لم يكن إحياء الذكرى العاشرة لانتصار الشعب التونسي على الدكتاتورية إحياء عاديا بكل المقاييس. فلئن جادت قريحة الحكومة بإعلان الحجر الصحي الشامل لمدة أربعة أيام بدأت يوم الذكرى/الرمز فهمه العديد أنه لقطع الطريق أمام التحركات التي بانت مقدماتها منذ مدة. ولئن ارتاحت مجمل منظومة الثورة المضادة لهذا الحجر السياسي المقنع، فإنّ الجماهير الشعبية كان لها رأي آخر. فمع الساعة الصفر لانطلاق حظر التجول اندلعت مواجهات في سوسة والعاصمة وبنزرت. مواجهات كان سببها المباشر التدخل الأمني الفضّ لفرض الحجر.
وكان ذلك منذ دقائقه الأولى. لقد لاحظ العديد وأحسّ أنّ تدخّل الأمن فيه مبالغة في الغلظة والعنف وفهم الناس أنّ تعليمات وزير الداخلية الذي هو رئيس الحكومة، من يقف وراء ذلك، فالمشيشي منذ ولوجه وزارة الداخلية في حكومة الفخفاخ زادت مظاهر عنف البوليس التي طالت الشباب المحتجّ. كما طالت النقابيين والصحفيين والدكاترة المحتجين… وبطبيعة الحال كان ردّ الشباب في الأحياء الشعبية متناسبا مع تدخل البوليس، وانتشر الاحتجاج كالنار في الهشيم بادئا الخريطة هذه المرة من رأسها، نازلا بها إلى كامل جسد تونس المنهك، فسوسيولوجيا الغضب والاحتجاج تغيرت هذه المرة. فلم تكن الشرارة من قفصة وبوزيد والقصرين…، أي مناطق الهامش الأكثر فقرا لتتوسع تدريجيا وتكون نهايتها العاصمة. لقد انقلبت الصورة النمطية التي رافقت تاريخ الاحتجاج في بلادنا منذ قرون لتبدأ من العاصمة على بعد أمتار من مراكز القرار والسيادة.
وبطبيعة الحال انبرت الأقلام المأجورة المستعدة دائما للعب أقذر الأدوار وأوسخها في مثل هكذا أوضاع وبدأت حملة التشويه. وزادت هذه الأقلام شراسة بمزيد اتساع رقعة الخروج الليلي والمصادمات، فيما عبّرت أحزاب المنظومة عن وجهات نظر متطابقة تؤكّد تطابقها الطبقي. فالنهضة وقلب تونس والدستوري الحر، كلها تعتبر ما يجري أعمالا إجرامية ومشبوهة لمنحرفين..وقذفت بياناتها أقذر التعابير التي لا تعبّر سوى عن الجوهر الاقتصادي/الاجتماعي الموحد لهذه القوى مهما ادّعت الاختلاف. لقد نهلت هذه الأحزاب من معجم بن علي وبطانته وصحافته وتلفزته وأحزابه حين انهالت على ثورة الشعب وقبلها انتفاضة الحوض المنجمي، بكونها أعمال شغب وفوضى وإجرام واعتداءات وملثّمين ومزطولين… وانتظمت نوع من الحملة تدعو إلى التحركات النهارية، لكنها حين خرجت بوجوه مكشوفة بجهد واضح من القوى الثورية والتقدمية وجدت نفس العصا ونفس الإدانة، وكان عدد موقوفي النهار مثل عدد موقوفي الليل.
حول دلالات تحرّكات اللّيل
ما لا يريد الانتباه إليه أنصار الحكومة وخدم البرجوازية هو أنّ دلالات الليل والنهار تختلف من فئة اجتماعية إلى أخرى. فالنهار عنوان الحركة المنظمة في العمل والراحة والنضال… فقط للفئات المنتظمة اجتماعيا مثل العمال والموظفين والطلبة…، أمّا الليل فإضافة إلى كونه وقت الحركة لفئات ووظائف متعددة، فإنه أيضا مجال الحياة للمهمّشين، أي تلك الآلاف التي تعيش على هامش المجتمع والحياة الاجتماعية. إنها الفئات الأكثر فقرا وتعاسة واحتياجا، إنهم الـ600 ألف معطل بمن فيهم أصحابا الشهادات مضافا إليهم أكثر من نصف مليون من عمال قطاع السياحة المسرّحين و200 ألف من عمال المقاهي الذين أصبحوا معطلين…، وهؤلاء في أغلبهم منحدرين من الـ100 ألف الذين تلفظهم المدارس والمعاهد كل عام دون أية شهادة.
