الناصر بن رمضان
تحتلّ انتفاضة 26 جانفي 1978 مكانة مميزة في الذاكرة التونسية عموما وفي ذاكرة النقابيين بوجه خاص، من جهة لما شهدته تلك الفترة من أحداث خطيرة أظهرت آنذاك الوجه الفاشستي للنظام البورقيبي الذي تسبّب حسب الرواية الرسمية في سقوط 52 قتيلا و365 جريحا. فيما تحدثت تقارير مستقلة عن مقتل ما يزيد عن 400 شخص على رأسهم سعيد قاقي والمناضل حسين الكوكي، وأكثر من 1000 جريح علاوة على الإيقافات والتعذيب والمحاكمات والفصل عن العمل.
ومن جهة ثانية تعود هذه المكانة المميزة للانتفاضة لما أظهرته الحركة العمالية والنقابية من قوة واستماتة في الدفاع عن مطالبها المهنية والمعنوية المشروعة وعلى رأسها الدفاع عن الاستقلالية عن الحزب الحاكم ورفع المطالب الديمقراطية العامة كالعفو التشريعي العام وحرية الإعلام والتعبير والحق في التنمية العادلة.
الأسباب والوقائع:
تعود أسباب الانتفاضة المجيدة إلى أسباب عامة تمثلت في دخول النظام الرأسمالي العالمي في أزمة عامة حادة ابتداء من سنة 1973 انعكست بصورة مضاعفة على بلادنا كغيرها من البلدان ذات الاقتصاديات الضعيفة والتابعة. إذ بدأ نسق النمو في التراجع والتوازنات العامة في الاختلال وعادت نسب التضخم والتداين والبطالة في الارتفاع وتدنت المقدرة الشرائية وارتفع معدل الفقر وباتت الفوارق بين الطبقات والجهات وكذلك سوء التصرف في المال العام ظاهرة مثيرة لحالة من التذمر العام بعد فترة التحسن الملحوظ طوال النصف الأول من عشرية السبعينات من القرن الماضي.
على الصعيد السياسي شهدت تلك الفترة إرساء وهيمنة نمط الحكم الفردي ذي الطابع الفاشستي الرافض لأبسط مظاهر الديمقراطية والحريات حيث تمّت مبايعة بورقيبة الرئاسة مدى الحياة وانتصبت المحاكمات المتواترة والجائرة ضد تيارات اليسار الجديد وقمعت بشدة أبسط التحركات الطلابية والشبابية.
أما الأسباب المباشرة فقد تسارعت بصورة ملحوظة بعيد المؤتمر 14 للاتحاد العام التونسي للشغل في مارس 1977 من زيارة الحبيب عاشور إلى ليبيا (ماي 1977) إلى الزيادات المشطة في الأسعار في ربيع وصائفة 1977 التي استتبعت انعقاد الهيئات الإدارية الجهوية والقطاعية المتسارعة وإعلان القيادات النقابية بصراحة متزايدة الوضوح رفض سياسة حكومة الهادي نويرة والاستعداد لمواجهتها. وشكلت الهيئة الإدارية المنعقدة بتاريخ 15 ديسمبر 1977 منعرجها الحاسم. فتكثفت حركة الإضرابات تحت تأثير الأفواج الجديدة من شباب اليسار الثوري التي دخلت مسرح العمل النقابي لتشمل جميع القطاعات والجهات. وارتسم خط القطيعة بالكشف عن مخطط لاغتيال الأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور في نوفمبر 1977 من قبل بعض غلاة حزب الدستور (التجمع لاحقا).
أما في الجهة المقابلة فكان صراع الأجنحة داخل الحكم على أشده: صراع حول كيفية معالجة الأزمة بين “الشق الفاشي” والشق “الأقل فاشية” بتحديدات تلك الفترة، انتهى بالإقالات والاستقالات والحسم لفائدة الكواسر من أمثال محمد الصياح وعبد الله فرحات وعامر بن عائشة والجنرال المخلوع بن علي القادم آنذاك من المخابرات العسكرية بغاية تكسير الحركة النقابية رأسا، وبذلك فتح المجال على مصراعيه لمرحلة الحسم العنيف: الإضراب العام في 26 جانفي من جانب الاتحاد دفاعا عن استقلالية الحركة النقابية والمطالب المادية والمعنوية للشغالين عموما، والقمع الأسود وارتكاب المجازر ونصب المشانق (المطالبة بالإعدام للحبيب عاشور) باستعمال الجيش والبوليس من قبل الحكومة دفاعا عن المصالح الطبقية للبرجوازية الكمبرادورية العميلة. فكانت المواجهة الكبرى يوم الخميس الأسود أغرقت فيه الحركة النقابية في حمام من الدم ونشطت فيه حملة الاعتقالات العشوائية في صفوف النقابيين ثم انتصبت المحاكم الجائرة لمقاضاتهم (أكثر من 2000 حسب لسان الدفاع في محاكمة سوسة الشهيرة التي أحيل فيها لوحدها 124 نقابيا وكيلت لهم تهم التآمر على أمن الدولة والعمل على قلب النظام وشملت المحاكمات إلى جانب القيادات النقابية من المكتب التنفيذي التي بلغت 10 سنوات أشغال شاقة، قيادات من مختلف المستويات والجهات والقطاعات.
