أ. د. عادل بن يوسف
تحتفل كلّ شعوب العالم ب مشارق الأرض ومغاربها في غرّة ماي من كل سنة باليوم العالمي للعمل أو يوم العمّال العالمي أو عيد العمّال أو عيد العمل أو عيد الشغل… (باختلاف الدول). وهو يوم راحة لمئات الملايين من العمّال في العالم، حيث تنتظم خلاله احتفالات وعروض وتظاهرات ثقافية وفنية بدول ويكرّم فيه العمّال بالفكر والساعد وتُلقى فيه الخطب من قبل قادة النقابات والمنظمات الشغيلة والأحزاب السياسية وحتى الرؤساء والملوك والأمراء… وإذا ما استثنينا قلّة، فإنّ تاريخ ورمزيّة هذا العيد وظروف إقراره تبقى مجهولة من قبل غالبيّة التونسيّين.
بمدينة شيكاغو الأمريكيّة بدأت القصّة:
يعود عيد العمال إلى عام 1869، إذ شكّل عمّال قطاع الملابس في فيلادلفيا الأمريكية ومعهم بعض عمّال الأحذية والأثاث وعمّال المناجم، منظمة “فرسان العمل” كتنظيم نقابى يناضل من أجل تحسين الأجور وتخفيض ساعات العمل، واتّخذ التنظيم من 1 ماي يوما لتجديد المطالبة بحقوق العمال.
وجاء يوم السبت غرّة ماي 1886 ليشهد أكبر عدد من الإضرابات العمالية فى يوم واحد فى تاريخ الولايات المتحدة واستمر حتى 4 ماي بنجاح وبشكل سلمى. وفي هذا اليوم طالب عمال مدينة شيكاغو بعقد اجتماع ووافقت السلطات على الاجتماع الذي عُقد بساحة “هايماركت سكوار “Haymarket Square“، حضره عمدة شيكاغو وجلس العمال يستمعون إلى مطالب قادتهم في ساعات محددة تعطي لصاحب العمل حقه وتعطي العمال حقهم في الراحة. وبالتوازي مع هذا تمّت قبلها الدعوة إلى مظاهرات في عدد من المدن الأوروبية، للمطالبة بقانون يحدد ساعات العمل بـثمان ساعات. وبعد فترة قصيرة نهض العمدة وغادر المكان ولم تمضِ دقائق حتى فوجئ العمال بقدوم رجال الشرطة لفضّ الاجتماع بالقوة. وهنا تعالت أصوات العمّال قائلة: “لماذا صرّحتم لنا بالاجتماع وتريدون فضه بالقوة؟”.
وسط هذه الفوضى والهيجان، انفجرت قنبلة لا أحد يدري مأتاها، فردّ البوليس بأسلحته النارية وبدأ إطلاق النار والقبض على العمّال. وفى اليوم الموالي اتّهمت الصّحف التي كانت في معظمها على ملك أو موالية لأصحاب المصانع ورؤوس الأموال، العمّال بالتخريب والفوضى. وفى ظل هذا الجوّ المتوتّر حوكم زعماء العمّال وكانت أبشع محاكمة في تاريخ القضاء الأمريكي، حيث لفّقت الحكومة للعمّال الموقوفين تهمة تفجير القنبلة وأصدرت المحكمة حكمها على كل من: “أوقيست – فانسان- تيودور سبايز ” August– Vincent- Theodore Spies “، “ألبرت بارسونز “ Albert Parsons“، “أدولف فيشر” Adolph Fischer“، “لوي لينغ “Louis Lingg” و”جورج إنجل “George Engel“ بالإعدام، في حين حكمت على “أوسكار نيب” و “صامؤيل فيلدن” و“مايكل شواب” بالسجن مدى الحياة. وفي 10 نوفمبر 1887 انتحر “لينج” بواسطة كبسولة من الديناميت وضعها في فمه، قبل أن يساق رفاقه الأربعة في اليوم الموالي إلى حبل المشنقة. وبينما كان الحبل يلتفّ حول عنقه صرخ “أوقيست سبايز“: ” سيكون هناك وقت يكون فيه صمتنا أقوى من الأصوات التي تخنقها اليوم”. أمّا زوجته الحاضرة فكانت تقرأ رسالة كتبها زوجها لابنه الصغير “جايمي “Jimmy“ (يدعى جيم) جاء فيها: “… ولدي الصغير عندما تكبر وتصبح شابا وتحقّق أمنية عمري ستعرف لماذا أموت… ليس عندي ما أقوله لك أكثر من أنني بريء… وأموت من أجل قضية شريفة ولهذا لا أخاف الموت وعندما تكبر ستفخر بأبيك وتحكى قصته لأصدقائك”.
