علي البغزاوي
تخوض أطراف الحكم منذ مدة ليست بالقصيرة معارك ضارية استعملت فيها كل الأسلحة القانونية والسياسية والدعائية والأخلاقية. وراحت تبحث عن الدعم بأيّ ثمن بهدف الاستقواء ضد بعضها البعض. وقد غابت السياسة والمبادئ والبرامج عن هذه المعارك تاركة مكانها للاصطفافات والبحث عن التموقع. فالأحزاب المتهمة بالفساد أصبحت نظيفة اليدين في عيون الطرف المستفيد من دعمها. والخلافات السياسية التي شكلت دائما السبب الرئيسي والأهم في مجمل المعارك أسقطت ولم تعد تشكّل حاجزا أمام مساندة هذا الطرف أو ذاك ضد الطرف الآخر. المرحلة اليوم مرحلة كسر عظام وكل الأسلحة أصبحت مشروعة. هذه الصراعات قرّبت إذا المسافات وخلقت نوعا من الاستقطابات من فوق وهي تساهم بهذه الدرجة أو تلك في خلق أخرى في الأسفل. والجديد بالإضافة إلى احتدادها وتعفّنها هو خروجها للعلن وهي تلقى اليوم المتابعة من المواطن على الشاشات وعبر الإذاعات. ومن المثقفين وشباب الأحياء المهمش والأحزاب والمنظمات…
الإعلام أدلى أيضا بدلوه في هذه المعارك وخصّص لها المساحات مساهمة منه في تعميق الجراح وشد انتباه الراي العام في حركة الهدف منها ثنيه عن التركيز على قضايا الفساد والتنمية والشغل والخدمات الأساسية المتدهورة وعن ضرورة اتخاذ مواقف رافضة لهذا الواقع. خبراء الاقتصاد والقانون الدستوري دخلوا بدورهم على الخط وعبروا عن وجهات نظر متباينة والمنظمات والهيئات لم تبخل بالتعبير عن موقف من هذه القضية الخلافية او تلك.
البلاد برمتها أصبحت تعيش على وقع هذه الصراعات التي أصبحت حديث المواطنين في المقاهي وداخل الجلسات العائلية. البعض يستعملها للتسلية وملء الفراغ والبعض الآخر لشيطنة الجميع إيمانا منه بأنّ هذه الصراعات جاءت على حساب القضايا الأساسية للمواطن. والبعض الآخر يبحث عن الانحياز إلى هذا المعسكر أو ذاك وينتصر له ضد الآخر في سلوك يشبه سلوك جمهور الرياضة.
الصراع هو صراع مواقع
الجميع يدرك أنّ هذه الصراعات مدارها السيطرة على دواليب السلطة والتمكن من مؤسسات الدولة على حساب باقي الأطراف. فحركة النهضة التي تراكم عن طريق الأخونة الناعمة للمجتمع والدولة تبحث عن السيطرة على سلطات القرار بتوسيع حضورها داخل الحكومة وفي مؤسسات الدولة المختلفة وهي تشيطن وتستهدف كل من يقف في طريقها وتشغّل لأجل ذلك أبواق دعايتها وكلاب حراستها. ومن هذه الزاوية تعادي رئيس الجمهورية وكل الأحزاب التي تحاول التصدي لمشروعها داخل الحكم وخارجه.
أمّا حكومة المشيشي فيحاول رئيسها شق طريقه والحفاظ على موقعه ذي الصلاحيات الواسعة في انتظار شروط تشكيل أنصار وموالين وأتباع يقع تجميعهم حول مشروع /برنامج مثلما فعل يوسف الشاهد والياس الفخفاخ، مستعينا بما يسمّى بالحزام السياسي للحكومة المتشكل من النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس. وهو خيار براغماتي يبحث عن الربح السريع. المشيشي الذي جاء به قيس سعيد خيّر التعويل على الثلاثي المذكور وتنكّر لصاحب الفضل عليه، بل ذهب خطوات في تصفية الوزراء الذين عيّنهم في الحكومة وفي مقدمتهم وزير الداخلية الذي شغل رئيسا لحملة الرئيس الانتخابية.
