علي بنجدو/مناضل يساري مستقل
ونحن نحيي الذكرى العاشرة للثورة التونسية تتباين وتختلف مقاربات وزوايا وخلفيات التقدير والتقييم لهذه السنوات التي انقضت بعد بداية المسار الثوري في تونس 17 ديسمبر/14جانفي. ويُعزى هذا التباين في دوافعه المحددة له إلى سببين أساسيين هما طبيعة الموقف الايديولوجي-السياسي الذي تلتزمه هذه الجهة أو تلك من حدث الثورة في حد ذاته وما تلاه وتخلله من منعرجات. وها هنا يكون مكمن الاختلاف ودلالاته السياسية. فمن صنع الثورة وخطّها بجهده وحتى بدمه غير من رفض هذه الثورة وتوجّس من حدوثها ومآلاتها منذ لحظة بدئها. والسبب الثاني يتعلق بالمصالح التي يمكن أن تستهدفها الثورة. ولأنّ الثورة في منطقها التاريخي الخاص ليست حالة فجئية بقدر ما هي تراكم أحداث ومنعرجات وفعل مثابرة دائمة ضد بنية نظام بأكمله تتخلله الانتصارات والهزائم في حيز زمني وجغرافي محددين فإنّ حدث الثورة 14 جانفي 2011 كان امتدادا ﻷحداث ثورية كبرى في تاريخ تونس عبّرت بمعنى ما وبمعطيات التاريخ عن فعل تراكمي ثوري (شعبي أحيانا ونخبوي/طليعي أحيانا أخرى) لمقاومة استبداد الدولة الطبقية. فلا أحد بإمكانه أن يُنكر أنّ جانفي 1978 وأنّ جانفي 1984 وأنّ نضالات الحوض المنجمي 2008 وغيرها من لحظات الحلم الثوري كانت جميعها محطات نضال اجتماعي/طبقي فارقة في التأسيس لحالة ثورية بعنوان ثورة هي ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي…
ولأنّ اليسار في حضوره النوعي كان محدّدا سياسيا أساسيا في مسار ثورة تونس منذ عشية 17 ديسمبر على تنوّع روافد المقاومة التي انخرط فيها ووجّهها (نقابيين، طلبة، تلاميذ، مهمشين ومعطلين، نساء وجامعيين ومبدعين…)، فإنه يحقّ لهذا اليسار بكل فصائله ومجموعاته وأحزابه أن يقيّم تجربة المسار الثوري الحاصلة إلى اللحظة بما فيها ممارسته وسلوكه السياسي ومواقفه وتعاطيه مع المسائل الكبرى والتفاصيل ذات الصلة ومن بعدها استخلاص الدروس الضرورية…
اليسار والثّورة في تونس: الحضور وحدود الفعل السّياسي
في سردية ثورية حيّة وحالمة كثّف ونوّع مناضلو اليسار التونسي الجذري أشكال وصيغ حضورهم ونشاطهم السياسي والميداني. وطبع حضورهم مشهد المقاومة الشعبية للدكتاتورية في أغلب مدن تونس وقراها والتحضير لإسقاطها منذ حادثة حرق الشهيد البوعزيزي لجسده يوم 17ديسمبر 2010 بمدينة بوزيد. فالطلبة والتلاميذ والنقابيون من مختلف القطاعات وقبلهم المناضلون التاريخيون لليسار التونسي كانوا جزء أساسيا من هذا الانتفاض الثوري الذي دفع باتجاه تعميم مقاومة نظام الاستبداد وتسليح هذه المقاومة بشعارات سياسية واجتماعية.
