علي الجلولي
لا نكاد نجد في رصيد الحكومات المتعاقبة منذ سقوط الطاغية بن علي إلى اليوم أيّ مكسب ذي أهمية للشعب. فكلّ هذه الحكومات سواء المتناسلة من نظام بن علي (حكومات 2011 أي حكومتي محمد الغنوشي 1و2 وحكومة السبسي)، أو النابعة من المجلس التأسيسي وبرلماني 2014 و2019، تتّفق في جوهرها الطبقي والسياسي الرجعي. فكلّها دون استثناء واصلت وما زالت الاحتكام إلى نفس خيارات نظام بن علي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ونفس الارتباطات الطبقية المحلية والإقليمية والدولية. وهي خيارات لم تجلب لتونس سوى التبعية، ولشعبها سوى الاستغلال، ولمنظومة حكمها سوى الفساد. لقد طال الالتفاف كلّ المجالات رغم رياء بعض مكونات الحكم وخاصة حركة النهضة التي وضعت أرجلها داخل نظام الحكم منذ نهاية 2011 إلى اليوم.
لقد عملت هذه الحركة دوما على مغالطة الشعب التونسي بكونها حركة قادمة من رحم الثورة ومن صلب الشعب، لكن الوقائع العنيدة تسفّه هذا الادعاء، بل نستطيع اليوم الجزم بكون هذه الحركة قامت بجرائم في حق شعب تونس وفي حق الوطن في ظرف عشر سنوات بما يضاهي جرائم حزب الدستور طيلة خمسة عقود.
ومن المواضيع التي طالها تشويه حركة النهضة موضوع العدالة الانتقالية، هذا الاستحقاق الثوري والديمقراطي الذي عملت هذه الحركة وحلفاؤها على التلاعب به كورقة لحشد أنصارها ولابتزاز خصومها، وفي إطار ذلك بعثت وزارة تحمل اسم هذا الاستحقاق حين شكّلت الحكومة الأولى بعد انتخابات المجلس التأسيسي.
العدالة الانتقاليّة كاستحقاق من استحقاقات الثّورة
العدالة الانتقالية تعني الإجراءات الاستعجالية والانتقالية التي من شأنها تسهيل الشروع في تصفية تركة الاستبداد والفساد الذي طال الأفراد والفئات والجهات طيلة حكم الدكتاتورية. وهو مسار سياسي وقانوني ينتهي بإحقاق حقوق الضحايا وردّ الاعتبار لهم ومحاسبة كلّ المسؤولين المتورّطين في كلّ أشكال التعسّف والاضطهاد الذي مارسته الدولة أو دوائر خارجها والذي مسّ من حقوق الأطراف المذكورة. إنّ هذه الإجراءات تطال المؤسسات (الأمن، القضاء، السجون، الإعلام، المدرسة…) كما تطال التشريعات والقوانين في اتجاه ملاءمتها لمنظومة حقوق الإنسان الكونية. وتشمل أيضا مساءلة ومحاسبة كل المتورطين في انتهاك حقوق الإنسان أمرا وتنفيذا، ومن ثمّة جبر الضرر المعنوي والمادي للضحايا واعتذار الدولة لهم بما يفتح الباب أمام صفحة جديدة يعاد ضمنها كتابة تاريخ البلاد. إنّ هذه الخطوات تشكّل مسارا من شأن إنجازه طيّ صفحة الماضي الاستبدادي وفتح صفحة الديمقراطية والحرية. إننا نستطيع الجزم اليوم أنّ خطوة جدية في هذا المسار لم تنجز، طبعا عدا أعمال “هيئة الحقيقة والكرامة” التي أنهت عهدتها بإنجاز الأعمال التوثيقية لسجلّ الانتهاكات.
إنّ مجمل منظومة الحكم التي تداولت على قصور قرطاج وباردو والقصبة لم تتقدم بالقضية ولم تطو الملف بتحقيق استحقاقاته، بل إنّ العديد ممّن تداولوا على هذه القصور كان رافضا للمسار، أو كان مبتزّا له ونقصد أساسا حركة النهضة.
