مناسبة مرور عشر سنوات كاملة على أحداث ديسمبر – جانفي 2010 / 2011 التي انتهت بسقوط الاستبداد واستهلال مرحلة جديدة يحلو للبعض أن يسمّيها “مرحلة الديمقراطية” أو مرحلة “الانتقال الديمقراطي”؟ في إثارة هذا السؤال بعض وجاهة نظرا إلى المناخ السياسي الذي ساد منذ سنوات والذي أصبحت فيه “الشعبوية” مسلكا للالتفاف على انتظارات انتفض من أجلها الشعب التونسي، دون قيادة قوية تؤطره، وقدّم في سبيلها التضحيات الجسام. لقد اختزل الفاعلون السياسيون مرحلة ما بعد سقوط رأس السلطة في إحداث إصلاحات سياسية وإرساء مؤسسات “ضامنة” للديمقراطية. واعتبروا “الانتخابات” الوجه الأمثل للديمقراطية المطلوبة. وكان ذلك على حساب الاستحقاقات المتصلة بالتنمية الشاملة، ممّا أدّى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وبلوغها درجة من التعفن جعلت الوضع أسوأ وأشدّ على الجميع. لقد أصبح الانتصار في الانتخابات الشغل الشاغل للقوى السياسية وأصبح احتلال مواقع بالبرلمان أقصى ما تنشده تلك القوى حتى تتملك بالسلطة وتوجه العلاقات الاجتماعية نحو تحصيل الفائدة القصوى لفئات اجتماعية بعينها تتعارض مصالحها مع مصالح الطبقات التي لم تغنم من السياسات المعتمدة غير مزيد من الفقر ومن تدهور الخدمات الاجتماعية.
إنّ هذه المسافة الفاصلة بين السياسي من جهة والاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى هي الفضاء الذي انتعشت فيه الشعبوية التي أمّنت تواصل سنوات عجاف ومكّنت بعض القوى السياسية من “نهب أصوات الناخبين” تمهيدا “لنهب خيرات البلاد” وبذلك حلّت الوعود محلّ الإجراءات وحلّ بيع الوهم محلّ التوجه نحو معالجة الأوضاع المتأزمة وحلّ التعامل مع ثروات البلاد بمنطق الغنيمة محلّ استثمار تلك الثروات كموارد توظّف للتنمية والعدالة الاجتماعية.
تُحقق الشعبوية هذا الغرض لما فيها من قدرة على استمالة الناس وحشدهم في قطيع مأخوذ ببريق الشعارات دون تمكينهم من فرص حقيقية للتثبت من مضامين تلك الشعارات وتبيّن المخاطر المترتّبة على السياسات التي تنتهجها القوى السياسية المهيمنة… ويصبح من الصعب على طيف كبير من الناس التمييز، في ظلّ التعدد السياسي الموجود، بين القوى التي تنزع إلى إحداث تغييرات حقيقية تفيد المجتمع وبين القوى التي ليس لها أية مصلحة في تلك التغييرات. فتلجأ إلى دّس السم في العسل. من مصلحتها أن يطغى الغموض على المشهد السياسي وأن تكون بلا لون قار يشير إليها. لذلك لا يُحرجها توظيف المتناقضات وطمس الفوارق بينها إمعانا منها في التعمية وإرباك البصائر. نجدها تجمع الجهل بالعلم، طقوس الأساطير بالتكنولوجيا المتطورة، التّديّن باللاّتديّن، الاستبداد بالديمقراطية، الثراء بالفقر، التوحش بالتحضر، رفعة الأخلاق بوضيعها، النظام باللاّنظام، حقوق الإنسان وانتهاكها، اليأس بالأمل وشعارات الثورة بسياسات رجعية… وغيرها من المتناقضات كثير.
ولأنّ مصائر الناس والبلاد أصبحت رهينة الانتخابات ومتوقفة على ما يفرزه الصندوق شقّت الشعبوية طريقها إلى الجميع. ليس من الضروري أن يعبّر عنها فصيل سياسي بعينه لأنها مستعصية عن كل احتكار. فجرى اعتمادها من قبل أغلب الفصائل السياسية وحتى النقابات والجمعيات والزمر وإن بنسب متفاوتة ولا أحد منها يصف نفسه بالشعبوية أو يرضى أن يوصف بها. العلامة التي تدلّ عليها هي كثافة “المطلب الآني” وإغراء “التو” الذي يتملك بالنفوس ويوجه الإرادات المغلولة والذي من أجل نيله تحضر الجهوية والقبلية والعروشية والقطاعية والفئوية وغيرها من أشكال الاحتماء بالجماعة الضيقة. وقد يكون خيار “الخلف المعلوم” والآمن عندها أفضل بكثير من خيار “الأمام المجهول” وأجدى ويكون النكوص أضمن من التوثّب نحو الممكن. تمارس الشعبوية سلطانها على الناس بتوسّط الخطابة الحماسية والخطاب المغالطي والصورة وبضروب من الفن الهجين وأيضا، بما يُسمّى “الذباب” المجند للدفاع عنها في مواقع التواصل الاجتماعي ومواجهة خصومها بكلّ الأساليب حتى القذرة منها. بكلّ هذا، تُجيّش الشعبوية أنصارها وقد تجرّهم إلى ممارسات عنيفة وأحيانا عنيفة جدا.