في هذا السياق لم يكن اليسار وافدا على الثورة من خارجها كما لم يكن من ركبها أو المستثمرين فيها بشكل انتهازي، وإنما كان طرفا منخرطا في كل حراكها بدء من المساهمة في تأطير المواجهات الشعبية مع بوليس بن علي وتوسيع نطاقها الجغرافي/المدني وتصليبها وتجذيرها أكثر فأكثر لتصبح الاحتجاجات مطالبة بإسقاط النظام إلى تكوين لجان حماية الثورة في الأحياء والقرى إلى إنجاز مجلس حماية الثورة وإنجاز اعتصامي القصبة الاول والثاني وما تخللهما من تكثيف سياسي ثوري للمطالب ومنها انتخاب المجلس التأسيسي والدفع باتجاه القطع النهائي مع منظومة الحكم القديمة بكل مؤسساتها السياسية والتشريعية والتنفيذية وإرساء نظام حكم جديد يحدّده الدستور الذي سيصدر لاحقا عن المجلس التّأسيسي في 26 جانفي 2014.
ورغم أنّ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي مثّلت لحظة خلاف سياسي حقيقي داخل اليسار بين تصوّرين متعارضين، أحدهما يقدّر أنه لا مجال لتغيير جذري لبنية نظام ما قبل الثورة من داخل مؤسسات هذا النظام وشرعيته المزعومة بما فيها دستور 1959. والثاني يقدّر أنّ الحلّ يكمن في هيئة سياسية/قانونية/تمثيلية تُستدعى إليها الأحزاب والمنظمات والشخصيات الوطنية لتحقيق شروط انتقال سياسي سلس خارج حدود الطرح السياسي الثوري الجذري وبتعلة خلق كل ممهدات انتقال ديمقراطي بلا عنف ثوري وبلا احتكام لمخرجات يمكن أن تصدر عن مجلس حماية الثورة على الأقل في ما يتصل بالطرح الثوري الجذري الذي مثله لفترة شق مهم من اليسار قبل أن تسطو عليه حركة النهضة والمجاميع السلفية المرتبطة بها.
ورغم ان هيئة بن عاشور سببت انقساما في تعاطي اليسار مع اللحظة الثورية فإنّ هذا اليسار لملم جراحه من جديد وتجاوز خلافاته التاريخية والمستجدة لتتوحد جلّ فصائله في تجربة أولى للجبهة الشعبية ثم لاحقا في الجبهة الشعبية لتحقيق الثورة التي تأسست رسميا في 7 أكتوبر 2012 لتستمرّ بجلّ مكوناتها لمدة سبع سنوات قبل أن يتمّ حلّها لاحقا في 2019 بسبب خلافات سياسية لا يتسع هذا المقال لذكر أسبابها وتداعياتها.
اليسار التونسي على مدى هذه السنوات خاض تجارب نضال متنوعة الأشكال والصيغ. وطبع أهمّ لحظات المسار الثوري بحضوره كقطب سياسي وطني وكنواة أساسية للمعارضة الراديكالية ضدّ كلّ حكومات الالتفاف على الثورة والعملاء واليمين بمختلف تشكّلاته الايديوبوجية والسياسية والمافيوزية. وتحكم إلى حدّ ما بنبض الشارع والاحتجاجات الاجتماعية ضدّ الحقرة والفساد وسياسات الحيف الطبقي والميز الجنسي وتهديد الحريات وقيم المواطنة… لهذه الأسباب وﻷسباب أخرى (أجندات اقليمية ودولية ضدّ أن تتحوّل الحالة الثورية في تونس إلى مرجع للثورات الأخرى في المنطقة العربية) دفع اليسار ثمنا غاليا منه اغتيال قياديّين بارزين من القامات الفاعلة في المسار الثوري منذ بدئه، هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي… هذا اليسار أصاب في تمثّل وتشخيص كلّ مظاهر الفساد والفشل وارتهان حكومات الالتفاف على الثورة للأجندات الاقتصادية والمالية ومراكز النفوذ والتحكم الامبريالي. وخاض كلّ معاركه في هذا الاتجاه.