أمّا الرئيس قيس سعيد فبالإضافة إلى محاولات التضييق على المشيشي وانتظار اللحظة المناسبة لإسقاطه من منصبه فهو في صراع مفتوح من جهة أخرى مع حركة النهضة بحثا عن صلاحيات أوسع سواء من خلال التمثل داخل الحكومة أو من خلال أدوار أوسع في السياسة الخارجية وعبر المؤسسات المختلفة.
تجري هذه الصراعات في ظل أزمة شاملة وعميقة تتجه بالبلاد نحو الإفلاس. وقد ساهمت في استفحالها وتعميقها وسدت الباب امام أي إمكانية للتخفيف من وطأتها وتداعياتها الكارثية. إنّ أولوية الأولويات بالنسبة إلى مختلف الأطراف المتصارعة هي تسجيل النقاط ضد الخصوم السياسيين والمراكمة والتقدم على طريق السيطرة على دواليب الحكم بعيدا عن هموم الشعب وقضايا البلاد.
صراعات لا مصلحة للشعب فيها
الصراع بين أطراف الحكم لا يتعلق بمشاريع سياسية واقتصادية وخيارات حكم. وحتى إن وجدت بعض الخلافات حول النظام السياسي الذي يريده قيس سعيد رئاسيا وتتمسك حركة النهضة ومعها المشيشي مبدئيا بالنظام الحالي، فهي ليست ذات أولوية ولا هي مدار هذه الصراعات وعنوانها الأبرز. إنّ الأطراف المتصارعة موحدة حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الخادمة للكمبرادور على حساب الأغلبية الشعبية، والمكرّسة للتبعية السياسية والثقافية والمالية للقوى الاستعمارية ولمؤسساتها المالية النهابة على حساب السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل. ولم نلمس خلافات بينها حول هذه المسالة. وهي موحدة أيضا حول الاستغلال وسياسات التهميش ودهورة الأوضاع الاجتماعية والخدمات الأساسية لعموم الشعب. مثلما هي موحدة حول التضييق على مساحات الحرية كلما تعلق الأمر باحتجاجات شعبية تشكّل خطرا على المنظومة. إنّ صراعات النهضة وقيس سعيد والمشيشي وحتى الأحزاب اليمينية التي تعبّر عن المنظومة القديمة وتحاول الاستفادة من الأزمة لاستعادة الحكم هي صراعات داخل نفس الخيارات الطبقية المنحازة للأقليات المتنفّذة على حساب الشعب.
إنّ الشعب وقواه الثورية والتقدمية وكل المعسكر الرافض لمنظومة الحكم بمختلف مكوناتها بحاجة إلى طريق أخرى ترفض السائد بكل أبعاده. والعلاقة المنطقية الوحيدة مع المنظومة هي علاقة صراع. صراع بين مشروعين متناقضين: المشروع السائد اليوم بما خلفه في وقت وجيز من تدمير وتهميش، والمشروع النقيض المنحاز إلى الشعب التونسي بكل فئاته وطبقاته ضد السماسرة ومشغّليهم من القوى الاستعمارية والرجعية الاقليمية وما سيفتحه من آفاق للنهوض والازدهار المستقل.
إنّ الاحتجاجات الشعبية والنضالات الجماهيرية الواسعة هي الوسيلة المثلى لخلق وتكريس استقطاب حقييي بدل الاستقطابات المغشوشة. استقطاب طرفاه منظومة العمالة والاستغلال والفساد السائدة اليوم بكل مكوناتها داخل الحكم وخارجه ومنظومة وطنية ديمقراطية بديلة منتصرة للأغلبية الشعبية.