في وجه من وجوهها، تعبّر الشعبوية عن يأس حشودها من الأطر النظامية ومن المؤسّسات التي تنظّم حياتها حتى لو كانت عريقة. ويمثّل هذا اليأس أساسا صلبا لانتشارها لأنه يحيل، من ناحية على وقائع حقيقية، وينفتح، من ناحية أخرى، على آفاق مغرية وإن كانت آفاقا غير قابلة للتعيّن والتجسيم لكونها هلاميّة. وبين الوقائع والآفاق تتقدم الشعبوية بارتجال المواقف وإحداث الصخب العام حولها وتضخيم الوعود. إنّ الارتجال والتعامل العاطفي مع الأحداث يمثّلان العلامتين المميزتين لكلّ “حراك شعبوي” لأنه في الأخير حراك لذاته لا لنتائجه.
وحتى يتدعّم نفوذها، تعمد الشعبوية إلى ترذيل الحياة السياسية واستهجان دور الاحزاب السياسية وعزل النخب عن الجماهير ومحاصرة المثقفين ومناهضة كل خطاب عقلاني يتوقف عند دقائق الأمور. تشعر الناس أنه لا فائدة لهم في كلّ هذا وأنّ “انعتاقهم” ليس بإرادتهم بل بإرادة “بطل” ملهم بيده أمر السماء والأرض وأنّ خلاصهم بين شفتيه في لسانه وفي يده على طرف بنانه وأنّ حالهم سيتغير حين يتنازلوا له عن حقّهم في التفكير وحقّهم في التعبير وحقّهم في رسم السياسات.. وأنّ الكاريزم الذي له يعفيهم عن مواصلة النضال من أجل حقهم وخيرهم.
لا نستغرب إذن انتشار الشعبوية في عالم مأزوم لم تقدر فيه النخب السياسية على فتح أفق حقيقي يتلاءم مع اللحظة ويأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحاصلة محليا ودوليا ويرسم خطة توجّه نضالات الشعوب باتجاه مزيد من الانعتاق والتحرّر ومزيد من العدالة والمساواة… إنها علامة أزمة الفكر الذي يعاني قصوره على الإحاطة بالموجود وعلى رسم المنشود. بفضل هذا القصور، ستواصل القوى المهيمنة استثمار الشعبوية كقوّة تظهر معارضة وهي في الحقيقة معاضدة، وذلك حتى لا يتمّ إسقاطها وتفكيكها وحتى تجد مخرجا جديدا لأزمتها الهيكلية يمكّنها من إعادة بناء ذاتها لتواصل هيمنتها بتأزّم أقلّ كلفة. من أجل ذلك تحتاج تلك القوى إثارة النعرات والفتن في العالم والحثّ على المعارك والحروب الأهلية والإقليمية وصنع ربيع يكون، هنا وهناك، خريفا يمتد على سنوات.
لا نستغرب أيضا أن نكون أمام هذا المشهد السياسي البائس الذي يهيمن عليه الجهل وانعدام الخبرة وأن نكون أمام برلمان بهذه التجاذبات التي تولّد القصورَ من القصورِ.
ومع هذا، يبقى زمن الشعبوية قصيرا بالمقارنة مع زمن نضال الشعوب وزخمه… يمكن لها أن تُسقط حكومة أو مجموعة من السّاسة، يمكنها أن تفكّك حزبا وتُطيح باقتصاد أو تنتصر في معركة انتخابية ولكنها أبدا لن تستطيع إنقاذ وطن وتجاوز أزمة وتحقيق خلاص مهما بدت ثورية في الشعارات التي ترفعها.. إنّ التضليل الذي تمارسه الشعبوية يبقى تضليلا، يوهم ولا ينال وهمه. وإنّ وهم الشعبوية، ككلّ وَهْم، يُطلب بإلحاح ولا يُدرك. إنها التّعبير العميق عن التلازم بين اليأس وتغذية الأوهام.