مرتضى العبيدي
جيل الروّاد وتلازم قضيتي تحرّر العمال وتحرّر النساء
في خضمّ الحراك الثوري الذي هزّ البلاد التونسية بين 17 دجنبر 2010 و14 يناير 2011 والذي انتهى برحيل الطاغية، وما تلاه في لاحق السنين، تفاجأ الرأي العام العالمي من خلال ما كانت تنقله القنوات التلفزيونية خصوصا، بالحضور اللافت والنوعي للنساء والعاملات منهن بالخصوص، في مختلف مواطن الحضور وفي “البطحاء” بصفة أخصّ. والبطحاء هو الاسم الذي يُطلق على الساحة التي يقع فيها المقرّ المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل، والتي كانت دوما منطلق أهم التحركات الاجتماعية، والواقعة في نهج محمد علي الحامي، رائد الحركة النقابية التونسية ومؤسس أول منظمة نقابية تونسية، مستقلة عن نقابات المستعمر سنة 1924.
وبعد الإجهاز على هذه التجربة الأولى التي تحالفت ضدها القوى الاستعمارية وقوى اليمين الرجعي المحلي، وسجن زعمائها قبل نفيهم إلى خارج البلاد، خلّد الطاهر الحدّاد (1899 ـ 1935)، وهو الشاب خرّيج جامع الزيتونة تفاصيل هذه الملحمة الأولى في كتاب سيصبح مرجعا لا غنى عنه للدارسين تحت عنوان “العمال التونسيون وطهور الحركة النقابية”، تلاه بعد ثلاث سنوات كتاب ثان لنفس الكاتب بعنوان “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي أثار جدلا كبيرا داخل المجتمع بين من كان لا يرى تحرّرا ممكنا للمجتمع دون تحرّر نصفه المكبّل بالتقاليد والجهل والاضطهاد، وبين من كان يسعى إلى الحفاظ على الأوضاع على حالها بشتى التبريرات. وهو ما يبرز تلازم قضيتي تحرر العمال وتحرّر المرأة لدى ذلك الجيل من الروّاد.
المواقع القيادية: خط أحمر
لكن أين نحن اليوم من تلك المقاربة، وقد مرّ على البلاد ما مرّ من أحداث طوّرت المجتمع أيّما تطوير حتى أصبحت المرأة تحتل فيه المكانة المذكورة وتساهم من موقع الندّ للندّ مع الرجل في الشأن العام وفي الفضاءات العامّة ومنها الفضاء النقابي.
في أواخر سنة 2016 ، وخلال الأشهر التي سبقت انعقاد آخر مؤتمرات الاتحاد العام التونسي للشغل الذي انعقد في شهر يناير 2017 أي 71 سنة بعد تأسيس الاتحاد، كان الرأي العام النقابي بل وحتى الوطني منشغلا بمسألتين لا غير: هل يتم التراجع عن الفصل الذي يحدّد إمكانية الترشح للمسؤولية القيادية لدورتين والذي تم إقراره في مؤتمر 2002، وهل يتم كسر المحظور وانتخاب امرأة أو أكثر في المكتب التنفيذي الجديد؟ وتحقق ما حلمت به أجيال من النقابيات اللائي حرمن من هذا الحق على مدى تاريخ الاتحاد. وتباهى رجال الاتحاد بهذا الإنجاز ونسبوه لأنفسهم، بل وصل بهم الأمر الادعاء بأن هذا الأمر يحصل للمرة الأولى، بينما تؤكد الوقائع أن المكتب التنفيذي المنبثق عن المؤتمر الرابع للاتحاد المنعقد في شهر مارس 1951 والذي أعاد انتخاب فرحات حشاد أمينا عاما له، ضمّ من بين أعضائه المناضلة شريفة المسعدي، والتي شغلت خطة الكاتبة العامة لنقابة مدرّسي التعليم المهني من سنة 1947 الى سنة 1968.
