حسين الرحيلي
مضت عشرة سنوات على انطلاق المسار الثوري17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011، هذا المسار الثوري الذي تمّ إجهاضه من قبل القوى الظلامية المتكونة أساسا من الإسلام السياسي وحلفائه من اليمين الرجعي من زبانية النظام القديم من ناحية، وبسبب ضعف القوى الثورية والتقدمية التي لم تكن في مستوى اللحظة الثورية التي قدمها لها الشعب من ناحية أخرى. ولقد كان من نتائج هذا الإجهاض للمسار الثوري أن تحوّل شعاره “شغل حرية كرامة وطنية” إلى وهم ولعنة. فلم يتوفّر الشغل للمعطلين، وأصبحت الحريات الفردية والجماعية مهدّدة وخاصة المتعلقة بحرية المرأة. أمّا الكرامة الوطنية فقد مرّغها الظلاميّون ومن تحالفوا معهم في وحل العمالة والتبعية، والتطبيع مع الصهيونية العالمية.
وإذا أردنا أن نقيّم حصيلة عشر سنوات على انطلاق هذا المسار الثوري، فإنه يمكننا أن نكتب كتابا كاملا، لأنه لم يتحقق أيّ مكسب على الإطلاق وفي جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والتربوية والرياضية والإدارية وغيرها. لذلك سنحاول في هذا المقال أن نهتمّ بالقطاع المجال الاقتصادي باعتباره المجال الذي يُعتبر الأكثر تضرّرا من خيارات وسياسات حكام تونس ما بعد 14 جانفي 2011.
الاقتصاد التّونسي بين حكّام الظّلام والمهربّين ومافيا الفساد
تونس كدولة فقيرة، وتابعة للدوائر الرأسمالية العالمية ليست خارج دائرة التقسيم العالمي للعمل الذي سطّرته الرأسمالية العالمية المعولمة. فكنّا في الحلقات الأضعف من حلقات العمل، أي الحلقات ذات القيمة المضافة المتدنّية والاندماج التكنولوجي الضعيف. ممّا جعل 85 بالمائة من النسيج الاقتصادي الوطني يتكون من مؤسسات صغرى ومتوسطة. كما أنّ هذا النسيج لا يتطلب يدا عاملة تقنية أو ذات مستوى تعليمي عال. بل يتطلّب يدا عاملة غير مؤهلة، ممّا عمّق نسبة بطالة أصحاب الشهائد الجامعية طوال الثلاثين سنة الأخيرة وعطّل بالتالي السّلم الاجتماعي ألا وهو التعليم الذي لم يعد له قيمة مادام خرّيجوه معطّلين أصلا.
لكن قبل 14 جانفي ورغم الأزمة الهيكلية التي يعاني منها نمط التنمية وخياراته المأزومة كان يخفي عوراته، من خلال سيطرة العائلة الحاكمة على مفاصل إنتاج الثروة، والعمل على عدم تعطّل إنتاجها بشكل يضمن مصالحها ومصالح الأطراف والفاعلين الاقتصاديين المرتبطين بها. لكن بعد 14 جانفي 2011 دخل حلبة الاقتصاد فاعلين جدد وبحلفاء جدد، مع تطبيق نفس الوصفات واتّباع نفس الخيارات السابقة. وأمام تغيّر شامل للأوضاع المحلية والاقليمية، إضافة إلى ارتفاع سقف المطالب المشروعة في تغيير الأوضاع وخاصة الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها قاعدة الحراك الثوري. والحكام الجدد لم يتمكّنوا من مواجهة هذه الموجات المتتالية من المطالب. فضعفت الدولة وأجهزتها وتغلغل الفساد بقوة أكثر ومن فئات وجهات أكثر من الفترات السابقة. كما تحوّلت البلاد إلى سوق للتهريب، ممّا حوّل المهرّبين إلى حكّام فعليّين ومشرعين في مؤسسات الدولة الأساسية من برلمان وحكومة. كما تحالف المال الفاسد مع السياسة وخاصة الأحزاب الرجعية والظلامية وأحزاب الفساد، ممّا حوّل مجال الاقتصاد إلى مزاد للسياسة وليس فضاءً لخلق الثروة وحلّ الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية لأبناء هذا الشعب.
الاستثمارات الاقتصاديّة: هدايا سياسيّة
لإكمال برنامج الإصلاح الهيكلي 85-95، ولمزيد فتح ما تبقّى من البلاد للاستثمارات الأجنبية أصدرت تونس مجلة للتشجيع على الاستثمار سنة 1993، وبعد هذا المسار الطويل من تجارب الاستثمار في تونس، يمكننا القول إنّ النسيج الاقتصادي لم يتطوّر لصالح البلاد واحتياجاتها، لأنّ الاستثمار وخاصة الأجنبي له أولويات وأهداف مخالفة تماما لاحتياجات الشعب ومتطلبات المواطنين.
