عمار عمروسية
تزايدت في السّاعات القليلة الماضية المؤشرّات التي تدفع إلى الاعتقاد بأنّ حكومة “المشيشي” قد حزمت أمرها وأرست خيارها بالمضيّ قدما في التّعاطي الغليظ مع الحركة الاجتماعيّة تحت ذرائع حماية الأمن العام والممتلكات الخاصّة والعموميّة الخ…
فالتّنكيل بالمحتجّين والمحتجّات بالليّل والنّهار على حدّ السّواء تضاعف في اليومين الأخيرين وبلغ مستويات مفزعة نقف على تفاصيلها أولاّ في الأعداد الكبيرة من مختلف الأجهزة الأمنية العاملة ميدانيّا ومن حجم معدّاتها لتطويق الحراك وخنقه. وثانيا في الحصيلة الكبيرة للموقوفين وسرعة تحرّك النيابة العموميّة لإصدار بطاقات إيداع بالسّجون ضدّ المئات. وثالثا المباشرة بتعيين جلسات محاكمة لبعض المعتقلين واستصدار أحكام نافذة بالحبس ضدّ البعض الآخر.
إنّ الخيار القمعي هو الإجابة الأهمّ بل الوحيدة من حكومة “المشيشي” على موجة الاحتجاجات الدائرة منذ أيّام. ويغدو النهج الاستبدادي مفضوحا ومتكاملا بعد الإطلالة الاستفزازية لرئيس الحكومة أوّل أمس على شاشة الوطنية. فكلام “المشيشي” كان منسجما مع ذهنية المسامير الصدئة للفيف كبار الإداريين الذين يرون معاناة شعبهم وأزمة المجتمع من ثقب صغير حدوده الأروقة العفنة لسراديب “ماكينة” إدارة “التّحت” بأوامر “الفوق”.
فالكلمة وردت علي لسانه بإيقاع وحيد خالية من كلّ روح ومشاعر.
تلاها على عجل مثل كلّ القرارت الإدارية في مجلس شركة مفلسة.
هذا من زاوية الشّكل، أمّا من حيث المضمون فالمقاربة البوليسية هي الأبرز. فهو كما يقال “يتفّهم الغضب ويتفّهم تدهور الأوضاع”. غير أنّه مرّ بسرعة إلى التّهجّم على الحراك الاجتماعي. فهو “تخريب وشغب وخروج عن القانون”!!!
يتلاعب رئيس الحكومة ويعمد إلى التّضليل لأنّ منطق الأشياء يفترض انسجام المقدّمات مع الخلاصات. فمن يقرّ بالأزمة ويتفّهم الردود عنها يفترض عدم تجريم تلك الردود وعلى الأقل عدم التّركيز على المظاهر الثانوية للحراك.
يُجانب “المشيشي” الحقيقة عندما يدّعي تمييز حكومته بين حراك النّهار المشروع وحراك اللّيل المرفوض فكلاهما تحت الحصار البوليسي والهراوت والاستعمال العشوائي للغاز المسيل للدموع. ولعلّ حيثيات ما حصل سويعات قبل كلمته بشارع “الحبيب بورقيبة” وبعض أحياء العاصمة خير دليل على قولنا. فالتّنكيل بالمحتجّين دائم الحضور وحملات الإيقاف طالت شبيبة الليّل والنّهار وشملت حتّى المدوّنين في منازلهم. فسيف القانون وسلطة الدّولة التي ركّز عليهما لم يكونا سوى الغطاء لكسر إرادة النّاهضات والنّاهضين بما يضمن خنق الحركة الاحتجاجيّة ووأدها. فالقانون وإنفاذه سلاح بيد السلطة التنفيذيّة لإرهاب الأطفال القصّر وشبيبة الفقر والحرمان. والتّخريب الحقيقي للاقتصاد والمجتمع هو الحاصل على أيادي منظومة الحكم وبعض لوبيات التهريب والإثراء الفاحش من دوائر أحزاب الحكم وبعض العائلات المافيوزية. وحماية الملك العام من النّهب بواسطة إنفاذ القانون مطلوب في وجه مراكز النّفوذ المتحكّمة في سلطات القرار بمختلف مؤسسات الدّولة. فـ”المشيشي” خاطب الشعب بلغة الوعد والوعيد وأثنى على جهود المؤسسة الأمنية ولم يكلّف نفسه حتّى عناء التّمايز الشكلي مع الهمجيّة التي كثيرا ما كان أسلافه القيام بها تحت معزوفة “التّجاوزات والأخطاء”. المشيشي تكلّم بلغة حزامه السياسي المعادي للحرّيات والدّيموقراطية ووضع حكومته تحت تصرّف قوى الثورة المضادّة.
فالإطلالة كانت بمثابة الإيعاز للمضيّ قدما في التّعاطي البوليسي مع الاحتجاجات وفتح الطريق أمام “حركة النهضة” لنفض الغبار عن جناحها الميليشياوي ودفعه إلى الشوارع تحت دواعي معاضدة الجهود الأمنية. نطق “المشيشي” بمصالح حزامه ألسياسيّ الموغل في الفساد والعداء المقيت للحركة الاحتحاجيّة التي سارعت دقائق فقط من انتهاء كلمته إلى العودة النشيطة إلى لحراك بالليّل والنّهار.