مرتضى العبيدي
يمثّل انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية في تشيلي انتصارا تاريخيا للشعب عامة وللنساء والشباب خاصة، وهم من تجنّد للقطع مع دستور بينوشيه الفاشي والموغل في الرجعية. ففي 15 و16 ماي الجاري، أجريت في تشيلي انتخابات لاختيار أعضاء المجلس الذي سيسهر على صياغة الدستور الجديد للبلاد، بالإضافة إلى ممثلي الـ345 بلدية ومحافظة.
وتميّزت هذه الانتخابات بمشاركة كبيرة للنساء والشباب وقادة القطاعات الشعبية والتقدمية واليسارية، الذين حصلوا على أصوات كبيرة. إنّ الحكومة الحالية واليمين عموما، المدافعين بأيّ ثمن عن دستور بينوشيه وعن الوضع القائم، قد هُزِموا شرّ هزيمة بفضل نضال الشعب من أجل التغيير. ففي أكتوبر 2019، نزل الطلاب والنساء والمعلمون والنقابات، إلى الشوارع احتجاجا على الظروف المعيشية المادية الصعبة الناجمة عن التدابير الاقتصادية التي اتخذتها حكومة سيباستيان بينيرا. وقد تمّت مواجهة الحراك الشعبي بالقمع الدموي حيث خلّف أكثر من عشرين قتيلا ومئات المعوقين وآلاف السجناء. وقد رفع المتظاهرون عديد المطالب لعلّ أبرزها إلغاء الدستور الذي تمت صياغته في عام 1980 إبان دكتاتورية أوغستو بينوشيه، والذي تم الحفاظ عليه من الحكومات المتعاقبة بما فيها حكومات “الوفاق”. وهو ما يفسّر الصفعة التي تلقّاها هذا الحزب الذي حكم في ظل هذه الظروف السياسية دون إجراء أيّ من التغييرات الجوهرية التي كان وعد بها ناخبيه.
وأمام الغضب الشعبي الذي استمرّ لأشهر عديدة، عقد بينيرا اتفاقًا مع العديد من القوى السياسية لإجراء استفتاء يقرر فيه الشعب ما إذا كان يريد دستورًا جديدًا، كمناورة منه للحفاظ على حكومته. إلاّ أنّ الشعب صوّت خلال سنة 2020 بنسبة 80٪ لصالح التغيير الذي يمرّ حتما عبر إلغاء دستور 1980. واستمر النضال السياسي، الذي بدأ عام 2019 بالتعبئة في الشوارع، بل وتصاعدت وتيرته حتى تحقيق الانتصار في الاستفتاء في مرحلة أولى، والفوز بأغلبية المقاعد في الهيئة التأسيسية اليوم. ولم تتخلّ الجماهير خلال كامل المسار عن مطالبها المؤكدة مثل التكافؤ بين الجنسين وتمثيل الشعوب الأصلية. وكان تواجد النساء في الشوارع، والمطالبة بحقوق مثل إلغاء تجريم الإجهاض، والمساواة في الأجور، والمشاركة السياسية في مواقع السلطة، من بين أمور أخرى، ممّا أجبر الحكومة على تثبيت المساواة بين الجنسين في العملية التأسيسية. فعلى الصعيد الوطني، تمّ انتخاب 84 امرأة بالاقتراع الشعبي المباشر، ومن أجل الحفاظ على آلية التكافؤ، كان عليهن التنازل عن عدة مقاعد لفائدة الرجال. وهو ما يؤكد مجددا أنّ مشاركة النساء في الحراك الشعبي الذي شهدته وتشهده تشيلي منذ سنتين بمثل هذا الحجم وهذه القوة قد ساهم إلى حدّ ما في تجذير المسار، وهو كفيل اليوم بضمان معالجة جذرية لأكثر القضايا حساسية ودمجها في صياغة النص الدستوري الجديد.
وبالمثل، فإنّ النضال الدائم للشعوب الأصلية دفاعا عن أراضيها، ضد عمليات المصادرة غير القانونية لفائدة شركات استغلال الغابات والمناجم، ومن أجل الاعتراف بثقافتها وتراثها، أدى إلى تخصيص 17 مقعدًا للشعوب الأصلية. كان التصويت في الغالب لصالح القيادات النسائية، مثل فرنسيسكا لينكونو، وهي امرأة من “مابوتشي” تم القبض عليها وحوكمت كإرهابية ثم تم إعلان براءتها، وقد حصلت على أكبر عدد من الأصوات في دائرتها الانتخابية. وتعكس نتائج انتخابات الشعوب الأصلية إرث أكثر من مائتي عام من النضال من أجل احترام أراضيهم وثقافتهم. وهو ما ينبئ أنّ الدستور الجديد سينصّص على أنّ تشيلي دولة متعددة القوميات.
ففي هذا البلد حيث التصويت اختياريًا لمواطنيه وليس إجباريا، ورغم الإجراءات التقييدية المفروضة للحد من انتشار جائحة كوفيد -19، يمكن القول إنّ شعب تشيلي أولى أهمية كبيرة للعملية الانتخابية إذ شارك 43 في المائة من الناخبين المسجلين في التصويت، بمشاركة كبيرة من الشباب والنساء والعمال.
إنّ تشيلي دولة تتميز بتفاوتات اجتماعية واقتصادية كبيرة، جعلت جزءًا كبيرًا من السكان في حالة فقر. فالإدارة الكارثية للاقتصاد من قبل الحكومات المتعاقبة والطريقة التي عوملت بها الطبقات الشعبية على مدى عقود، ولّدت لدى الناس رغبة في التغيير جسدتها نتائج انتخابات المجلس التأسيسي الجديد. وهذه العملية تُعتبر ضربة لليمين الذي استغل الدولة لسنوات عديدة للحفاظ على امتيازاته.
لقد قدمت النساء والعمال والشباب في تشيلي للعالم درسًا في الكرامة.