جيلاني الهمامي
أحيى السبت غرة ماي 2021 العمّال في كل أركان العالم ذكرى عيد العمال العالمي. وهو عيد تحوّل مع مرّ الزمن منذ الإعلان عنه والاعتراف به من قبل كل حكومات العالم إلى مناسبة احتفالية رسمية تحييه مؤسسات الحكم التابعة للحكومات ولاتحادات الأعراف وللنقابات العمالية على حدّ السواء، حتى الاحتفالات النقابية نفسها فقدت – قياسا بما كانت عليه هذه الاحتفالات في بدايات القرن وفي العقود الماضية – من وهجها الثوري وطابعها الكفاحي الكثير.
اعتماد يوم غرة ماي عيدا للعمال في العالم جاء تتويجا لمسار كامل من النضال عاشت فيه الطبقة العاملة (في العالم المصنّع أوروبا وأمريكا خصوصا) مواجهات كثيرة ودامية مع أصحاب المؤسسات والمصانع الرأسماليين. وباعتماده تم تثبيت جملة من المكتسبات التاريخية مثل الاعتراف بيوم عمل بثمان ساعات وتحسينات في الأجور وفي ظروف الشغل مثل إجراءات السلامة المهنية والتغطية الصحية وعلى الشيخوخة. ومعه انفتح أمام العمال أيضا عهد نضال جديد لمواجهة تحديات من نوعية جديدة. وقد أمكن خلال هذا المسار الذي استغرق ما يزيد عن قرن تحقيق مكتسبات جديدة سواء بسبب تطورات سياسية تاريخية كبرى شهدها العالم على غرار نجاح الثورة العمالية في روسيا وفي عدد من البلدان الأخرى أو في إطار مؤسسات دولية تم بعثها (منظمة العمل الدولية والمكتب الدولي للشغل) لتلطيف الصراع الطبقي على النطاق العالمي.
في كلمة جَرَت، منذ الاعتراف بغرة ماي عيدا عالميا للعمال، الكثير من المياه وتدفقت تحت جسور عالم الشغل وعموم المجتمع المعاصر سيول كثيرة.
في غضون ذلك اشتغلت مؤسسات الإعلام ومراكز البحث والدراسات وكل آليات التخدير الأيديولوجي على إيهام العمال بإمكانية إصلاح نظام الاستغلال البرجوازي وإكسائه طابعا “إنسانيا”. وفي هذا الإطار راجت مقاربات وأفكار وسموم كثيرة خلقت مناخات ملائمة لتوطيد نفوذ البرجوازية وتثبيت سيطرتها على جميع مناحي الحياة بكامل الأريحية والسهولة.
لا يعني ذلك أنّ الطبقة العاملة ألقت السلاح واستسلمت. لقد استمرّ النضال العمالي ضدّ واقع البؤس والاستغلال الرأسمالي وسجل العمال أمثلة رائعة من البطولة وخطّوا ملاحم كثيرة في عدد لا يحصى من مواقع الإنتاج في كل قارات العالم. فمنذ نهاية العقد السابع من القرن الماضي رَكِبت الرأسمالية العالمية جواد التنظيرات نيو-كلاسيكية لمدرسة شيكاغو وإضرابها وتحت غطاء العودة إلى “الأصول” في أجواء انتصاريّة وقحة شنّت هجوما كاسحا على المكتسبات الاجتماعية والمادية التي راكمتها الحركة العمالية. ضمن هذا الهجوم اتخذت جملة الخطط الاقتصادية “الجديدة” (الخوصصة وعولمة الاستثمار والتجارة…) وأخرى اجتماعية (تحرير الأسعار ومراجعة أنظمة التأجير ونظم التغطية الصحية…). تمّ ذلك تحت جلبة دعاية مكثفة لمجتمع الرخاء والرفاهية. لكن سرعان ما كذّبت الوقائع تلك الدعايات ووعودها. فمنذ منتصف الثمانينات دخلت الرأسمالية العالمية في أزمة متواصلة تتابعت فيها سلسلة من الأزمات المالية وانهيارات أسواق الأسهم لعلّ أشدّها كانت أزمة أكتوبر 2008.
لقد عادت الرأسمالية لأشكال الاستغلال البشع وتمّ التخلي، وبوضوح بلغت درجات عالية من الصلف والوقاحة عن أشكال التلطيف القديمة الموروثة عن “الفوردية” fordisme ووجدت الحركة النقابية العالمية نفسها أمام تحدي العولمة والليبرالية الجديدة. وجرت محاولات كثيرة ومتنوعة لصياغة مثال عولمة مضاد (عولمة النضال في وجهة العولمة الليبرالية) ولكنّ أجهزة المقاومة التي تمّ وضعها كانت محكومة بالمفاهيم النقابية الموروثة عن عصر “السيزل” النقابي.