النّهضة وتجارة العدالة الانتقاليّة
ولئن عملت بعض القوى التقدمية من أحزاب ومنظمات وشخصيات على بلورة رؤية متماسكة للعدالة الانتقالية، فإنّ حركة النهضة وحلفاءها قامت بعملية سطو على الملف وتوجيه كلي لوجهته نحو اختصاره في “التعويضات المالية” لضحايا الاستبداد من أنصارها. وبذلك ألحقت بهذا الملف ضررا فادحا، وهو الذي أصبح عند جزء من الشعب ملف فساد وسرقة أموال لصالح أنصار النهضة. ويشيع في أوساط عديدة بما فيها مقرّبة من هذه الحركة الحديث عن “مبالغ وتسبقات” أسندتها النهضة أثناء حكمها لكوادرها وجزء من جمهورها. لقد تحوّل الموضوع إلى موضوع يثير القرف والاستياء خاصة في ظلّ تواصل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي دمّرت القدرة الشرائية للشعب ووسّعت مظاهر فقره وبؤسه. وحين تشكّلت “هيئة الحقيقة والكرامة” فإنّ أسلوب بعثها واختيار مسؤوليها على أساس المحاصصات المشبوهة، ومشاكل إدارتها والصراعات التي نخرت هيئتها وشبهات الفساد التي ألصقت بها، كلها تفاصيل أنهكت الملف، ممّا سهّل الدعاية المضادة التي نظّمها أنصار الدكتاتورية وبعض الأوساط التي ظلّت تلاحقها عقدة تواطئها مع الدكتاتورية، فضلا عن أوساط أخرى يقودها حسن النية وعدم فهم ملف العدالة الانتقالية الذي كاد يُختصر في جانب “جبر الضرر” الذي أصبح يُسوّق على أنه “تعويضات”. هذا وتواصل حركة النهضة إلى اليوم استعمال ورقة “التعويضات” لشراء الذّمم وترويض جمهورها. كما استعملت الملف لابتزاز العديد من أوساط الفساد المرتبطة بالدكتاتورية لإدخالهم إلى بيت الطاعة ومقايضة حريتهم بمبالغ تدفع في حسابات الحركة. ولقد كان الملف جزءً من المقايضات التي تمّت مع نداء تونس أيام الحكم معه بما فيها تمرير “قانون المصالحة الاقتصادية والإدارية” الذي رفضته القوى التقدمية واعتبرته قانونا لتبييض الفساد السابق والحالي.
التّجمّعيّين وعقدة العدالة الانتقاليّة
إنّ هذا التعطّل الذي طال مجمل المسار خلق فرصا للتجمعيّين وخاصة المتورّطين منهم في انتهاكات حقوق الإنسان (الوشاية، المليشيات، النهب والفساد…) بتنظيم هجوم سافر مازال متواصلا إلى اليوم رغم كلّ الوعود من النهضة بكون المساءلة والمحاسبة لن تتمّ. إنّ التّجمّعيّين من أمثال مناصري حزب عبير موسي يمارسون كلّ أشكال الضغط والتشويه حتى يواصل مسار العدالة الانتقالية تعثّراته وألاّ يحّقق منه في أقصى الحالات إلاّ “جبر الضّرر المادي” في أفق شراء الصّمت بالمال. كما حاول أضرابهم من أمثال الحسن الثاني ملك المغرب السابق الذي حاول شراء صمت ضحاياه بالمال، لكنّ أحرار المغرب وأساسا من اليساريين أحبطوا نواياه.
العدالة الانتقاليّة استحقاق ثوري وديمقراطي
إنّ هاجس أنصار الدكتاتورية وأزلامها هو قبر المسار برمته، وإنّ هدف النهضة هو طيّ الملف وحصره في بعده المالي. أمّا الشعب التونسي وقواه التقدمية فإنّ مصلحتهم الحقيقية تتمثل في إنجاز المسار كاملا بمختلف حلقاته وأجزائه. إنّ ذلك من شأنه أن يعزّز شروط غلق الباب أمام عودة الاستبداد والدكتاتورية التي تُطلّ برأسها اليوم جدّيّا من خلال القوى الحاملة لمشاريع الاستبداد في باردو والقصبة وقرطاج، الاستبداد المغلّف بالدّين والشعبوية والحداثة الزائفة والمبتورة.