بلغة الأرقام، فإنّ الاستثمارات الأجنبية خلال هذه المراحل وصل عدد مؤسّساتها حوالي 3000 مؤسسة مصدّرة كليا أو جزئيا، أي أنها مؤسسات لم تأت لتوفير احتياجات السوق المحلية. بل هي مجرد مؤسسات مناولة لشركات كبرى وعابرة للقارات تُنتج أضعف حلقات إنتاجها ببلادنا وتُصدّر فائض قيم استثماراتها خارج أرضنا، وبالتالي لا يمكن الحديث عن خلق ثروة ومراكمتها محليا بهذا الشكل.
وفق إحصائيات وأرقام وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي لسنة 2012 و2013، فإنّ الاستثمارات الأجنبية وصلت قيمتها إلى حوالي 2.5 مليار دينار. ولكن لم تخلق سوى 5000 موطن شغل. ممّا يعني أنّ جلّ الاستثمارات في قطاعات ذات طاقات تشغيلية ضعيفة ومردودية مالية كبيرة. إذن نحن في مرحلة استثمار يستغل البلاد ومواردها دون أن يكون له فائدة مباشرة في تحسين سوق الشغل وطنيا ولا في الرفع من نسبة الإدماج التكنولوجي.
لكن منذ 2012 دخل حلبة الاستثمارات الأجنبية بتونس لاعبون جدد وخاصة قطر وتركيا. استحوذت قطر على حوالي 90 بالمائة من الاستثمارات الأجنبية في قطاع السياحة خلال الخمس سنوات الأخيرة باستثمارات تتجاوز 77 م.د. كما أنّ جملة استثماراتها خلال السنوات الأخيرة تجاوزت 1.2 مليار دينار. ولكن لم تخلق أيّ موطن شغل جديد. كل ذلك لأنّ الاستثمارات القطرية تتمحور حول قطاعات غير مشغّلة مثل شراء أسهم شركات وخاصة الاتصالات أو ما تمّ أخيرا من شراء جزء من رأس مال الشركة الأمريكية المنتجة للكهرباء برادس 2. وبالتالي فإنّ هذا الاستثمار لا يمكن أن ننتظر منه شيئا على المستوى الاقتصادي لأنّ القطريّين يستثمرون بمنطق السماسرة وليس بمنطق الاستثمار الصناعي. وهو نفس التمشي للمستثمرين من السعودية أو الإمارات. وحتى إن تمّ الاستثمار فيكون في قطاعات هشّة ومتدنّية القيمة المضافة مثل النزل السياحية والعقارات أو المضاربات بالبورصة مثل الاستثمارات السعودية.
أمّا تركيا فإنها وإن كانت موجودة منذ 2008 من خلال شركة “تاف” المالكة لمطار النفيضة والمستغلة لمطار المنستير، فإنّ التقارب الايديولوجي الإخواني منذ 2012، جعل الحضور التركي يقفز إلى المراتب الأولى من خلال إغراق السوق التونسية بسلع ومواد متعددة وصلت قيمتها سنة 2013 فقط إلى مليار دينار لتتطور خلال السنوات الأخيرة إلى أكثر من 2.2 مليار، ممّا ساهم في عجز الميزان التجاري الوطني. كما ارتفعت الاستثمارات التركية المباشرة من 220 م.د سنة 2010 إلى 470 م.د سنة 2014، وهي قفزة نوعية ولكنها كانت بواسطة إحداث 17 شركة تركية تنشط خاصة في مجالات النسيج ومواد البناء والخدمات والصناعات التحويلية.
مقابل كل هذه الأرقام، فإننا لم نحقق أيّ هدف محلي من أهداف التشجيع على الاستثمار. ذلك أنّ نسبة البطالة بقيت مرتفعة وتتجاوز 32 بالمائة لدى حاملي الشهائد العليا. كما أنّ نسبة الاندماج التكنولوجي تُعتبر الأضعف في المنطقة بكاملها نظرا إلى انحصار الاستثمارات في مجالات الطاقة (تنقيب واستغلال النفط والغاز خاصة) بحوالي 40 بالمائة و30 بالمائة في قطاع الخدمات والعقارات والسياحة، وهي كلها استثمارات مربحة للمستثمر وغير مجدية للاقتصاد الوطني.
كما أنّ 93 بالمائة من الشركات والاستثمارات الأجنبية تتمركز بالعاصمة وبالساحل الشرقي للبلاد، ممّا خلّف انخراما في التوازن الجهوي وحوّل 2/3 مدننا إلى مجرد أسماء على خارطة الوطن. وبالتالي لم تستطع هذه الاستثمارات المحكومة بنفس المنوال التنموي المطبّق منذ60 عاما إلاّ أن تساير سياسة الحكام في التوزيع الجغرافي للاستثمارات.