وللتذكير وُلد “أوقيست سبايز” سنة 1855 بألمانيا وهاجر إلى الولايات المتحدة سنة 1872 واستقرّ بشيكاغو حيث عمل بالتنجيد (صناعة الأثاث المنزلي)، ثمّ انخرط في العمل النقابي. وفي سنة 1877 انضمّ إلى حزب العمل الاشتراكي. وبعد ثلاث سنوات بدأ الكتابة في صحيفة “ Anarchist Newspaper” الفوضوية [1877-1931] ليصبح في سنة 1880 محّررا قارا بها. وقد اكتسب شهرة بفضل خطبه الحماسية والعنيفة أحيانا.
وظهرت الحقيقة بعد 11 سنة:
في سنة 1897، كان محافظ الشرطة، “جون بونفيلد “John Bonfield” قد خرج على المعاش ودخل في مرض الموت فتحرّك ضميره ليعترف لإحدى الصّحف بشيكاغو بالحقيقة قائلا: “… إنّ الشرطة هي التي ألقت القنبلة وأنا الذي لفّقت التهمة للعمّال…”. هزّ اعتراف مدير الشرطة كل الولايات الأمريكية كما هزّ قلوب العمال في العالم كله، لذا طالب الرأي العام الأمريكي والدولي بإعادة المحاكمة لإثبات براءة العمّال. وهو ما تمّ فعلا. وإثر هذه المحاكمة الثانية تقرر اعتبار غرّة ماي عيدا عالميا للعمال. أمّا الطفل جيم فقد رفع رأسه بين زملائه بالمعهد والحيّ بمدينة شيكاغو ونشر رسالة أبيه إليه في الصّحف والمجلات التي حققت مبيعات قياسية.
غرّة ماي عيدا للعمّال بالولايات المتحدة وسائر دول العالم:
إثر وفاة عمّال على أيدي الجيش الأميركي فيما عُرف بإضراب بولمان عام 1894، سعى الرئيس الأمريكي “جروفر كليفلاند” (1837-1908) إلى عقد مصالحة مع حزب العمل الاشتراكي، تمّ إثرها تشريع عيد العمال وإعلانه إجازة رسمية يوم 1 ماي. لكنّه بقي قلقا من تقارب اليوم الدولي للعمال مع ذكرى “هايماركت سكوار” في 4 ماي 1886 التي ارتبطت بالفوضى وسفك الدماء… لذلك اعتبر أول يوم اثنين في شهر سبتمبر يوما ملائما للاحتفال بعيد العمال.
تجاوزت قضية “هايماركت” حدود الولايات المتحدة ليبلغ صداها عمال العالم حيث أحيا المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية ذكراها في العاصمة الفرنسية باريس في 01 ماي 1889 وتمت الدعوة إلى مظاهرات دولية لإحياء ذكرى “هايماركت” عام 1890، وفي العام الموالي اعترفت الأممية الاشتراكية في مؤتمرها الثاني بعيد العمال حدثا سنويا.
وفي عام 1904 دعا اجتماع مؤتمر الاشتراكية الدولية في أمستردام جميع المنظمات والنقابات العمالية، خاصة الاشتراكية منها في جميع أنحاء العالم إلى عدم العمل في الأول من ماي من كل سنة، وتم السعي إلى جعله يوم إجازة رسمية في عشرات الدول. وفي عام 1955 باركت الكنيسة الكاثوليكية الأول من ماي عيدا للعمال، واعتبرت القديس يوسف أو يوسف النجار شفيعا للعمال والحرفيين، فيما سارت الولايات المتحدة على تقليدها القديم، واعتبرت أول يوم اثنين من شهر سبتمبر من كل عام عيدا للعمل، وكذلك الأمر في كندا. وتمسّك الاشتراكيون والشيوعيون الأميركيون والفوضويّون، بإحياء غرّة ماي وتنظيم مظاهرات ومسيرات في شيكاغو ونيويورك وسياتل… الخ. وفي عام 1958 اعتبر الكونغرس الأميركي هذا اليوم “يوم وفاء لذكرى هايماركت”، خاصة بعد أن حظي بالتقدير من دول عديدة وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي. لذا أعلن الرئيس الأميركي حينها، “دوايت – دافيد أيزنهاور “Dwight David Eisenhower“ (1890-1969) غرّة ماي يوم إجازة رسمية، وكانت مناسبة للتعبير في تظاهرات ومسيرات عن مواقف تتعلق بقضايا سياسية واجتماعية، من قبيل مسيرة دعم حقوق العمال الذين لا يحملون وثائق غير شرعية من بين المهاجرين.