ونجح في طرح البدائل الشعبية والوطنية الملائمة. ورفع كلمة “ديقاج” حيث يجب أن ترفع بكل رمزيتها ومخزونها الدلالي الثوري في وجه من أخطأ في حق الشعب والوطن. ولكنه أخطأ في تحويل هذه المراكمة السياسية الثورية إلى حلقات مترابطة من التكتيك السياسي الثوري المتلائمة مع تعرّجات المسار الثوري ومع تقلّبات موازين القوى ومع مواطن العجز والفشل التي ميّزت أداء الحكومات المتلاحقة. ولم يستغلّ النسق المتصاعد للاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية هنا وهناك. كما لم يحقّق الانغراس المطلوب في الحيّز الاجتماعي/الطبقي. وظلّ خطابه السياسي والاتّصالي وبعض مواقفه تعكس حالة من التردّد وملاحقة اﻷحداث في ما يشبه ردود الأفعال وارتجالية الفعل والعفوية. وإن شئنا ملامسة مواطن قصور التكتيك وأخطاء التقدير السياسي يمكن العودة إلى اعتصام الرحيل الذي مثّل لحظة فارقة في رسم معالم انتصار ظرفي لقوى الثورة المضادة. وقد شكّل نداء تونس وحركة النهضة قطباها السياسيان الأساسيان لما بعد اعتصام الرحيل.
فرغم أنّ الجبهة الشعبية هي من دعا إلى هذا الاعتصام بهدف حلّ المجلس التأسيسي وإسقاط حكومة الترويكا وفرض اعتصام أمام مجلس نواب الشعب لهذا الغرض قبل حادثة اغتيال الشهيد محمد البراهمي وحتى قبل التحاق بعض القوى السياسية الديمقراطية والوسطية لتبني جزء من برنامج اللحظة الذي طرحته الجبهة فإنّ نداء تونس الذي حضر متأخرا إلى الاجتماع الذي دعت إليه الجبهة في مقر حزب العمال يوم 25 جويلية (حضر في شخصي الطيب البكوش ورضا بلحاج) لم يكن له تقدير أو موقف خاص به غير المصادقة على البيان الذي أعدّته قيادة الجبهة وتُلِي أمام كلّ من حضر في تلك اللحظة.
وحتى لا نغرق كثيرا في التفاصيل ومن باب النقد الذاتي والعودة إلى سياق سياسي مازال يكتنفه الغموض وتعدّد الروايات، فإنه يمكن القول بإيجاز إنّ نداء تونس في تلك اللحظة غلّب اعتبار أو هدف إعادة نفسه إلى الساحة السياسية من داخل مشروعية اعتصام الرحيل وما طرحه من مهام سياسية ضدّ تغوّل الترويكا والإسلام السياسي حتى يظهر في مظهر الحزب الوطني المنحاز إلى مسار الثورة… الاستخلاص الذي يُبنى على هذه المقدمة هو أنّ نداء تونس انخرط في هذا الاعتصام سياسيا ولوجستيا وبكلّ الإمكانات البشرية والتنظيمية والتقنية التي توفرت له في ذاك السياق وهو يرتّب أوراقه وأهدافه لما بعد اعتصام الرحيل بما في ذلك سياسة التوافق وتشكيل مشهد حكم جديد قطباه نداء تونس وحركة النهضة، مع إسناد جلي من بقايا التجمع والدولة العميقة والأحزاب والشخصيات الليبرالية التي اختزلت مسار الثورة وأهدافها في انتقال ديمقراطي برجوازي بلا مضامين اقتصادية واجتماعية طبقية.
وإذا عدنا إلى مواطن الخلل في تقدير اليسار الذي دعا إلى إسقاط حكومة الترويكا ووظّف كلّ إمكاناته السياسية والتعبوية لإنجاح اعتصام الرحيل فإنه يمكن الإقرار بأنّ اليسار كان بمقدوره في ذاك السياق التنبّه إلى ما يُضمره نداء تونس من أجندا سياسية مبيتة (الحوار الوطني، تقاسم الحكم مع حركة النهضة…) خاصة بعد حادثتي رفض الباجي قائد السبسي افتكاك جبهة الإنقاذ لمراكز السيادة في الولايات، إلى جانب لقائه راشد الغنوشي في باريس في ما يشبه الانقلاب على الاتفاقات الحاصلة صلب هذه الجبهة.
