علي البعزاوي
تمرّ هذه الأيام الذكرى العاشرة لثورة الحرية والكرامة في ظلّ أزمة شاملة وخانقة مسّت كلّ أوجه الحياة: اقتصاد معطل – موازين مالية وتجارية مختلّة – أوضاع معيشية وخدمات أساسية متدهورة – تفشّي مريب للعنف والجريمة المنظّمة والفقر المدقع والبطالة – استشراء الفساد في مؤسسات الدولة – صراعات حادة ولا مبدئية بين أطراف الحكم حالت دون استكمال الاستحقاقات الدستورية (المحكمة الدستورية وغيرها…) والاستجابة للانتظارات الدنيا للشعب – تعفّن المشهد البرلماني وبداية تشكّل ائتلاف داعم للحكومة تقوده حركة النهضة رغم فشلها في تشكيل حكومة بقيادتها.
هذا الواقع المتأزّم إلى درجة التعفن دفع بالكثير من التونسيات والتونسيين إلى التشكيك في الثورة وفي جدواها وتحميلها مسؤولية الأزمة معتبرين أنّ أوضاع ما قبل الثورة أفضل على كل المستويات. وإنّ الحل هو في العودة إلى النظام القديم. في حين يرى رأي ثان أنّ الحل هو في استكمال المسار الثوري وتحقيق انتظارات الشعب التونسي خارج المنظومة الحالية وباستقلالية عنها.
حقيقة ما حصل في تونس
إنّ ما جرى يوم 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 هو ثورة شعبية بكل المقاييس، ثورة استهدفت منظومة الحكم باعتبار مسؤوليتها في تردّي أوضاع البلاد عنوانها الأبرز إسقاط الدكتاتورية كمدخل لتحقيق المطالب والانتظارات التي عبّر عنها الشعار المركزي للثورة “شغل حرية كرامة وطنية” تعبيرا مكثفا. لكن موازين القوى بين معسكر النظام القديم بكل مؤسساته وبين معسكر الثورة ظلت مختلة لصالح الأول المدعوم من القوى الاستعمارية والإقليمية التي لعبت دورا أساسيا في الاكتفاء بمنجز الحريات السياسية (أي تغيير شكل السلطة) مع الحفاظ على الجوهر الطبقي للنظام من خلال الإبقاء على نفس الخيارات الرأسمالية التابعة الخادمة لمصالحها الاستراتيجية ومصالح أدواتها المحلية.
إنّ أحزاب النهضة ونداء تونس ومشتقاته وحزب سليم الرياحي وقلب تونس وتيار المحبة وائتلاف الكرامة التي احتلت المشهد هي أحزاب تعمل في ركاب البورجوازية الكبيرة العميلة وتعبّر بهذا القدر أو ذاك ومن زوايا مختلفة عن مصالحها. وهي أحزاب مكرّسة للاستغلال والتبعية وراعية للفساد باعتباره شكلا من أشكال خدمة اللوبيات. وصراعات هذه الأحزاب فيما بينها تتمّ من زاوية مساعي الاستحواذ على السلطة في إطار الدفاع عن نفس الخيارات سابقة الذكر مع تغييرات شكلية تتعلق بالولاء خارجيا لهذا الطرف على حساب طرف آخر ومحليا خدمة هذه الفئة من الكمبرادور على حساب فئات أخرى.
النظام القديم يحاول استغلال الأزمة
إنّ انحصار الصراع بين الأطراف اليمينية على اختلاف مشاربها وتنامي الشعور بأنّ هذه الأطراف، رغم سيطرتها على الحكم لا تملك الحلول الكفيلة بمعالجة الأزمة، وضعف القوى الثورية والتقدمية التي تعيش حالة تراجع وانحصار، وهشاشة القوى الوسطية الإصلاحية التي سلكت تكتيك التذيّل للأحزاب الكبرى، ساعدت على تنامي فكرة العداء للثورة وتحميلها مسؤولية الحصيلة السلبية.
لقد استغلّ الحزب الدستوري الحر، سليل التجمع الدستوري الديمقراطي المدعوم من قوى النظام القديم وخاصة في الأوساط الإعلامية التي تربّت في أحضان الدكتاتورية، هذه المناخات لخلق استقطاب جديد معتمدا على تكتيك استهداف حركة النهضة المسؤولة الأولى عن الأزمة التي تضرب البلاد. وقد نجح نسبيا في شيطنة الثورة وفي إقناع جزء من الرأي العام بأنّ ما حصل مؤامرة وانقلاب مدبّر ضد الدولة الحداثية التي أسّسها بورقيبة ورعاها بن علي مستغلا تردي الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية وتنامي الفقر والبؤس والأعمال الإرهابية التي تُطلّ علينا بين الفينة والأخرى ومخاطر تفكيك الدولة من طرف الإسلام السياسي ممثلا في حزب النهضة ومشتقاته وإمكانية استفراده بالحكم وتفشي الفساد… وإنّ الحل هو في عودة النظام القديم أوّلا إلى سدّ الطريق أمام الإسلام السياسي وثانيا للخروج من الأزمة والعودة إلى الاستقرار.
لابدّ من وضع النّقاط على الحروف
أوّلا، لابدّ من التأكيد على أنّ مكسب الحريات السياسية الذي فرضه الشعب التونسي ليس بالمسألة الهيّنة خاصة وأنّ الدكتاتورية شكّلت طيلة عقود من الزمن المعرقل الأساسي للتنمية والتقدم ولكلّ أشكال الإبداع في مختلف المستويات الفكرية والسياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية. عديد الطاقات والقدرات تعطّلت بسبب هذه الدكتاتورية اللعينة ومن غير المعقول اليوم التفريط في هذا المكسب المهم.