الشّغيلة بتونس تُحيي غرّة ماي منذ بدايات فترة الحماية:
منذ انتصاب الحماية الفرنسية بتونس في 12 ماي 1881 تشكلت نواة لطبقة شغيلة ضمّت عمّالا من جنسيات مختلفة كانت تعمل في عديد القطاعات كالنجارة والحدادة والبناء والأشغال العامة والبلدية والتعدين والمطاحن والمقاطع والرصيف والملاحات والجلود والمخابز والضيعات الفلاحية والورشات والمناجم والمصانع… التي كانت على ملك الصناعيين ورجال الأعمال والمعمّرين الأوروبيّين، لا سيّما الفرنسيّين والإيطاليّين منهم. وقد تنامى تدريجيا حجم هذه الطبقة بتنامي ظاهرة الاستغلال الاستعماري، بعد الحرب العالمية الأولى وخاصة الثانية وانضمام العاملين بالفكر لهم، كالتعليم والبريد والصحة… وأمام استغلال هذه الطبقة من قبل مشغّليهم، كان من الطبيعي أن يفكر الشغالون في بعث نقابات تدافع عن مصالحهم المادية والمعنوية. وتأكيدا لذلك نشأت منذ سنة 1893 “الغرفة النقابية لعمال الخشب والنجارين بتونس”Chambre Syndicale des Ouvriers charpentiers et menuisiers” و”النقابة الدولية لعمال النجارة بتونس” Syndicat International des ouvriers menuisiers” و”جمعية الحلاقين المتحدين”Société des Coiffeurs réunies” بموجب تشريع 1888 حول الجمعيات. وفي 1894 نشأ أول تنظيم نقابي بتونس يحمل اسم “اتحاد العمال الفرنسيين “L’Union des Travailleurs Français” ترأسه الوجه الاستعماري الشهير فيكتور دي كرنيار “Victor De Carnières” صاحب صحيفة “تونس الفرنسية “La Tunisie Française“. وفي سنة 1900 نشأت “الشركة الدولية لعمال البناء بتونس “Société Internationale des Ouvriers maçons de Tunis” ببادرة من الفرنسيّين.
وفي 1 ماي 1904 احتفل العمال الفرنسيّون والايطاليّون والتونسيّون لأول مرة بذكرى عيد الشغل العالمي. ومنذ تكوين الجامعة الاشتراكية بتونس سنة 1908 ثمّ الاتحاد الاقليمي “L’Union Départementale” التابع للكنفدرالية العامة للشغل الفرنسية “C.G.T” منذ سنة 1911 و”C.G.T.U” منذ 1919، أصبحت الاحتفالات بعيد الشغل بتونس تتمّ تحت إشراف هذه الهياكل بتنظيم استعراض شعبيّ للعمال من مختلف القطاعات يجوبون منذ التاسعة صباحا شوارع “جول فيري” (شارع الحبيب بورقيبة اليوم) و”قبمطّا” (شارع محمد الخامس اليوم) إلى غاية محطة “T.G.M” بتونس البحرية ومحطّة القطار الجنوبية (محطة برشلونة اليوم) ببدلات زرقاء جديدة، رافعين لافتات النقابات والمؤسّسات والقطاعات التي ينتمون إليها والرايات الحمراء رمز للحركة العمالية ولوحدة العمال على الصعيد العالمي. وهي إشارة للمطالبة بالمزيد من العدالة للعمال أينما وجدوا على بقاع الأرض، وأنّ هذا اليوم هو