وهو ما يطرح علينا السؤال: هل أن غياب المناضلات النقابيات في الهياكل القيادية للاتحاد متأتّ من ضعف الحضور النسائي في النقابات؟
حضور قاعدي كثيف وغياب مدوّ في القيادة
كلاّ وألف كلاّ. ورغم استحالة الحصول على أرقام دقيقة من قيادة الاتحاد حول حجم المرأة العاملة في الاتحاد، إذ أنهم يتصرّفون مع هذا المعطى كسرّ من أسرار الدولة، إلا أن المصرّح به في بعض المناسبات من هذا المسؤول أو ذاك أن حجم النساء العاملات المنخرطات في النقابات يتراوح بين 45 و54 ℅، وهو رقم يمكن تفسيره بما شهدته بعض القطاعات من الوظيفة العمومية من تأنيث. فقطاعات التربية والتعليم والصحة العمومية هي قطاعات يفوق عدد النساء فيها عدد زملائهم من الرجال. وقد كان لتعميم التعليم في ستينات القرن الماضي والذي شكّل أهم مصعد اجتماعي وقتها، أثر كبير في ولوج أعداد غفيرة من النساء إلى الشغل، ومنه إلى الحركة النقابية. كما أن نمط الإنتاج الرأسمالي التابع ومنوال التنمية المتبع منذ سبعينات القرن الماضي والذي فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام الرأسمال الأجنبي الباحث عن الربح الأقصى، والذي وفر له النظام القائم كل التسهيلات للانتصاب من توفير الأراضي لإقامة المشاريع بشكل شبه مجاني، والإعفاءات الضريبية وحقّه في تصدير أرباحه بالعملة الصعبة وخاصة توفير يد عاملة رخيصة من النساء أساسا، سيفتح الباب أمام أعداد هائلة من النساء إلى ولوج عالم الشغل في القطاع الخاص المحلي منه والأجنبي. وقد جسّد قانون27 ابريل 1972 السيئ الصيت والمتعلق بإحداث المؤسسات المصدّرة كليا هذا التوجه.
نضالية فائقة يقابلها جحود مدمّر
وقد برهنت العاملات الملتحقات حديثا بالشغل وبالعمل النقابي عن قدرة نضالية فائقة وعن إصرار كبير على افتكاك حقوقهن. وإذا كان أول إضراب شهدته الوظيفة العمومية في تونس، وهو القطاع الأكثر هيكلة وصاحب التقاليد في العمل النقابي، قد نفذه مدرسو التعليم الثانوي في شهر يناير من سنة 1975، فإن عاملات قطاع النسيج قد أنجزن أول إضراباتهن الكبرى في نفس السنة، بل إن إضرابهن العارم بمدينة قصر هلال بالساحل التونسي سنة 1977 كان أول مناسبة يضطرّ فيها النظام إلى إقحام الجيش في النزاعات الاجتماعية. لكن هذا الزخم النضالي لم يقابله سوى الجحود من البيروقراطيات النقابية المتعاقبة على رأس الاتحاد التي أغلقت أبواب المسؤولية أمام النساء النقابيات، إذ تركت لهن في أحسن الحالات التواجد في الهياكل القاعدية فحسب وأغلقت أمامهن إمكانية الوصول إلى الهياكل الوسطى والعليا.
ولعلّ الأرقام التالية تعطى صورة على هذا التدمير الممنهج. فالمؤتمر الأخير للاتحاد والذي شهد صعود امرأة إلى المكتب التنفيذي، حضره 547 نائبا من بينهم 37 امرأة فقط. ولم يختلف الأمر عن المؤتمر السابق والذي انعقد في خضمّ الحراك الثوري في تونس (دجنبر 2011) والذي لعبت فيه النساء دورا حاسما في عديد المحطات، لم تحضره سوى 12 نائبة من بين 518. وكانت النقابيات تجندن خلال كامل السنة التي سبقت المؤتمر الأخير في حملات مناصرة قوية لفرض حق النساء في التواجد في الهياكل القيادية للاتحاد اتخذت لها شعار “شريكات في النضال … شريكات في القرار”
خاتمة
تلك هي إذن المفارقة التي تعيشها النساء في منظمة من أعرق المنظمات النقابية في إفريقيا والعالم العربي، والمحمولة على النضال الاجتماعي الذي من بين أسسه المساواة. فالمتنفذون على رأس النقابات التونسية، وإن تبجحوا بكونهم أحفادا لمحمد على الحامي ورفيق دربه الطاهر الحداد وكذلك للمؤسس الشهيد فرحات حشاد، فإنهم في ممارساتهم يقفون على طرفي نقيض مع هؤلاء الرواد. ولعل التهميش الذي تعرفه “لجنة المرأة العاملة” ضمن هيكلة الاتحاد، وهي المنوط بعهدتها تطوير المشاركة النقابية للنساء وإعداد الأطر النقابية النسائية في كل المستويات، لدليل صارخ على هذه السياسات الإقصائية تجاه النساء العاملات. وهكذا تجد النساء العاملات أنفسهن في المجال النقابي أيضا في مواجهة مع الباطرياركية وحرّاس المعبد من البيروقراطية النقابية.