والجدير بالذكر أنه فيما كانت حملة التضامن مع الموقوفين على أوسعها في الداخل والخارج (إضرابات تضامنية حتى داخل السجون، كانت ردة فعل حركة الإتجاه الإسلامي (النهضة الآن) خارج السياق تماما إذ تفصت منها واعتبرتها كالعادة فتنة وكل فتنة في النار.
الدروس والعبر:
1) كانت انتفاضة 26 جانفي 78 ذات طابع عمالي واضح لأول مرة في تاريخ تونس الحديث. إذ قادت الطبقة العاملة ممثلة في منظمتها النقابية هذا التحرك ولم تدافع عن مطالبها المهنية فحسب، بل شملت مطالبها قضايا الحريات العامة والفردية وعديد القضايا المتعلقة بنظام الحكم وإدارة شؤون البلاد وبذلك دخلت الطبقة العاملة رسميا معترك الحياة السياسية وأدلت بدلوها في رسم منوال التنمية ونمط الحكم بعد 56 وبرهنت أنها فعلا قوة اجتماعية لها وزنها وبمقدورها منازلة الدولة البرجوازية المجهّزة والمسلّحة بأدوات القمع ولا تحتاج في ذلك إلاّ إلى القيادة الثورية والقطع مع التسيير البيروقراطي للمنظمة الشغيلة. وذاك هو الدرس الثمين الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في زمن التصفيات البيروقراطية لأبناء المنظمة التقدميين. ولامجال لإنكار هذا الدور والقفز عليه. كما لا مجال لاستصغاره والاستخفاف به. وهو ما لم تفهمه بعد قوى الثورة المضادة وعلى رأسها حركة النهضة التي مازالت تحلم بدولة الخلافة وسياسة التمكين والأخونة الناعمة للمنظمة النقابية وللمجتمع ككل. لكن دون طائل، إذ تفشل في كل مرة في محاولة التمكن من الطبقة العاملة ومنظمتها النقابية.
2) إنّ مدبّري مجزرة 26 جانفي 78 شأنهم في ذلك شأن عملية قفصة 80 وانتفاضة الخبز 84 وصولا إلى قتلة شهداء ثورة 14 جانفي 2011 وقتلة الرفيق شكري بلعيد ومحمد البراهمي مازالوا يتمتعون بالحرية كأنّ شيئا لم يكن. إذ لم تطلهم يد المحاسبة بعد ولم يقع تتبعهم قضائيا. فمتى ستقول العدالة الانتقالية كلمتها وقد مرت عقود على البعض منهم؟ وإلى متى يواصل الاتحاد العام التونسي للشغل الصمت في حق مناضليه وقياداته النقابية القديمة منها والحديثة؟ وإلى متى يستمرّ التناسي غير المبرّر وغير البريء لمثل هذه الملاحم النضالية التي سطّرتها الطبقة العاملة بدمها وعدم إحياء هذه الذكرى في كافة دور الاتحاد، إذ تمرّ مرور الكرام وتُسهم البيروقراطية عن وعي في محو ذاكرة النقابيين؟ لقد آن الأوان لإعادة إحياء هذه الذكرى وجوبا جهويا وقطاعيا. كما آن أوان التحقيق في المجازر وتحديد المسؤوليات وكشف العدد الفعلي لقائمات الضحايا الذين استشهدوا برصاص البوليس والعسكر والميليشيات وإعادة الاعتبار لهم والتعويض لعائلاتهم.
3) دخلت الطبقة العاملة المعركة بكل ثقة واقتدار وتعرضت إلى مجزرة رهيبة ستظل محفورة في ذاكرتها. لكنها ظلت صامدة وقاومت التدجين والتنصيب وتمسكت وماتزال باستقلالية قرارها والحال أنها لم تستند وقتئذ إلى تجربة نضال سياسي كاف ولم تكن مسلحة بنظريتها الخصوصية ولا بهيئة أركانها وقيادتها المستقلة. إذ عملت تحت قيادة البيروقراطية العاشورية التي أظهرت لا محالة – وبصورة استثنائية – درجة عالية من الجرأة والتصميم للمضي قدما في تبنّي مطالب الحركة النقابية ومسايرة النضال الجماهيري.