يوم خاصّ بهم. كما تُرفع الرايات الفرنسية والايطالية مقابل غياب العلم التونسي… ويردّدون نشيد الأممية العمالية والنشيدَيْنِ الفرنسي والإيطالي بحضور أفراد عائلاتهم من نساء وأطفال وتلاميذ وشبان وشيوخ… وفي حدود منتصف النهار يتوجهون إلى مقرّ بورصة الشغل، حيث يلقي رئيس الجامعة وأعضائها وبعض المسؤولين النقابيّين أمام العمال خطبا رسيمة بالمناسبة يستعرضون فيها أوضاع الطبقة الشغيلة بتونس وعلاقتها بالحكومة بكل من فرنسا وتونس والصعوبات التي تواجههم وانتظاراتهم من الأعراف والحكومة. ويختتم التجمّع العمالي بتوسيم المتميّزين في قطاعاتهم. وباتساع عدد العمال، أصبحت تنتظم بالمدن الكبرى التي تضمّ قاعدة عمّالية مهمّة على غرار بنزرت وفيري فيل (منزل بورقيبة اليوم) وصفاقس وسوسة وقابس والقيروان وسوق الأربعاء وباجة وماطر… تجمّعات مماثلة. كما تلقى محاضرات حول تاريخ الحركة النقابية من قبل مختصين (أساتذة ومثقفين وصحفيّين…)، إضافة إلى تنظيم عروض موسيقية ومسرحية وأشرطة سينمائية وألعاب فرجوية…، مجانية لفائدة العمال وعائلاتهم بقاعات السينما والساحات العامة في اليومين أو الثلاثة أيّام التي تسبق غرّة ماي.
وبنشأة جامعة عموم العملة التونسية على يد محمد علي الحامي في ديسمبر 1924 لم يقع إحياء ذكرى عيد العمّال بسبب محاكمته مع رفاقه في جانفي 1925 ونفيهم خارج البلاد. وإثر إحياء الجامعة من قبل رفاق دربه في جوان 1936 بقيادة بلقاسم القناوي، أصبح التونسيون يحتفلون بغرّة ماي على طريقتهم الخاصة برفع الرايات التونسية وترديد نشيد الثورة (حُماة الحمى)… كما أقرّ الماريشال “بيتان” تحت الاحتلال النازي أن يكون 01 ماي 1941 “عيدا للشغل والوفاق الاجتماعي “Fête du Travail et de la Concorde sociale“.
تأسيس الاتّحاد العام التّونسي للشّغل والنّقلة النّوعيّة في الاحتفال بعيد الشّغل:
بداية من 01 ماي 1946 اتخذ الاحتفال بعيد الشغل طابعا لا مثيل له بقيادة الاتحاد التونسي للشغل الناشئ في 20 جانفي 1946 وأمينه العام، الزعيم فرحات حشاد.
كما أدّت الاجتماعات والمسيرات التي ينظمها الاتحاد بتونس العاصمة وسائر المدن التونسية بزيّ الشغل يوم غرّة ماي من كل سنة ومعارك أوت 1947 منها (إضراب 4 أوت 1947 الذي سقط على إثره 29 قتيلا و150 جريحا يوم 5 أوت وإضراب التجار في جوان 1947 احتجاجا على السياسة الجبائية، إلى جانب إضرابات عمال الضيعات الفلاحية الاستعمارية…، إلى اقتلاع اعتراف الباي والمستعمر الفرنسي بيوم غرّة ماي عيدا وطنيا للشغل ويوم راحة خالصة الأجر بداية من سنة 1948 بعد أن تمّ إقراره كذلك بفرنسا واليابان وروسيا وإفريقيا الجنوبية منذ سنة 1947.