لكن ما هو واقع محركات الإنتاج الحقيقية من صناعة وفلاحة وصناعات استخراجية؟
توفّق شبه كلّي لمحرّكات الإنتاج الحقيقيّة
تمثّل الصناعة والفلاحة في أيّ اقتصاد المحركات الحقيقية للاقتصاد والفضاءات الطبيعية لإنتاج الثروة الفعلية القادرة على تحقيق الرفاه الاجتماعي للسكان.
لكن وأمام سيطرة الحكم المافيوزي من ناحية، وتحوّل الاقتصاد والاستثمار ومجمل الثروة الوطنية إلى مجرّد هدايا يمنحها الحكام إلى حلفائهم المحلّيّين والمحلّيّين، فإنه يمكن القول إنّ مصير المحركات الأساسية للاقتصاد ستكون مهدّدة بالتخريب الممنهج إلى حدّ إيصالها إلى مرحلة الخصخصة لهذه الأطراف المافيوزية وحلفائها وداعميها إن لم نقل مموّليها الرّئيسيّين.
فتواصل بعد جانفي 2011 تهميش القطاع الفلاحي المهمّش أصلا منذ بداية السبعينات. فأصبحت البلاد عاجزة عن توفير أبسط احتياجات الشعب من الخضر والغلال والحبوب والأعلاف وغيرها من المواد الفلاحية. إذ وصلت كلفة توريد الحبوب 1 مليار دينار سنة 2019. وتواصل نزيف الميزان التجاري الغذائي إلى مستويات قياسية خاصة بعد تراجع موارد تصدير زيت الزيتون والتمور. كما دخلت جلّ المنظومات الفلاحية في أزمات هيكلية دورية جعلت من الفلاحين كبش فداء لمصالح المورّدين وداعميهم من السياسيّين والحكام المرتبطين بهم. إذ أصبحت منظومة الألبان مهدّدة بالانهيار وبالتالي إمكانية فقدان الحليب على المستوى الوطني، وبالتالي تحوّلنا من دولة حقّقت اكتفاءها الذاتي من المادة إلى دولة مورّدة لمادة غذائية أساسية. نفس الشيء بالنسبة إلى منظومة اللحوم والأعلاف وتربية الماشية وإنتاج الخضر والغلال.
مصير القطاع الفلاحي، ليس أفضل من قطاعات الفسفاط ومشتقاته والنفط والصناعات الاستخراجية والتحويلية الأخرى. فتعرضت كلّها إلى سياسات تخريبية من قبل حكام البلاد بهدف إحلال فاعلين جدد. فلم تتكلّف 10 حكومات منذ 14 جانفي 2011 إلى اليوم عناء التنقل إلى الحوض المنجمي والتحاور مع أهاليه والشروع في برنامج إنقاذ للجهة، من خلال مخطط للاستثمارات يخفّف الحمل على شركة فسفاط قفصة ويجعلها قادرة على المنافسة الدولية. فكان من نتائج هذا التواطؤ بين السلطة ومافيا إفلاس المؤسسات الوطنية أن تراكمت مشاكل الحوض المنجمي وتوقف الإنتاج شبه كليا وتراجعت موارد الشركة خلال 10 سنوات بحوالي 10 مليار دينار. كما خسرت شركة فسفاط قفصة جلّ أسواقها التقليدية. بل أصبحنا نورّد الفسفاط التجاري من الجزائر. وهو النتيجة التي خطّط لها حكام تونس بالصمت والتواطؤ واللاّمبالاة.
نفس المصير كان للمجمع الكيميائي التونسي ولشركة الخطوط الجوية التونسية ولقطاع الطاقة، وغيرها من القطاعات الصناعية المحلية التي تمّ تدميرها خلال الـ10 سنوات الأخيرة بفتح الحدود للبضائع الصينية والتركية بشكل غير مسبوق، إضافة إلى إمضاء اتفاقيات لصالح دول أجنبية أمام مصالح النسيج الصناعي المحلي. فكان من نتائج هذا الوضع، أن تمّ تسريح 300 ألف عامل بسبب تراجع الإنتاج وغلق العديد من المصانع المحلية.
إنّ تعطّل محرّكات الإنتاج بشكل شبه كلي ولفترات طويلة، قد تسبّب في تراجع كبير لموارد ميزانية الدولة. فكان الالتجاء إلى الاقتراض كحلّ سهل من قبل حكام تونس.
مديونيّة مخيفة: البلاد رهينة للمانحين
عندما تنهار محركات الإنتاج الفعلية للثروة، ويتحوّل الاقتصاد إلى فضاءات للسمسرة والمتاجرة الرخيصة بثروات الشعب. تتراجع مداخيل الدولة وتكون السلطة الحاكمة الفاقدة لبرنامج وطني مدفوعة من حلفائها إلى إغراق الدولة بمديونية مخيفة لسدّ عجز موازناتها التي لا تلبّي إلاّ مصالحها ومصالح من أوصلها إلى كرسي الحكم.
بشكل أكثر وضوحا، شهدت المديونية التونسية تطوّرا متسارعا، إذ بلغت سنة 1986 حوالي 5.4 مليار دينار لتصل سنة 2010 إلى حوالي 42 مليار دينار. ولكن خلال العشر سنوات الأخيرة (2011 – 2020) تضاعفت المديونية للدولة التونسية إذ وصلت المديونية خلال شهر جوان 2020 إلى حدود 92 مليار دينار أي 83 بالمائة من الناتج المحلي الخام، منها 72 بالمائة ديون خارجية ذات الكلفة الكبيرة. هذا دون احتساب ديون المؤسسات العمومية التي تتجاوز 18 مليار دينار وديون العائلات التي قٌدّرت سنة 2018 بحوالي 24.3 مليار دينار.
خلاصة العشر سنوات العجاف
يمكننا تقييم النتائج المباشرة للعشرية على المستوى الاقتصادي في النقاط التالية:
– تَوَاصل انخرام كامل في التنمية بين الجهات وتركّزها شبه الكلي بالشريط الساحلي الشرقي حيث يتركّز 70% من النشاط الصناعي و65% من العدد الجملي للسكان و80% من البنى التحتية و70% من الميزانية السنوية للبلاد. ممّا يعني أنّ انتشار الفقر والبطالة والأمّيّة وتدنّي الخدمات العامة وتدهور حالة البنية التحتية بأغلب مناطق البلاد هي نتيجة مباشرة لهذه الخيارات التنموية وسياسة التنمية مرتبطة بالواجهة البحرية فقط.
– سيطرة مافيا السلطة وحلفائها الاقليميين والمهرّبين والمنظومات الفاسدة على مفاصل الاقتصاد وقطاعاته الاستراتيجية.
– تدنّى الإنفاق العام في المجال الصحي والتعليم والنقل ممّا خلق خدمات عامة للفقراء وأخرى للأغنياء.
– تفقير الطبقة العاملة وغالبية الطبقة الوسطى.
– انتشار للشغل الهش والسمسرة باليد العاملة والمناولة وتفشّي ظاهرة الطرد الجماعي للعمال والغلق المتواصل للشركات المحلية بسبب عدم قدرتها على مسايرة اقتصاد السوق الهمجي، وغياب الحماية المحلية من قبل السلطة للنسيج الصناعي المحلي.
– ارتفاع كبير لنسب البطالة بكلّ أنواعها لتصل إلى حدود 20%، كما ارتفعت نسبة البطالة في صفوف أصحاب الشهائد العليا لتصل إلى 31.9 بالمائة. وهي من أعلى النسب في العالم، دون نسيان البطالة الفنية الناجمة عن غلق المؤسسات والبطالة الناجمة عن التسريح القصري للعمال في إطار هيكلة المؤسسات.
– تراجع مداخيل الميزانية العامة للدولة والالتجاء إلى الاقتراض المجحف وغير المبرّر، ممّا أثقل ميزان المدفوعات للدولة، حيث ستبلغ قيمة سداد الديون وفوائضها سنة 2020 حوالي 12 مليار دينار، ممّا سيرفع من نسبة الديون الخارجية إلى مستوى يتجاوز 83 بالمائة من الناتج المحلي الخام.
– تهميش القطاع الفلاحي وتركه خاضعا للعوامل المناخية، وفي المقابل تمّ السطو على المناطق السقوية من قبل المقرّبين من السلطة الحاكمة والرأسمال الأجنبي وتخصيص إنتاج هذه المناطق كليا للتصدير.
– تدهور الوضع المالي للصناديق الاجتماعية بسبب تحمّلها للأعباء المالية للطرد الجماعي للعمال والتقاعد المبكر، إضافة إلى تراجع مداخيلها بتراجع عدد المنخرطين لوقف الانتدابات خاصة في القطاع العام ممّا جعل هذه الصناديق تلتهم مدّخراتها الاستراتيجية.
لكن من يحكمون اليوم في تونس مصرّون على المواصلة في تطبيق التّمشّي ونفس الوصفات وينتظرون تحقيق نتائج مخالفة، ممّا يجعلنا نقول إنهم فعلا أغبياء بالتوصيف الانشتايني.