هيمنت “السيزل” طوال أكثر من خمسين سنة على الحركة النقابية العالمية وتمكنت من نشر المفاهيم النقابية لـ”العالم الحر” التي كانت تموّلها الاحتكارات الرأسمالية الكبرى. وفي خلال كل هذه المدة ترسخت المفاهيم المقدسة للتعاون الطبقي و”التآخي” بين العمال وأصحاب رأس المال. لذلك عندما كشّر الذئب الرأسمالي عن أنيابه الليبرالية المتوحشة استمرّ “الحَمَل” النقابي على نهج نفس المفاهيم السائدة.
كأنما التاريخ يعيد نفسه. وكأننا ننطلق من الصفر حتى وإن كان الأمر لا يستقيم بلغة العلم والتاريخ. فالعالم اليوم واقع تحت سيطرة رأس المال في نسخة ليبرالية تتشابه إلى حدّ كبير على أكثر من صعيد مع فترة ما قبل انبلاج القرن العشرين رغم الفوارق العملاقة التي نشأت من نهاية القرن 19 حتى اليوم. لذلك يحتاج إلى حركة نقابية – والأصح حركة عمالية – شبيهة في كفاحيتها ونضاليتها بحركة الأربعين سنة التي كان ماركس وأنجلز (وكذلك زعماء فوضويين كبار من طراز باكونين وبلانكي رغم الضرر الجسيم الذي ألحقوه بالحركة آنذاك) شاهدين عليها. فمن غير الملائم أن يكتفي العالم بمنجزات نضال ما قبل عهد ريغن – تاتشر رغم كلّ ما شهد العالم من تطورات في حقل الإنتاج والعلاقات الطبقية.
“غرة ماي” جاء كما سبق أن قلنا كتتويج لمسار نضال لما سبق تاريخ أحداث شيكاغو وتاريخ الإعلان عنه رسميا عيدا عالميا للعمال، وهو بهذا المعنى مجد من أمجاد تلك الفترة. اليوم وقد دخل ذلك المجد وغيره من الأمجاد ذات الصلة خانة الحاصل في الحياة اليومية من جهة وبات في نفس الوقت تحت القصف اليومي للتقليعات الجديدة في مجال استغلال قوة العمل أصبح من اللاّزم أوّلا حماية هذا المكتسب وثانيا إنجاز مجد العصر الحالي. إذ لا يمكن أن يكتفي عالم الشغل بالعيش على منجزات الماضي وأمجاده.
صحيح أنّ حركة النضال لم تتوقف عن البحث عن صيغ مستجدة لنضال يتلاءم والتحديات الجديدة ولا شك في أنّ القادم سيأتي بما من شأنه أن يملأ هذا الفراغ. فالإنسانية قد مرّت بمنطقة جدب منذ مستهل سبعينات القرن الماضي كما سبق أن مرت بفترات شبيهة. وهي ناهضة بالضرورة وسترمي عنها ما علق بها من قيود وأغلال. وبالقدر الذي تبدو احتمالات عودة العمال إلى الهجوم وافتكاك المبادرة صعبة بمقاييس موازين القوى الحالية بذات القدر ستساعد التطورات العظمى التي عرفتها جوانب كثيرة من حياة عموم الناس وبالأخص منهم العمال على شن هذا الهجوم.
في شهر أفريل الماضي شنّت نقابة عمال شركة IBM وموظفيها التابعة لنقابة CGT الفرنسية إضرابا من نوع جديد تمام الجدة، إضراب عن بعد. وانتشر مصطلح télégreve أو cyber grève كشكل مستجد للنضال في وقت بدأت القناعة بإمكانية إجراء تغييرات كبيرة على تنظيم العمل برهنت أزمة الكورونا على أنها ممكنة بل وضرورية. هذا الإبداع العمالي المعاصر يضاهي إبداع المسيرات الجماهيرية في باريس ولندن وشيكاغو وغيرها من المدن في القرن 19. هذه البادرة البسيطة في حجمها، عميقة في دلالاتها. ومن أبرز هذه الدلالات قدرة العمال على ابتداع أشكال النضال بما يضاهي إبداع البرجوازية في ابتكار أساليب الاستغلال وأكثر. على درب مثل هذه الإبداعات البسيطة يكمن الأمل في رفع التحدي لبناء أمجاد جديدة للحركة النقابية ولحركة نضال الطبقة العاملة عموما.