وبمناسبة عيد الشغل العالمي كان أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد يحيون عيد الشغل بتونس وكافة مدن البلاد ببعث لجنة وطنية ولجان جهوية تُعنى بهذه الاحتفالية ويضبط برنامجا متكاملا يتضمّن: الانطلاق في مسيرة للعمّال من مقرّ المنظمة (المقرّ القديم الكائن بزنقة سيدي عامر نهج سيدي بن عروس) بكبرى شوارع العاصمة والمدن الداخلية بأزياء زرقاء جديدة رافعين الراية التونسية وراية الاتحاد يتلوها تجمّع شعبي بكبرى الساحات العامة بالعاصمة (ساحة القصبة) والساحات المجاورة لمقرات الاتحادات الجهوية، يلقي فيها الأمين العام خطابه السنوي المعتاد والكتاب العامون للاتحادات الجهوية خطبا مماثلة أمام العمال والمسؤولين النقابيّين لتقديم التهاني لهم والوقوف على الأوضاع المادية والاجتماعية للطبقة الشغيلة التونسية ونضالاتها ضد الاستعمار وقوّة رأس المال بتونس والمكاسب التي تحققت لهم بالنضال والتفاوض… وتُختم التجمعات بتوسيم بعض العمّال والقادة النقابيّين بوسام الشغل “وسام محمّد علي للاستحقاق النقابي”… وعلى سبيل المثال وكعادته كل سنة، ألقى الزعيم فرحات بساحة القصبة يوم غرّة ماي 1951 خطابا بساحة القصبة حضره آلاف العمّال والجماهير من كامل تونس العاصمة والمدن المجاورة (حوالي 100.000 شخص) جاء فيه: “… عيد الشغل أصبح عيد الشعب، عيد تونس، عيدٌ أعظمُ عبرة، عيدُ السّواعد القوية، عيدُ التضحية، عيدُ الثورة الاجتماعية التي حرّرت الشعوب من الأغلال… إنّ احتفالكم بعيد الشغل له معنى وأيّ معنى فلا بدّ بعد الاحتفال بهذا العيد أن يُفتح باب جديد للنّضال حتّى نقضي على قوى الرّجعيّة وحتّى نكسر القيود التي تغلّ شعبنا… “. وفي هذه الكلمات التي ربط فيها حشّاد العظيم بين النضال العمالي والنضال الوطني أكثر من معنى. وبعد هذا التجمّع غالبا ما يتحوّل حشاد لترؤّس اجتماعات داخل المملكة وفق تناوب تمليه الظروف المحلية ونشاطات الاتحادات الجهوية والمحلية دون تمييز جهة عن الأخرى. مثال: 1 ماي 1949: تجمّع عمالي برئاسة حشاد بسوسة ثمّ بالجمّ فصفاقس… الخ.
احتفالات الاتّحاد بعيد الشّغالين منذ مطلع الاستقلال إلى غاية اليوم:
بحصول تونس على استقلالها التام في 20 مارس 1956 تواصل إحياء الشغالين لعيدهم بشكل أكثر كثافة وانتشارا وحماسة من الفترة الاستعمارية، لا سيّما بعد اغتيال مؤسّس وزعيم المنظمة الشغيلة في 05 ديسمبر 1952. كما أقرّت حكومة الاستقلال منذ سنة 1956 ما تمّ منذ سنة 1948، غرّة ماي يوم راحة خالصة الأجر بالرائد الرسمي. كما دأب الأمناء العامون المتعاقبون على المنظمة (أحمد بن صالح، أحمد التليلي، الحبيب عاشور، البشير بلاّغة…) ضبط برنامج وطني متكامل احتفاء بهذه المناسبة يتضمن تجمّعا أمام المقر الجديد للمنظمة بساحة محمّد علي الحامي، يليه استعراض بشوارع العاصمة وكبرى المدن على الأقدام وبالعربات المعدة للغرض للمؤسّسات الصناعية العمومية، رافعين الرايات الوطنية ورايات الاتحاد بحضور وزراء ومسؤولين كبار في الدولة والحزب أو من ينوبهم بالجهات: ولاّة ومعتمدين وكتاب عامين للجامعات الدستورية للحزب تجمّعات كبرى. وقبل يتمّ التوجّه إلى ضريح الزعيم الشهيد ووضع باقة زهور بضريحه بالقصبة أو بمكان اغتياله برادس وبالساحة والتمثال الذي يحمل اسمه بمدينة سوسة وسائر المدن الجمهورية، يليه تجمع عمالي ضخم ببورصة الشغل وتجمعات مماثلة بقاعة الاجتماعات بكل اتحاد جهوي… يتمّ خلالها تقييم وضع المنظمة الشغيلة والإعلان عن جديد المفاوضات الاجتماعية لفائدة الشغالين…