لقد كان استثمار نداء تونس في مخرجات اعتصام الرحيل مدخلا سياسيا لتحديد جزء من مآلات الوضع السياسي في تونس المسار الثوري، وضع سياسي تتحكم فيه وتحدّد معالمه العامة قوى يمينية رجعية حاكمة تتفق على الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية وتلتقي عند التفريط في السيادة الوطنية ومزيد رهن البلاد لقوى هيمنية اقتصادية وسياسية استعمارية ليس من مصلحتها تجذير المنجز الثوري التونسي. مضت الآن على تجربة جبهة الانقاذ وما تلاها من محطة انتخابات تشريعية ورئاسية2014 وحوار وطني برعاية الرباعي الراعي للحوار ست سنوات راوح فيها المسار الثوري بين النهوض والتراجع وتعمّقت فيها أزمة متشابكة الأضلع والأبعاد، وإذا كان من البديهي الحديث عن أزمة تعيشها منظومة الحكم بجميع مؤسساتها هي بالدرجة الأهم، أزمة مصالح ولوبيات متصارعة وأزمة خيارات وتوجهات اقتصادية واجتماعية، أزمة تتمظهر وتعبّر عن نفسها في حالة قصوى من السقوط الأخلاقي والقيمي، أزمة ذات استتباعات كارثية مأساوية على ظروف حياة الطبقات الاجتماعية المفقّرة والكادحة فإنّه من التحصيل الحاصل أيضا القول إنّ أزمة المسار الثوري هي أيضا أزمة معارضة طبقية وطنية راديكالية قادرة على تغيير موازين القوى السياسية وعلى التصدي لكل النزعات والاتجاهات الشعبوية التي استفادت كثيرا من حالة الفراغ السياسي ودفعت باتجاه تغذية وتعميق المزاج الشعبي المضاد للسياسة والسياسيين دونما انتباه للاختلاف بين من هم أصدقاء الشعب ومن هم أعداؤه.
الاستخلاصات والدّروس
إنّ المسار الثوري، بما حالة فعل تاريخي إنساني لقوى طبقية متصارعة وبما هو حلقات متتابعة ومتشابكة من الانتصارات والإخفاقات بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة وبما هو أحداث ووقائع يومية تنتج من داخل منطقها الخاص أشكالا جديدة للمواجهة والمقاومة والإبداع والجمالية… إنّ المسار الثوري بهكذا خاصيات سيظلّ مسارا تراكميا مفتوحا على كل صيغ التجديد والتطوير والإبداع. وهو ما يفترض بالضرورة أن يكون الفعل النضالي الطبقي الوطني لليسار فعلا يوميا تشاركيا بعيدا عن الانعزالية والطفولية اليسراوية. يصهر الطاقات ويحدّد الأهداف الآنية والبعيدة بكل موضوعية وقدرة على الاستباق والتوقع وإبداع الأشكال والصيغ السياسية والتنظيمية التشاركية والأفقية باستقلال تام عن القوى الطبقية والسياسية المهيمنة والمحافظة.
وما هو مطروح على اليسار الآن وهنا هو أن يمارس نقدا ذاتيا لمنجزه التاريخي لينهض من جديد وأن يكون هذا النقد متبوعا بالقطع مع السلوك العصبوي والانعزالي وبتطوير وتثوير بُناه الهيكلية والتنظيمية وتوظيف كل التقنيات الاتصالية والرقمية والدفع باتجاه تحويل مشروع اليسار موضوعيا إلى مشروع بنّاء مجتمعي قوامه العدالة الاجتماعية وتحقيق الحرية والمواطنة الكاملة وسيادة الشعب على أرضه وثروته ومصيره.
علي بنجدو/مناضل يساري مستقل