علي الجلولي
منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، وفي إطار إحياء الذكرى السنوية لاستشهاد المناضل نبيل البركاتي طرحت الحركة الديمقراطية بأحزابها ومنظماتها وشخصياتها التي دأبت على الإحياء تحويل يوم 8 ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب، وتحوّل إحياء ذكرى الاغتيال إلى إحياء لليوم الوطني. ولئن حالت الدكتاتورية دون توسيع نطاق الأنشطة السياسية والحقوقية والثقافية الخاصة بهذا اليوم الوطني الذي لم يتجاوز طيلة سنوات إلقاء كلمات في مقبرة قعفور، ثم تمّ منع ذلك كليا في السنوات الأخيرة لحكم بن علي، فإنّ الثورة التي حرّرت الإرادة والفعل أتـاحت الفرصة أمام طرح ذلك الاستحقاق للتنفيذ. فسلطة ما بعد 14 جانفي تعهدت بالتخلص من آفة التعذيب، وصادقت على عديد الاتفاقيات والبروتوكولات التي كان بن علي يتلكّأ في الإمضاء عليها خوفا من الالتزامات المترتبة عنها، وهو الذي ظل ونظامه إلى آخر ثانية من عمره معاديا لحقوق الإنسان ومنتهكا لها.
ولئن تمكّن المناضلون من كل الجهات من إحياء الذكرى ليس في مقبرة قعفور وشوارعها فحسب، بل أيضا في عديد الفضاءات بما فيها شارع بورقيبة بالعاصمة، فقد تابعت الجمعيات الحقوقية وخاصة منظمة مناهضة التعذيب والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مطالبة السلط بتحويل يوم 8 ماي إلى يوم وطني لمكافحة التعذيب، وحين وصل منصف المرزوقي إلى قصر الرئاسة تعهد بتنفيذ الفكرة التي كان سابقا أحد طارحيها والمدافعين عنها. لكنّ ملابسات وصوله إلى قرطاج وعمق ارتباطه بحركة النهضة حال دون تنفيذ وعده. وقد تعهّد خلفه الباجي قايد السبسي بمناسبة لقائه بوفد من قيادة منظمة مناهضة التعذيب بُعيد وصوله إلى الرئاسة بالشروع في تنفيذ المقترح. لكنه غادر قرطاج والحياة دون تنفيذ الوعد. في الأثناء واصل مناضلو الحرية من مختلف التجارب التنظيمية التقدمية، والحركة الحقوقية الديمقراطية العمل من أجل تثبيت اليوم الوطني للنضال ضد آفة التعذيب التي ظلت لازمة من لوازم الدكتاتورية لتكميم الأفواه والتحكم في الشعب وإخضاعه وإذلاله. وآخر حملة انتظمت للغرض كانت في العام المنقضي تحت شعار/مطلب “من أجل تثبيت يوم 8ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب” أطلقها حزب العمال وشارك فيها لفيف واسع من الثوريين والتقدميين والديمقراطيين المتماسكين والرافضين لهذه الممارسة القروسطية البشعة التي لم تختفي من ممارسة السلطة بعد الثورة. بل ظلت تمارَس داخل مقرات الإيقاف والاحتفاظ، وفي الشارع والفضاء العام، ونستطيع الجزم اليوم باتساع نطاقها مع حكومة المشيشي الذي يتحمل مسؤولية مضاعفة باعتباره رئيس الحكومة ووزير الداخلية. ففي “عهده السعيد” أصبح للمتراك والتعنيف الشديد حضور مكثف على قارعة الطريق ضدّ ممارسي حق التظاهر والتعبير، بما يؤكد مشروعية مطالب الحركة التقدمية حول ضرورة اتّخاذ إجراءات جدية قانونية وعملية لاجتثاث ممارسة التعذيب باعتبارها انتهاكا جسيما لكرامة البشر.
وكاستجابة للحملة أصدرت وزارة التربية هذا الأسبوع منشورا للإدارات الجهوية للتعليم تطلب فيها من المدرسين تخصيص 15/20 دقيقة بمناسبة 8 ماي “اليوم الوطني لمناهضة التعذيب” للحديث مع التلاميذ حول بشاعة التعذيب وأهمية التصدي له قانونيا وعمليا. ولئن تزامنت ذكرى هذا العام مع تعليق الدروس بحكم الوضع الوبائي، فإنّ مبادرة وزارة التربية هي مبادرة محترمة وفي صميم المطلوب لمناهضة التعذيب الذي يجب أن يتحول إلى ثقافة عامة في المجتمع. وفي هذا الصدد تلعب المدرسة كما الأسرة ومجمل الفضاء العام دورا حاسما في إشاعة ثقافة رفض التعذيب وانتهاك كرامة الإنسان، وإنّ خلق المجتمع الجديد المتشبع بالقيم والمبادئ الكونية لحقوق الإنسان يتطلب الدربة والتربية والإشارة والتثقيف. وإننا إذ نحيي هذه المبادرة، فإنّ المطلوب من الدولة التونسية أن تثبّت هذا اليوم الوطني، وأن تتولّى مختلف المصالح ليس في وزارة التربية فقط، بل أيضا في وزارات التعليم العالي والثقافة والمرأة والشباب والعدل… وفي المقدمة وزارة الداخلية التي ارتبطت بها جريمة التعذيب، أن تنظم كل الفعاليات الممكنة لإشاعة المبادئ الجديدة التي تُدين التعذيب وتخلق ذهنية جديدة رافضة له، لا ذهنية قابلة ومطبّعة معه بل ومشجعة عليه باعتباره الطريقة الأفضل للقضاء على الجريمة والانحراف… ووو.
إنّ تجريم التعذيب في الثقافة والسلوك المجتمعي وفي التشريعات يمكن أن يخلق إنسانا جديدا متحضرا رافضا للتعذيب مهما كانت المسوّغات والمبرّرات.