إنّ هذه الفئات تعيش الإملاق والتعاسة طيلة العام حتى في فترات “الاستقرار والرخاء” فما بالك بوضع اقتصادي كارثي حتى على بعض شرائح البرجوازية الكبيرة التي تأثرت مصالحها من الركود والانكماش الاقتصادي الذي فرضته الأزمة الاقتصادية العالمية للرأسمالية إضافة إلى تداعيات الكورونا. إنّ هذه الفئات تشكّل أحزمة الفقر والانفجار، وجزء منها يشكّل احتياطي الجريمة والإرهاب…، وفي المواعيد الانتخابية والسياسية المهمة تنتدب “الأحزاب الكبرى” أحزمتها العنيفة من هذه الأحياء، أحزمة تشترى وتباع لتجلب الآلاف للتصويت للأحزاب المتربعة منذ عشر سنوات على كرسي الحكم. هذه الفئات اليوم تعيش الجوع بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهي تخرج اليوم لتردّ الفعل على من وعدها بأنّ الثورة ستحقّق لهم كل مطالبها. هذه المطالب التي يعيشون تبخّرها كل يوم، هم يخرجون بعد أن دمّرهم الانتظار والوهم بـ”لعل غدوة خير”. يخرجون ليفعلوا كل شيء، كل شيء.
إنّ خروج هؤلاء ليس بدعة ولا سابقة، ففي كل بلدان العالم وعلى مرّ التاريخ كانت حركات الاحتجاج تخرج نهارا وليلا، والخروج الليلي ليس حكرا على المهمّشين. بل حتى الحركات المنظمة والثورية تخرج ليلا لأسباب عديدة. ففي فرنسا ارتبطت احتجاجات الضواحي الباريسية بالتحركات الليلية وهي خاصية شبه ثابتة لهذه التحركات التي تُعزى إلى أوضاع المهمّشين، وأيضا إلى نزوعهم نحو عدم التعرف عليهم من قبل البوليس خاصة وأنّ العديد منهم “إقامتهم غير قانونية”. وفي أمريكا الجنوبية مارست الأحياء الشعبية التي يقطنها الملايين في البرازيل والمكسيك وكولومبيا والشيلي.. الخروج الليلي لتحقيق الغلبة على جحافل البوليس الموغل في العنف والبربرية. وفي انتفاضة الحوض المنجمي مثل أحداث الثورة خرج الناس ليلا للاحتجاج والغضب. ونحن نرى هذه الممارسة في كل بلدان العالم بما فيها البلدان المسماة “عريقة في الديمقراطية” فضلا عن البلدان “العريقة في الاستبداد”.
عن الجوهر والأعراض
على أنه من المهم الانتباه إلى أنّ خدم السلطة وبعض الفئات المحافظة في المجتمع رغم الأضرار الجسيمة الحاصلة في أوضاعها الاجتماعية، تريد التركيز على المظاهر العرضية على حساب جوهر الأمور. إنّ الجوهري هو الوقوف على الأسباب الأصلية والفعلية الواقفة وراء هذه الاحتجاجات. وهي أسباب مادية حقيقة وليست مفتعلة. إنّ هذه الفئات تعيش ضنك العيش لذلك تخرج للتعبير عن غضبها ورفضها للسياسات المتّبعة، والجوهري الذي يتهرب مثقفو البلاط وخدم السلطة من إثارته، هل أنّ لهؤلاء الحق في الحياة الكريمة أم لا؟ هل لهم الحق في الشغل أم لا؟ إلى متى سيظلون في قاعة الانتظار خاصة وأنهم هم وقود الثورة التي أطاحت الدكتاتورية وقدمت البلاد على طبق من ذهب للمافيا الجديدة؟
أمّا الأعراض فهي الأعمال التخريبية والإجرامية التي تحدث من أفراد أو عصابات والتي تتفنّن القنوات التلفزية وصحافة رأس المال في إبرازها واعتبارها هي ما يَخرج المهمّشون من أجله ليلا، هؤلاء المهمّشون الذين يصبح اسمهم “عصابات إجرامية”. وعوض العمل على الوقوف على الأسباب لا يتوانى الخدم عن رفع العقيرة بالصياح من أجل قبضة أمنية وعسكرية وقضائية أشدّ. لكن عصابات الحكم التي تنهب البلاد وتمصّ دم شعبها هي اليوم بصدد تعميق كلّ شروط الثورة من جديد. فالبرجوازية باختياراتها وبسلوكها الغبي وقبضتها الأمنية تخلق الثورة وتدفعها إلى الأمام. إنها فرصة تاريخية أمام شعب تونس وقواها الثورية الحقيقية أن يتمّ تصحيح الأوضاع بتجاوز نقائص وثغرات وإخلالات ثورة 10/2011 التي غاب فيها الوعي الحاد الذي يطرح الحلول الجذرية، والتنظيم الذي يعبّئ الشعب ويصهر إرادته ويوحّدها من أجل تحقيق مطالبه، كل مطالبه التي لن تتحقق إلاّ من خلاله لا من خلال القوى الرجعية الظلامية والشعبوية والتجمعية.
علي الجلولي