حبيب الزموري
دخل الاتحاد العام التونسي للشغل ما أصطلح على تسميته منذ سنة 2011 بمرحلة الانتقال الديموقراطي في تونس، وهو يحمل على كاهله المواقف المتذبذبة لقيادته المركزية من الحراك الثوري الذي اندلع منذ 17 ديسمبر 2010. وقد وصلت تصريحات بعض القيادات النقابية إلى حدّ تجريم هذا الحراك ومحاولة مدّ طوق النجاة للسلطة النوفمبرية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. وذلك رغم انخراط القواعد النقابية بهياكلهم الوسطى والأساسية في المسار الثوري منذ لحظته الأولى. وقد بذلت المركزية النقابية مجهودات جبّارة بعد فرار رأس النظام النوفمبري لاستعادة ثقة النقابيين والرأي العام الوطني عموما. لكن تداعيات تلك المواقف وما لحقها ما تزال تلقي بظلالها على مسيرة الاتحاد العام التونسي للشغل وطريقة تعامله مع الواقع السياسي الجديد في تونس.
ولكي يكون تقييمنا لمسيرة الاتحاد بعد الثورة تقييما موضوعيا لا ينبغي أن ننتظر منه ما هو ليس مؤهلا أو قادرا على تقديمه بهويته التنظيمية والفكرية الحالية. فالاتحاد العام التونسي للشغل لم يكن في أيّ لحظة من مسيرته الممتدة على 74 سنة منظمة ثورية أو حزبا سياسيا. ولكن هذا لا يشفع تذبذب مواقفه السياسية بل ومهادنتها للسلطة القائمة خلال العقود الأخيرة وهو ما يتعارض مع تقاليد الحركة النقابية التونسية منذ تأسيسها بل ومع تقاليد الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان ركيزة أساسية للجبهة الوطنية التي تشكلت في أربعينات القرن الماضي لقيادة الحركة الوطنية التونسية ضد الاستعمار الفرنسي وأمسك خلال فترات معينة مقاليد تلك القيادة ممثلا خاصة في الزعيمين النقابيين والوطنيين فرحات حشاد وأحمد التليلي. وقد واصل الاتحاد انخراطه اللاّمشروط في مشروع الدولة التونسية بعد 1956 قبل حصول القطيعة بين القيادة النقابية وقيادة الحزب الدستوري في النصف الثاني من سبعينات القرن الـ20 لينجح بن علي منذ سنة 1987 في تدجين المنظمة النقابية وتحويلها إلى دعامة أساسية لنظامه الاجتماعي والاقتصادي وترويج وهم “السلم الاجتماعي” لسنوات طويلة.
لم تستغلّ القيادة النقابية الفرصة التاريخية التي دشنها المسار الثوري 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 لتصحيح المسار النقابي وإعادة الاتحاد العام التونسي للشغل للعب دوره الوطني الحقيقي المنحاز للقضايا الوطنية والشعبية، حيث واصلت القيادة النقابية دورها المحافظ على الوضع القائم مهما كانت رداءة هذا الوضع وتداعياتها الكارثية على حاضر البلاد ومستقبلها وحتى الحوار الوطني الذي بادرت به سنة 2013 كان إعادة إنتاج للوضع القائم آنذاك بل ومساندة حكومات لم تتردّد في ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل في مصداقيته التفاوضية. وقد واصلت القيادة النقابية إعادة إنتاج الأزمة بالدخول في تحالفات مع أطراف السلطة مثلما حدث مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. فهل إنّ المركزية النقابية لا تتنفس إلاّ تحت مظلة السلطة الحاكمة؟ أم إنها عاجزة بتنظيمها وهويتها النقابية الحالية عن شقّ طريق مستقل عن الحكم؟
لقد أصبح الهاجس التفاوضي وتحصيل بعض المكاسب المادية والمعنوية للمنخرطين يهيمن على الأداء النقابي للاتحاد منذ عقود على حساب المهام الوطنية رغم وعي النقابيين بمن فيهم القيادات النقابية أنّ السلطة تأخذ بيدها اليسرى ما تمنحه بيدها اليمنى من زيادات عبر سياساتها الاقتصادية والاجتماعية التي ما فتئت تنكّل بعموم الأجراء والعمال بالفكر والساعد. ولا تتعرض قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لهذه السياسات بالنقد والمعارضة إلاّ في سياق تحسين شروط التفاوض مع الأطراف الحاكمة. فما إن يتمّ إمضاء اتفاق حتى يخفت هذا الصوت ويعلو صوت المهادنة و”السلم الاجتماعية” و”الشراكة” و غيرها من ديكورات هذا الانتقال الديمقراطي المتعفن الذي يهدّد مصير البلاد والأجيال القادمة .
الاتحاد العام التونسي للشغل والحركة النقابية التونسية تمرّ بمرحلة دقيقة من تاريخها شأنها شأن البلاد ككل. فكما إنّ تونس ما تزال عاجزة عن تصحيح مسار ثورتها والخروج بها من نفق الانتقال الديموقراطي فإنّ الاتحاد العام التونسي للشغل ما يزال عاجزا عن تحيين بوصلته الداخلية نحو المهام الوطنية و الديموقراطية التي عبّرت عنها الثورة التونسية وما يزال أسير دور “الشريك الاجتماعي” بل والسياسي للنظام القائم مهما كانت هوية هذا النظام. لكنّ الأخطر هو محاولة القيادة النقابية الحالية إعادة إنتاج نفس الممارسات البيروقراطية والتصفوية التي دأبت على ممارستها إبّان الحقبة النوفمبرية وفي مقدمتها الانقلاب على النظام الداخلي وتحديدا الفصل العاشر الذي تحوّل إلى الفصل 20 وإشهار سيف النظام الداخلي في وجه المعارضة النقابية لتوجهات المكتب التنفيذي رغم حاجة الاتحاد الملحّة إلى رصّ الصفوف لمواجهة الحملة الشعواء المعادية للعمل النقابي من جميع الاتجاهات من الأشدّ ظلامية ورجعية إلى الأشدّ ليبيرالية وتوحشا .
إنّ مصير الاتحاد العام التونسي للشغل متّصل بمصير البلاد، فواهم من يعتقد من النقابيين أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل قادر على النجاة بمفرده من النفق المظلم الذي دخلت فيه البلاد دون إعلان القطيعة مع مبدأ الاستقلالية والحياد الزائف. فلا حياد مع القضايا الوطنية والديموقراطية ولن تتوقف محاولات اختراق الاتحاد العام التونسي للشغل وتركيعه أمام السياسات المعادية للشعب والوطن وحتى هوامش المناورة التي أتقنتها المركزية النقابية طيلة عقود أصبحت تضيق أكثر فأكثر، ولا خيار سوى المقاومة والاصطفاف مع قوى المقاومة أو المهادنة والاصطفاف مع القوى المعادية لطموحات هذا الشعب في التحرر والانعتاق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي …