علي الجلولي
يعيش العالم منذ عام ونصف على وقع الانتشار الرهيب لوباء الكورونا الذي مسّ كل بلدان العام وتضرّر منه الاقتصاد كما المجتمع، ولئن تمكّنت بعض البلدان من التدخل بسرعة وبنجاعة للحد من التداعيات المدمّرة لهذا الوباء الخطير، فإنّ بلدانا أخرى ومنها بلادنا عجزت وفشلت في التدخل، لذلك كان انتشار الوباء وتداعياته واسعا ومهلكا خاصة على جماهير الفقراء التي تدفع لوحدها فاتورة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للوباء. فمن المعلوم عند الجميع أنّ الكورونا حكمت على الاقتصاد الرأسمالي العالمي بالركود والانكماش والتراجع، فقطاعات عدة تضرّرت بصفة شبه كلية مثل قطاع النقل بفروعه المختلفة والتجارة والسياحة وحتى الفلاحة، فضلا عن مختلف فروع قطاع الخدمات. وهذا الركود لم تكن له كلفة اقتصادية فحسب، بل كانت له أساسا كلفة اجتماعية غالية طالت الأجراء والعمال والحرفيين وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة فضلا عن المهمشين والمياومين.
تداعيات الكورونا على الاقتصاد التونسي
بلغت نسبة الانكماش في الاقتصاد المحلي السنة المنقضية (2020) 8،8°/° بعد أن كان من المنتظر ألاّ تتجاوز 7°/° حسب الحكومة وصندوق النقد الدولي. علما وأنّ نسبة الانكماش في العام السابق (2019) بلغت 4°/°، بمعنى أنّ النسبة تضاعفت والواضح أنّ الكورونا لها ضلع في ذلك. انعكس هذا الحجم الكبير من الانكماش على عجز الميزانية الذي بلغ في العام المنصرم 11،4°/° من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أعلى نسبة منذ ثمانينات القرن الماضي، علما وأنّ نسبة الانكماش تُعدّ الأعلى منذ سنة 1966 بحسب البنك العالمي. وحين نقول أنّ للكورونا ضلعا بمعنى أنها السبب المباشر لهذا الهبوط الحاد في المؤشرات الاقتصادية والمالية، وأسبابها العميقة هي الخيارات المتّبعة، ففي سنة 2019 لم تكن الكورونا قد مسّت تونسيا واحدا، ولكن المؤشرات كانت سلبية وتشير كلّها إلى الحالات الحرجة، فقد حافظ الترقيم السيادي للاقتصاد التونسي على المناطق الحمراء، أي مناطق الأزمة والتراجع. وقد شمل التراجع والتقهقر كل فروع الاقتصاد، فالسياحة تراجعت بنسبة 77°/°، وقطاع الخدمات بـ50°/° فيما تراجعت الصناعة بـ40°/° من مداخيلها، وبطبيعة الحال فإنّ لهذه الأرقام تداعيات كارثية على الوضع الاجتماعي وخاصة على أوضاع الطبقة العاملة والطبقات والفئات الشعبي.
التّداعيات الاجتماعيّة لأزمة الكورونا
صحيح أنّ تداعيات الكورونا على الاقتصاد الرأسمالي العالمي كانت ضخمة ومؤثرة، وصحيح أنّ رأس المال بدوره قد تضرّر، فمؤسسات بكاملها انهارت، وفروع بتمامها تضرّرت ضررا كبيرا. لكن هذا لا يعني أّن الوباء فرض مساواة بين ضحاياه، فالانعكاسات المدمّرة كانت أساسا على الكادحين والمفقّرين، فانهيار قطاع السياحة في تونس تسبّب في تضرّر قرابة مليون لهم علاقة مباشرة وغير مباشرة بالقطاع مثل فروع الحرفيين والصناعات التقليدية والمطاعم والمقاهي والخدمات الهامشية في الشواطئ والمناطق السياحية، فضلا عن قرابة 400 ألف عامل قار وموسمي. كما أنّ الإجراءات الصحية رغم هزالها فإنّ تأثيراتها على الجماهير الكادحة كانت مدمّرة لقدرتهم الشرائية، قطاع المقاهي مثلا يشغّل حوالي 200 ألف عامل قار وغير قار، وهؤلاء وجدوا أنفسهم ضحية للبطالة القسرية ولأوضاع الفاقة والبؤس. أمّا عمّال المصانع والمعامل الذين ينتمي أغلبهم إلى المؤسسات الخاضعة لقانون أفريل 1972، فإنّ أوضاعهم ازدادت سوءً وسرّح العديد منهم، أمّا من كان “محظوظا” بمواصلة العمل، فبوتائر استغلال أفظع وأعلى. علما وأنه وحسب الأرقام الرسمية فإنّ 160 ألف فقدوا وظائفهم في العام المنقضي.
