علي البعزاوي
عندما أقدم بن علي على الانقلاب على بورقيبة سارع حزب العمال في نفس اليوم (7 نوفمبر) بإصدار بيانه الشهير “الجنرال بن علي يفتح عهد الانقلابات في تونس”. ومثّل ذلك مؤشرا على سرعة البديهة لدى حزب العمال وقراءة موضوعية للحظة التي تمرّ بها البلاد والمرحلة الجديدة التي ستدخلها وحقيقة الحكم الجديد وعلاقته بانتظارات الشعب الذي عانى الويلات في أواخر العهد البورقيبي.
وأمام ردّ الفعل السلبي من عديد النخب وحالة التردّد وحتى المراهنة من الكثيرين على “صانع التغيير” في تطوير الحياة السياسية نحو الأفضل أطلق حزب العمال رسالة مفتوحة/لائحة تتضمن جملة من المطالب المتعلقة بالحريات السياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرها ليضع الحكم الجديد أمام اختيار صعب. فإمّا الاستجابة لهذه المطالب أو الرفض، وبالتالي افتضاح أمره وانكشاف حقيقة علاقته بالشعب وبمطالبه الأساسية.
وقد عاش الشعب التونسي طيلة عشرين سنة من حكم بن علي القمع والتجويع والتهميش والتعذيب في مراكز الإيقاف والسجون وبيع البلاد والفساد في أعلى هرم السلطة والتطبيع مع الكيان الصهيوني إلى جانب التصحر الفكري والثقافي الذي خيّم على المشهد وتدجين الإعلام ومحاصرة الأحزاب والمنظمات الوطنية وإخضاعها بقوة البوليس وقضاء التعليمات. وقد تطلّب الأمر عشرين سنة ونيف من الجهد والنضال والصراع بكلّ الأشكال حتى ينهض الشعب التونسي ذات 17 ديسمبر ليُنهي حكم الطاغية ويفرض بدماء الشهداء والجراح والآلام الانتقال إلى شكل جديد من الحكم يُعيد الاعتبار للحرية والمواطنة ولحقّ الاحتجاج والانتخاب…
واليوم وشباب تونس يقارع منظومة التبعية والاستغلال والفساد الحالية وينخرط في حراك بدا يعمّ الجهات يبادر حزب العمال وعديد القوى التقدمية مرة أخرى بإعلان أنّ هذه المنظومة لم تعد صالحة للخدمة وأنه حان وقت رحيلها والاستعاضة عنها بأخرى أقرب إلى الشعب وخادمة لمطالبه في الشغل والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والسيادة على ثروات بلاده، وأنّ الحوار معها سيكون من خلال الشارع دون سواه. وللتذكير فقد سبق لحزب العمال التعبير عن هذه الخلاصة منذ سنوات مؤكدا أنّ الثورة وقفت في منتصف الطريق وأنها لم تحقق أهدافها كاملة وأنّ ما تغيّر هو فقط شكل السلطة (شكل ديمقراطي بدلا عن الشكل الدكتاتوري). ودعا الشعب التونسي إلى ضرورة استكمال المسار الثوري. أمّا الوعي الشعبي بهذه الخلاصة فقد تطلّب تسع سنوات من الوقت ليصبح قناعة راسخة على نطاق واسع. وهو في الحقيقة زمن قصير بالقياس مع الفترة الزمنية التي تطلبها إسقاط بن علي لعدّة أسباب أهمّها أنّ الشعب وقواه الديمقراطية لم يغيبوا عن المشهد ولم يتراجعوا والصراع لم يخفت إلاّ لفترات صغيرة ليعود بأكثر جرأة وتصميم ووعي في وقت لاحق.
الوعي يسري بسرعة أكبر في الزمن الثوري لأنّ المواطن يتابع ويتفاعل باستمرار وبتركيز كبير ويخوض المعارك هنا وهناك وحول هذه القضية أو تلك. وهو يقظ وفاعل خاصة وأنّ الثورة التونسية أتاحت له هذه الإمكانية التي لم تتوفّر في زمن الدكتاتورية. وتركت الأبواب مفتوحة أمام إمكانية النضال والمراكمة والفعل التغييري. وكذلك الأحزاب التقدمية، فرغم الضعف الذي تعانيه لأسباب مختلفة ذاتية وموضوعية، ليس هنا مجال ذكرها، فإنها قادرة على التعافي بسرعة وبإمكانها إذا ما التحمت بجماهير الشعب وتبنّت قضاياها الجوهرية وانخرطت إلى جانبها وفي مقدمتها في النضال الميداني فإنها قادرة على استيعاب وضمّ أوسع الطاقات من أبناء الشعب الكادح ولفّ أوسع الجماهير حولها. ففي الزمن الثوري عندما يحتدّ الصراع الطبقي تسقط التأثيرات المالية والهبات والوعود التي عادة ما تلقى الرواج في الزمن الانتخابي. ويتمّ الاستقطاب فقط على قاعدة المواقف والبرامج والخيارات الخادمة لمصالح الشعب. مثلما تتراجع الخلافات الحزبية وتصبح الوحدة ضرورية باعتبارها أحد أهمّ الشروط لتعديل ميزان القوى ضدّ القوى اليمينية التي ستسارع بدورها إلى التّوحّد من أجل إفشال الثورة. وقد بدأت بعد من خلال المواقف التي عبّرت عنها إزاء الاحتجاجات.
الشعب التونسي يضع اليوم أولى الخطوات على طريق التغيير الجذري مستفيدا من تجربة عشرية المسار الثوري ومن السند الذي يلقاه من الأحزاب الثورية والتقدمية التي استفادت بدورها ممّا حصل من أخطاء في الطور الأول من الثورة، حيث غاب البرنامج وغابت القيادة المركزية. وعلى القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية اليوم من أحزاب ومنظمات وجمعيات وفعاليات شبابية ونسائية الالتحام بالشعب في الجهات والمدن والأحياء والعمل على توسيع المعركة وتأطيرها وربطها ببرنامج متكامل اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي… والذهاب بها نحو تحقيق الأهداف والاستجابة إلى حلم طالما راود عديد الأجيال، الحلم بالعيش في ظلّ منظومة جديدة لا علاقة لها بالمنظومات السابقة. منظومة وطنية وديمقراطية وشعبية تحقّق السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الفئات والجهات وتمكّن الشعب التونسي من السلطة السياسية فيصبح شعبا سيّدا في بلاده وعلى ثرواتها ويبني عالمه الجديد بكلّ استقلالية.
عاشت الثورة التونسية
المجد والخلود للشهداء