بل المطلوب هو دعمه وتوسيعه لتحقيق باقي الانتظارات. والأكيد أنّ مطالب التشغيل والتنمية والخدمات الأساسية الراقية وبلورة الأفكار والمشاريع التي يمكن أن تساهم في عملية النهوض ترتبط وثيق الارتباط بالحريات السياسية بل تعتبر هذه الأخيرة الشرط الضروري لذلك.
ثانيا، إنّ الفشل في تحقيق الانتظارات على مستوى التنمية الجهوية والمحلية والتشغيل والخدمات الصحية والتربوية والثقافية والبيئية وإصلاح المؤسسات بتطهيرها من عناصر الاستبداد والفساد الخ.. لا تتحمّل مسؤوليتها الثورة بل الأحزاب والمجموعات التي أفرزتها الانتخابات على أساس برامج تدّعي تحقيق التنمية والتشغيل. هذه الأحزاب وفي مقدمتها النهضة ونداء تونس ومشتقاته خيّرت انتهاج نفس الخيارات اللاّشعبية واللاّوطنية للنظام القديم التي كانت سببا في خراب البلاد واندلاع الثورة وتنكّرت للبرامج التي أعلنتها بكل وقاحة عبر حملاتها الانتخابية.
ثالثا، إنّ مستوى الوعي المتدنّي الذي عليه الشعب التونسي الذي أفرزته حالة التصحّر الفكري والسياسي والثقافي والقمع البوليسي وغياب الحياة الحزبية والجمعياتية الطبيعية الذي عاشه في عهدي بورقيبة وبن علي قاد إلى ترجيح الكفة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية لصالح الأحزاب اليمينية والإصلاحية الأكثر قدرات مالية ودعما إعلاميا وخارجيا. والشعب التونسي يتحمّل من هذه الزاوية مسؤولية هذه النتائج سواء بالتصويت لأحزاب اليمين أو بمقاطعة الانتخابات بتعلّة رفض “السيستام”.
رابعا، إنّ القوى القادرة على الخروج بالبلاد من أزمتها هي القوى التي تتوفر على برنامج إنقاذ حقيقي اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي، برنامج لا علاقة له بالخيارات القديمة التي تأكّد إفلاسها وانتهت بسقوط النظام النوفمبري ولا علاقة له بالإسلام السياسي بمختلف تلويناته الذي أكّدت عشرية الثورة عجزه وفشله في فتح أبواب الأمل أمام الشعب التونسي والاستجابة لانتظاراته الدنيا ولا بالشعبوية اليمينية التي تُطلّ اليوم بأشكال مختلفة محاولة الاستفادة من تعطّل المنظومة الجديدة لكنها اكتفت بالجمل والشعارات الغوغائية.
خامسا، إنّ البرنامج البديل المختلف عن البرامج والخيارات السابقة بحاجة إلى البلورة والتوضيح على نطاق واسع حتى تتبنّاه الأغلبية الشعبية بما فيها الذين قاطعوا الانتخابات في كل جولاتها تحت شعار رفض “السيستام” باعتبار أنّ هذا البرنامج هو مشروعها المنقذ والحل الجذري الذي سيوفّر لها مزيد الحرية والشغل والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية بمعناها الواسع (عدالة بين الفئات والجهات أيضا) والكرامة الوطنية، أي سيادة الشعب على ثروات بلاده وعلى قراره السياسي المستقل بعيدا عن كل أشكال التبعية.
الشعب التونسي بكلّ فئاته وطبقاته باستثناء فئة السماسرة أعداء الشعب والثورة مطالب بلعب دور أساسي في الإنقاذ والخروج من الأزمة بالانتصار للمشروع الوطني والديمقراطي والاجتماعي والشعبي الذي يعبّر بالفعل عن مصالحه الآنية والبعيدة ويضمن لتونس الازدهار الاقتصادي والرقيّ الاجتماعي.
العلاقة جدلية بين الشعب والقوى السياسية والمدنية المعبّرة عن هذا المشروع الجديد. وعلى هذه الأخيرة تحمّل مسؤولياتها في المبادرة ببلورة هذا المشروع والتعريف به على نطاق واسع والدعاية له والإقناع به في خضمّ الالتحام بالشعب عبر تبنّي مطالبه المباشرة والارتقاء بوعيه من خلال تجربته الذاتية.
المشروع الوطني الديمقراطي الاجتماعي الشعبي يتبلور ويكتمل في إطار الصراع الشعبي الواسع ضد منظومة التبعية والاستغلال والفساد الحالية وفي قطيعة مع المنظومة القديمة التي تحاول التسلل والعودة من خلال فشل المنظومة الحالية، وفي إطار شراكة واسعة مع الشعب وقواه الحية الباحث عن ضوء في آخر النّفق.
الشعب التونسي بحاجة إلى تعديل بوصلته على الجديد والنظر إلى الأمام لا إلى الخلف والقطع مع كل جيف الماضي والحاضر التي أثبتت التجربة فشلها وعجزها والتفكير والبحث خارج هذا الاستقطاب الثنائي المغشوش الذي تُروّج له بعض وسائل الإعلام المأجورة. والمعركة لابدّ أن تتنزّل في سياق المشاريع والخيارات وفي علاقة بالشعب الذي حان الوقت لأن يأخذ مصيره بأيديه.