لقد انتشر في ربوع بلادنا الفقر و التشرّد، فنسبة البطالة شارفت على 18°/° وهي النسبة الأعلى منذ 2011، كما شمل الفقر 34°/° من التونسيين، فيما يتجاوز 40°/° في عديد الجهات الداخلية والمحرومة. يتزامن مع هذه المعطيات الاجتماعية ارتفاع مشطّ للأسعار وتدهور مريع للمقدرة الشرائية، وعلما وأنّ هذا يمسّ كل فئات الأجراء والعمال وأصبح يشمل فئات كانت تسمّى سابقا” الطبقات الوسطى” والمقصود بهم صغار وكبار الموظفين، فهم اليوم يرزحون تحت الحاجة وتعرف أوضاعهم المادية تدهورا كبيرا ممّا حدا بالآلاف منهم إلى الهجرة سواء المنظمة أو الشخصية وحتى غير القانونية (الأطباء، المهندسون، الممرضون، الأساتذة…). لقد انعكس التضخم المالي على أوضاع الأجراء بما عسّر حياتهم أمام ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وها هي الحكومة تستعدّ في الأيام القادمة للتخلص النهائي من صندوق الدعم لصالح التحرير الكلي لأسعار المواد الأساسية نحو حقيقة أسعارها، إضافة إلى المراجعة الدائمة لأسعار المحروقات في اتجاه الترفيع والتخلص التديريجي من كل دعم ولو كان ضئيلا.
لقد لعبت منظومة الحكم على الأوضاع الصحية الاستثنائية التي فرضها الوباء لشن هجوم كاسح على الشعب وطبقاته المفقّرة، يتمّ هذا الهجوم باسم توجيه الإمكانيات لمواجهة تداعيات الوباء. لكن الواضح والأكيد أنّ الحكومة لم تنجح في مقاومة الوباء، وها هي بلادنا بمقدراتها وإمكاناتها البشرية المهمة تتصدر العالم (كل العالم) في عدد الإصابات والوفايات، والوضع يسير حسب التصريحات الرسمية إلى اللاّسيطرة. كما لم تنجح في مواجهة التداعيات الاجتماعية للأزمة الاقتصادية التي نالت فيها بلادنا نصيبا كبيرا بمقتضى تبعيّتها للاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري الذي يواصل استغلال واقع الأزمة لمزيد وضع يده على مقدّرات البلدان والشعوب التابعة.
النّضال وحده يمكّن العمّال من الدّفاع عن مصالحهم
لقد كشفت “أزمة الكورونا” حقيقة منظومة الحكم في تونس باعتبارها منظومة تابعة وعاجزة وفاشلة، منظومة جبانة تخدم مصالح المافيا الجشعة المتربعة اليوم على كل مفاصل القرار في تونس، فقد ضخّت الدولة آلاف المليارات للرأسمال الخاص في مختلف القطاعات لمساعدته في مواجهة آثار الوباء، فيما تستأسد على الشعب وعماله وكادحيه سواء من خلال تحميلهم كل فواتير الأزمة بالغلاء والتسريح والتفقير، سواء بإعلاء العصا في وجه الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت للانتفاض على واقع البؤس الذي عمّقته الخيارات النيوليبرالية المتّبعة من قبل الدولة القائمة وأنظمتها المتلاحقة.
إنّ العمّال والكادحين لا خيار لهم اليوم سوى تنظيم الصفوف وإعلاء النضال دفاعا عن جلدهم الذي سلخته الخيارات الطبقية الجائرة والقهرية التي تكرّسها البرجوازية مصّاصة الدماء. إنّ العمّال لن يخسروا في نضالهم إلاّ القيود التي تكبّلهم. وها هي الطبقة العاملة في أماكن عديدة من العالم تستعيد الأنفاس وتعود إلى الساحات. وقد كان يوم غرة ماي يوما لخروج الآلاف في كل القارات لرفع الصوت احتجاجا ورفضا لسياسة تحميل فاتورة أزمة الرأسمالية للعمّال والكادحين. وأنّ أشواطا تنتظر الطبقة العاملة والجماهير الشعبية في تونس لإعادة الاعتبار للنضال الاجتماعي والوطني ضد وصفات التبعية والتفقير والتهميش.