واليوم في مثل هذا المسار الثوري فإنّ الطبقة العاملة في حاجة إلى إعادة تسليحها بالبرنامج المباشر لاستكمال أهداف الثورة الديمقراطية الذي تمثله قوى اليسار الثوري الناهض من جديد. كما هي قادرة على فرض بديلها الديمقراطي الشعبي، غير مسموح لها أن تشكل وإلى الأبد احتياطيا للبرجوازية الكبيرة سواء في شقها الليبرالي المتوحش أو اليمين الظلامي المستبد. كما هو غير مسموح لها أن تبقى رهينة الاختيارات البيروقراطية النقابية المكبلة لتطلعاتها وتحررها وأنّ معاركها الخارجية تمرّ حتما بالتوازي مع معركتها الداخلية المتمحورة اليوم حول الديمقراطية النقابية وإبطال مهزلة المؤتمر الوطني الاستثنائي غير الانتخابي.
4) إنّ الأسباب الجوهرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدّت إلى انتفاضة 26 جانفي 78 مازالت قائمة – رغم الفوارق في التوقيت – إلى الناس هذا طالما المنظومة العامة اللاديمقراطية واللاشعبية والعميلة للعشر سنوات الأخيرة مازالت على حالها. بل واستفحلت وتعمقت أسباب اليوم لتنضاف إلى أسباب الأمس. وحتى وإن تمكنت القوى الثورية من إسقاط رأس الديكتاتورية والفساد فإنّ استبدادا جديدا قد خلفه وفسادا جديدا قد حلّ مكانه بل ربما أكثر بشاعة وفجاجة، ينضاف إليه ارتفاع منسوب الاحتقان والتوتر الاجتماعي والفقر والبطالة والتهميش والاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بالشغل والحق في التنمية تندلع كل يوم في كل الجهات والقطاعات مطالبة برحيل كل منظومة الفساد والفشل التي لا تتوانى في إنزال المدرعات وكل الترسانة العسكرية لقمع المحتجين والمتظاهرين العزّل والقصّر من أجل الدفاع عن مواقعهم في الحكم.
إنّ الحركة النقابية التي خاضت معاركة عديدة سلمية حينا وعنيفة أحيانا دفاعا عن شعاراتها المتمثلة أساسا في الاستقلالية والديمقراطية والنضالية مطالبة اليوم في ظل الأوضاع الثورية الجديدة بلعب دور أكبر من ذي قبل والانخراط الفعلي في نضال الشعب والمساهمة الأمامية في استكمال مهام الثورة. فلا مجال للحياد الوهمي والوطن تنهشه المافيا الجديدة ولا دعاية كاذبة لدور تعديلي للمنظمة والشعب بين مخالب اللليبرالية المتوحشة ووباء الكورونا الفتاك لأنّ الأمر بات من الخطورة بمكان لأن تنحاز الحركة النقابية وتنحاز منظمتها في الوضوح ودون لبس أو غموض إلى صف الثورة وتقف جنبا إلى جنب في الصف الديمقراطي التقدمي ضد الائتلاف الرجعي الظلامي.
ومن أجل ذلك يتحتم على المنظمة النقابية وعلى هياكلها وقياداتها المركزية بالخصوص التخلي عن بدعة الحوار الوطني المنقذ لائتلاف المجنزرات والمدرعات والغارق في وحل صراع المواقع والانحياز بالكامل إلى ائتلاف التقدمي المعارض من أجل إنقاذ البلاد وهو من صميم الدور الوطني للمنظمة. نريدها منظمة تعيد احتضان أبنائها لا ترحيهم ماكينتها الرهيبة، منظمة ديمقراطية تقطع مع البيروقراطية والتكلس والرداءة، منظمة تدافع عن تاريخها وتعيد رفع شعار “شهداء 26 أحنا ليكم مخلصين”، منظمة تتصالح مع ذاتها وتتخلى عن المؤتمرات الصورية والانقلابية، منظمة منتصرة لمئات الآلاف من المسرّحين والمطرودين قسرا في القطاع الخاص، منظمة مناهضة للخونجة لا متواطئة ومهادنة لها، منظمة معادية للاستعمار ومدافعة عن مناعة الوطن وسيادة الشعب.