وبعد الظهر يتمّ استقبال كامل المكتب التنفيذي للاتحاد ورؤساء وأعضاء الجامعات العمالية وعدد من العمّال المثاليين من طرف رئيس الجمهورية بالقصر الرئاسي بقرطاج حيث يلقي أمامهم الرئيس الحبيب بورقيبة خطابا يهنئ فيه الشغالين بالفكر والساعد بعيدهم ويعلن عن إجراءات جديدة لفائدتهم (الزيادة في الأجور – تشريعات وإجراءات اجتماعية لفائدتهم…). كما يلقي الأمناء العامون للاتحاد كلمات بالمناسبة يذكرون فيها برمزية العيد ويطرحون مشاغل المنظمة وانتظارات الشغالين من النظام الحاكم. ويُختم الحفل بتكريم المتميّزين من العمّال في تلك السنة بوسام الاستحقاق المهني “وسام فرحات حشّاد” أو بجائزة العامل المثالي… وغالبا ما يتمّ دعوتهم إلى تناول فطور الغذاء معه وتبادل ذكريات النضال معا ضد الاستعمار. ورغم تتوتر العلاقة بين الطرفين منذ أواخر سنة 1977 والصدام بين الطرفين في أحداث الخميس الأسود يوم 26 جانفي 1978 وفي سنة 1985 بسبب قضيّة الشرفاء…، فقد تواصل العمل بهذه الطريقة إلى أواخر فترة الحكم البورقيبي ولو ببارقة أقلّ.
وبعد 7 نوفمبر 1987، تواصل إحياء عيد الشغالين لكنه أصبح احتفالا مصطنعا بلا طعم ولا رائحة بسبب احتواء النظام لبعض الأمناء العامين وإدخال المنظمة الشغيلة لبيت الطاعة بحجّة “السلم الاجتماعية”. وبهذه المناسبة تحوّلت الكلمات الرسمية لكل من إسماعيل السحباني وعبد السلام جراد للإشادة بحسن خيارات النظام الحاكم وتفانيه في خدمة مصالح الشغالين…، رغم ما نالهم من ضيم وظلم (طرد تعسفي وخروج مبكّر..) نتيجة سياسة الخصخصة وإملاءات المنظمات النقدية الدولية وجشع رؤوس الأموال المقرّبين منه أو ممّن هم في حماية النظام.
وبعد سقوط منظومة الاستبداد والحزب الواحد في أعقاب ثورة الحرية والكرامة (17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011)، فَقَدَ عيد الشغل بريقه العادي الذي خيّم على تونس وفرض نفسه كيوم فرحة وعيد للشغالين بالفكر والساعد منذ 01 ماي 1904. لقد ثبت للعيان أنّ الحكومات المتعاقبة على إدارة البلاد كانت وما تزال معادية للطبقة الشغيلة بدليل أحداث 04 ديسمبر 2012 التي قادتها “روابط حماية الثورة” وسعي الحزب الديني الحاضن لها منذ زمن حكومة الترويكا (غير المأسوف عليها) إلى خلق منظمة شغيلة موازية وتركيع الاتحاد بكلّ السبل، رغم الدور التاريخي للمنظمة الشغيلة إلى جانب منظمات وطنية أخرى في رعاية الحوار الاجتماعي وتجنيب البلاد هزّات اجتماعية، كادت تقوّض مكاسب ثورة الحرّية والكرامة وتقود البلاد إلى حرب أهلية لا يمكن التكهّن بعواقبها.
واليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، تأكدت الحاجة إلى إصغاء السلطة لأصوات القيادة والقاعدة العمالية صلب منظمتهم العريقة، الاتحاد العام التونسي للشغل لتغليب صوت العدالة الاجتماعية وتشريكهم في إرساء أسس نظام اقتصادي جديد، يقطع مع كل أشكال العولمة والنظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي السائد منذ مطلع التسعينات، الذي أثبت وحشيته وإفلاسه… والتأسيس لمرحلة جديدة تسود فيها القيم الأخلاقية والإنسانية التي تضمن للعمال والشغالين بالفكر والساعد ومكتسباتهم ومقوّمات العيش الكريم وفي مقدمتها عيد الشغل في تونس ما بعد زوال جائحة الكورونا!