب في الغالبية العظمى من الحالات على مسار من الالتفاف بدرجات متفاوتة من الانتقام والثأر والجرائم. فنجاح الثورة أو فشلها هو في النهاية قضية موازين قوى بين الطبقات المتصارعة، الطبقات القديمة التي تريد استدامة نظامها، نظام الاستغلال والقهر والطبقات الجديد، الطبقة العاملة والفئات الكادحة الحليفة التي تريد افتكاك السلطة السياسية وتغيير نظام العلاقات الاقتصادية والاجتماعية ومجمل جوانب الحياة الأخرى.
لنرى الآن ما إذا كانت هذه العناصر الأساسية متوفرة في الثورة التونسية أم لا لتكون جديرة بأن نعتبرها فعلا ثورة.
إنها وبلا تردد ثورة بقطع النظر عن نتائجها وما قد تؤول إليه هذه النتائج من تراجع أمام مخاطر الفشل والالتفاف التي نراها ماثلة أمامنا في تجليات كثيرة ومتنوعة.
إنها ثورة للأسباب والعوامل والاعتبارات التي أخذها ماركس وانجلز ولينين في الاعتبار عند حكمهم على الثورات التي عايشوها. وأوّل هذه العوامل هي أنها ككل ثورة لم تكن عملا مفتعلا بل كانت لها أسبابها الموضوعية التي حتمتها، وهي الاستبداد والاستغلال الفاحش والفساد والعمالة وهو ما أدّى إلى تفاقم الفوارق الطبقية كما أدّى إلى تفاقم البطالة والتهميش والفقر والتفاوت بين الجهات. وهي العوامل التي أثارت نقمة الشعب التونسي قديما وحديثا فحاول النضال ضدّها وفجّر في وجهها شتاء 2010 – 2011 ثورة عارمة.
إنّ ثورة 14 جانفي ليست حدثا معزولا عما حصل في بلادنا في الستينات والسبعينات والثمانينات وسنة 2008 فيما يُعرف بأحداث الحوض المنجمي هذه الأحداث التي مهدت للثورة راكم خلالها الشعب التونسي تجربة ثرية استخلص منها الدروس التي جعلته هذه المرة يحاول وينجح في المحاولة مؤكدا إصراره على أنه أصبح غير مستعد للعيش تحت قهر النظام واستغلاله وفساده وعمالته.
أمّا العامل الثاني فهو الطابع الشعبي لأحداث الثورة حيث شاركت فيها كل الطبقات والفئات الشعبية المتضررة ماديا ومعنويا من النظام. وإن كان العاطلون عن العمل هم السبّاقون للاحتجاج فإنّ بقية الفئات سرعان ما التحقت بهم أساتذة ومعلمون ومحامين وأخيرا العمال والأجراء وكل فئات الشعب في المدن والأرياف ممّا أعطى للأحداث طابعا عامّا ووطنيا.
العنصر الثالث هو شعارات الثورة التي ترجمت أهدافها ومطالبها. ذلك أنها ركّزت على الإطاحة بنظام الحكم الفاسد (الشعب يريد إسقاط النظام، الشغل استحقاق يا عصابة السراق وغيرها من الشعارات). ورغم القمع والتقتيل تارة والمناورة والتمويه فقد أصرّ الشعب الثائر على بلوغ أهدافه، أي إسقاط رمز الدكتاتورية ورأس النظام وهو ما يميز ثورة 14 جانفي عن الانتفاضات التي سبقتها في 2008 و1984 وغيرها. لقد كانت ثورة حقيقية ذات أهداف وليست مجرد حركة للاحتجاج والتعبير عن الغضب ولا هي حركة محلية أو ظرفية.
لقد أدركت الجماهير في حركتها العفوية جوهر مصالحها فعبّرت عنها بشعاراتها ولكنها أيضا أدركت حقيقة موازين القوى مع النظام القمعي فنظمت احتجاجاتها بشكل فوّت على نظام الحكم رغم كل مساعيه فرصة تحويلها إلى حرب أهلية دامية. إذ لم يستعملوا السلاح ولم ينجرّوا في الغالب إلى أعمال التخريب حيث اقتصرت أعمالهم على مهاجمة مراكز السلطة ورموز النظام والفساد المرتبطين به. وبذلك أثبت الشعب التونسي أنه فجّر ثورة شعبية من أجل نيل الحرية والتخلص من نظام الاستبداد وتحقيق مطامحه في الشغل والكرامة والمساواة والقضاء على التهميش والحقرة.
—————
الهوامش
( 1 ) – لينين، خطتا الاشتراكية في الثورة الديمقراطية الاشتراكية.
( 2 ) – كارل ماركس، 18 برومر لويس بونابارت.
( 3 ) – المصدر السابق.
( 4 ) – كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا.
( 5 ) – فريديك انجلز، مقدمة كتاب الحرب الأهلية في فرنسا.
( 6 ) – لينين، تقرير عن ثورة 1905
( 7 ) – المصدر السابق.