علي البعزاوي
“الإصلاحات” مصطلح / شعار تداولت بشأنه ورفعته الحكومات المتعاقبة منذ 2012 إلى اليوم. وأرفقته أحيانا بصفات “الموجعة ” و”المؤلمة”. وقدّمته على أنه مفتاح الانفراج والشرط الذي لابدّ منه للخروج من الأزمة. وقد حاولت مرارا وتكرارا المرور إلى التطبيق العملي لكنها لم تنجح في ذلك إلاّ جزئيا بسبب الرفض الواسع من المنظمات والأحزاب الديمقراطية وعموم المتضررين من مختلف الفئات الاجتماعية.
وقد رفعت حكومة المشيشي كسابقاتها هذا الشعار، واعتبر وزير ماليّتها أنّ التنازل عن تطبيق هذه الإجراءات غير ممكن. وهو خط أحمر على حدّ قوله، أي أنه لا مفرّ اليوم من المرور بقوة نحو التنفيذ خاصة والبلاد تعيش على وقع أزمة شاملة وعميقة تتجه بها نحو الإفلاس.
فيم تتمثّل الإصلاحات ولصالح من؟
الإصلاحات هي جملة الإجراءات التي تتمثل في الضغط على كتلة الأجور ووقف الانتدابات في الوظيفة العمومية والقطاع العام وتحرير الأسعار برفع الدعم عن مجمل السلع والتفويت في المؤسسات العمومية للخواص وتحرير الدينار وتقليص الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وبيئة وغيرها… وهي في مجملها إجراءات مضرّة بالاقتصاد الوطني وبالقدرة الشرائية لعموم الأجراء والفئات الكادحة وبالمهمّشين والمعطّلين الذين انخرطوا في الثورة وقدّموا التضحيات للظفر بشغل يحفظ كرامتهم ويعزّز لديهم الشعور بالانتماء إلى الوطن. وهي بهذا المعنى إجراءات لا علاقة لها بالإصلاحات. بل تتنزل في خانة التدابير المضرّة والخانقة والمهمشة للأغلبية ولا يمكن قبولها.
إنّ هذه “الإصلاحات “مضرّة ومنتهكة لحقوق الأغلبية لكنها خادمة في المقابل لمصالح الأقلية المتمثلة في حفنة السماسرة المستحوذين على النسبة الأكبر من ثروات البلاد وتملك في الآن نفسه سلطة القرار السياسي والاقتصادي والمالي من خلال حكومة وبرلمان وأجهزة ومنظومة قانونية على قياسها. إنّ الدولة بكامل مؤسساتها وأجهزتها هي في الجوهر دولة هذه الأقلية الكمبرادورية ترعى مصالحها وتحميها وتوفر لها أسباب البقاء. وهذه الأقلية المالكة لوسائل الإنتاج تقدّم الرشاوي في شكل أجور وامتيازات ومناصب في الدولة للحفاظ على تفوّقها الطبقي المدعوم من الدول والشركات الاستعمارية صاحبة المصلحة في هذا الوضع. والدور الذي تلعبه المؤسسات المالية العالمية التي تُغدق القروض المشروطة بإملاءات يتنزّل في هذا الإطار أولا للإبقاء على هذه المنظومة وثانيا للحفاظ على مصالح الجهات المانحة.
هل بالإمكان تلافي هذه “الإصلاحات”؟
إنّ تجربة الحكومات المتعاقبة تؤكّد أنّ محاولات تكريس هذه “الإصلاحات” لم تتوقف. وقد تقدّمت أشواطا مهمة في ذلك ببيع عديد المؤسسات العمومية (مصانع الاسمنت – تونيزيانا وغيرها) إلى جانب عدد مهم من الأملاك المصادرة رغم أنها مؤسسات رابحة. وهي تهيّء لبيع مجموعة أخرى من المؤسسات مثل مصانع التبغ والوقيد والخطوط الجوية التونسية وفسفاط قفصة والصوناد والستاغ وبعض البنوك العمومية من خلال عمل ممنهج يبدأ بالتغافل عن الفساد وكلّ ما يضعف هذه المؤسسات ويدفعها نحو العجز والإفلاس ثم التدخل تحت عناوين إعادة الهيكلة والإصلاح تمهيدا لمرحلة البيع الذي عادة ما يتمّ بمقابل لا يتناسب مع القيمة الحقيقية للمؤسسة المفوّت فيها ويُرفق بتسريح جزء كبير من العمال والتضييق على ظروف عمل البقية واستغلالهم استغلالا مكثفا.
إنّ إجراءات الخصخصة والضغط على الأجور وغيرها من “الإصلاحات” المذكورة جزء لا يتجزّأ من الخيارات الطبقية التي تكرّسها المنظومة وتعمل على فرضها ولو على مراحل. وهي جزء من مشروعها المجتمعي المنحاز للبورجوازية الكمبرادورية ولا يمكن أن تتخلّى عنه وحتى إن فرضت عليها بعض التنازلات في ظروف وموازين قوى معينة تحت ضغط الاحتجاجات والإضرابات فسرعان ما تتراجع وتنقلب عليها في ظروف مغايرة.
إنّ أهداف منظومة الحكم الحالية التي لا تختلف عن أهداف المنظومة السابقة التي أطاح الشعب التونسي برأسها هو الحفاظ على سلطة البورجوازية الكبيرة العميلة وتفوّقها السياسي والاقتصادي والثقافي على حساب الشعب وعلى حساب السيادة الوطنية وعلى حساب المساواة والعدالة الاجتماعية مع اعتماد شكل ديمقراطي لتكريس هذه الخيارات عوضا عن الشكل الاستبدادي وهو الخلاف الوحيد بين المنظومتين القديمة والحالية.
العمليّة القيصريّة هي الحل
وللقطع نهائيا مع هذه الخيارات الخادمة لمصالح الفئات الكمبرادورية ومشغّليها من القوى الإقليمية والدولية والاستعاضة عنها بأخرى خادمة للأغلبية ومكرّسة للسيادة الوطنية والعدالة بين الفئات والجهات لا مفرّ من وضع حدّ لحكم المنظومة الحالية التي باتت غير قابلة للإصلاح لأنها مصمّمة مسبقا لخدمة أهداف طبقية محددة لا يمكنها الحياد عنها ولا تملك القدرة على مراجعتها وإحلال منظومة جديدة محلّها، منظومة مغايرة جذريا تقطع مع العمالة لصالح السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل وتُنهي الاستغلال والقهر الطبقيّين لصالح العدالة الاجتماعية والشغل القار والعيش الكريم والخدمات الأساسية الراقية والمجانية وتكرّس الديمقراطية الشعبية، أي الديمقراطية الواسعة التي تسمح بالمراقبة الشعبية والمتابعة والمحاسبة وحقّ المشاركة في القرارات والانتخاب الحر وسحب الثقة عند الاقتضاء بدل الديمقراطية الشكلية الحالية المحكومة بالمال السياسي الفاسد وبلوبيات الإعلام وبالتدخلات الخارجية. وتقرير محكمة المحاسبات يؤكّد هذه الوقائع.
الجمهورية الديمقراطية الشعبية هي الملاذ الآمن للأغلبية الشعبية وطريق خلاصها وتحرّرها النهائي. أمّا الإصلاحات في إطار دولة البورجوازية الكبيرة العميلة فمجرد بثّ للوهم ومغالطة الهدف منها ربح الوقت وتكريس الأمر الواقع.