مرتضى العبيدي
يصادف هذا الشهر مرور 34 عامًا على تأسيس “الاتحاد الوطني لعمال المعادن في جنوب إفريقيا” (NUMSA)، كنقابة مكافحة تجمع شتات عمال المعادن والهندسة والسيارات والطاقة والتعدين والنظافة والمواد الكيميائية والصناعات ذات الصلة التي كانت موزعة بين نقابات صغيرة لا حول لها ولا قوة في مواجهة آلة البطش لنظام الميز العنصري القائم آنذاك. واتخذت النقابة الناشئة كشعار لها صرخة الحرب التالية: “إذا ما جُرح واحد منا، فقد جُرحنا جميعا!”.
وقد أنشئت النقابة في ظروف حرب حقيقية، إذ هي وُلدت في أحشاء نظام الميز العنصري الذي كان يجرّم أيّ شكل من أشكال التنظيم العمالي، فما بالك وهو يشهد ميلاد نقابة تختلف عن سابقاتها كفاحية ووضوح رؤية. وكانت نومسا هي من حملت “العلم الأحمر” عاليا، وحشدت العمال لجعل نظام الفصل العنصري غير قابل للحكم، ولم تتذرّع بالحجة الانتهازية القائلة بفصل النقابي عن السياسي، بل انخرطت في أكثر الحملات السياسية من أجل إسقاط نظام الأبارتيد ومنها “حملة تحرير مانديلا”، التي أسفرت عن الاتفاق السياسي التفاوضي لعام 1994.
نقابة طبقيّة كفاحيّة
وعلى هذا الأساس، فهي لم تفلت من آلة قمع نظام الفصل العنصري، مما اضطرّ العديد من قادتها ونشطائها إلى اللجوء إلى العمل السري. فتعرّض العديد منهم إلى الإيقاف والتعذيب وحتى القتل أو الاختفاء القسري. ومازال مناضلوها يُنشدون كشف الحقيقة عن مصير العديد من قادتهم المفقودين حتى اليوم، كما أجبر عدد آخر على العيش في المنافي. و”نومسا” لا تنسى شهداءها ومفقوديها وهي تواصل تخليد ذكراهم، ومن بينهم الزعيم الراحل Vusiyile Mini ، الذي كان أول نقابي تمّ شنقه من قبل نظام الفصل العنصري في بريتوريا في عام 1964.
ولأن “نومسا” شاركت في بعث “الاتحاد العام لعمال جنوب إفريقيا” (COSATU)، الذي سيهز أسس نظام الحزب القومي الحاكم (وهو حزب البيض العنصري والموغل في الرجعية)، فإنها أصبحت هدفًا لعنف الدولة، فتعددت عمليات تصفية القيادات أمثال “فينوس سيبيا” و”سيمون نغوباني” وثلاثة عمال آخرين أوقف أمراء الحرب سيارتهم وأضرموا فيها النار وهم داخلها، أثناء توجههم للمشاركة في مسيرة. وكذلك الشأن بالنسبة للمناضلة “جابوليلي ندلوفو” ، التي قُتلت لدى عودتها من مؤتمر وطني لنومسا عام 1989.
التّمسّك بميثاق الحريّة
واليوم وبعد 27 عاما من نهاية نظام الميز العنصري، تستمر “نومسا” في الاعتقاد بأنّ “ميثاق الحرية”، وهي وثيقة سياسية وقع تبنّيها سنة 1955 من قبل المؤتمر الشعبي الذي ضم إلى جانب المؤتمر الوطني الإفريقي جميع المنظمات والفعاليات المناهضة لنظام الفصل العنصري، والذي انخرطت على أساسه نومسا في النضال الوطني والاجتماعي، يظل البرنامج السياسي المناسب لتوجيه البلاد على مسار جديد للتنمية، خاصة بعد فشل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في تنفيذ الميثاق على مدار كامل هذه المدة، مما ساهم في انتشار الفقر الجماعي، وتعميق التفاوتات، وارتفاع معدلات البطالة. وهذا يبرز بوضوح أنّ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم اليوم قد فقد هويته، وتخلى عمّا كان وعد به شعوب جنوب إفريقيا وطبقاتها الكادحة من الانتقال بها إلى “الأرض الموعودة” حيث تتوفر حياة أفضل للجميع، كما بشّر به ميثاق الحرية. وهو ما فرض على “نومسا” اختيار سبيل آخر.
2013: القطيعة
ففي عام 2013، اتخذت نومسا قرارًا سياسيًا واعيا بـ”الانفصال” عن التحالف الذي يقوده حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، والمعادي للطبقة العاملة والمفلس أيديولوجيًا. إذ اعتبرت أنه خلال السنوات الـ27 الماضية، خان هذا التحالف، وهو الماسك بزمام السلطة، تطلعات الأغلبية الأفريقية السوداء المضطهدة سابقًا، كما يتضح من السياسات الاقتصادية الرهيبة والمحكوم عليها بالفشل ، والمتضمنة لمنظور قيادته والتي يواصل فرضها في الواقع رأس المال الاحتكاري الأبيض، وخاصة بعد فشله في تنفيذ القرارات التقدمية التي وقع تبنّيها سنة 2007 في مؤتمر بولوكواني الوطني، والذي كان بمثابة نقطة تحوّل فيما يتعلق برفض السياسات النيوليبرالية والإصلاحات الكارثية التي ارتبطت آنذاك بالرئيس ثابو مبيكي. وقد وضعت تلك القرارات أسسًا صلبة وأرضية خصبة لدفع ميثاق الحرية وتهيئة الظروف للانتقال إلى التوجه الاشتراكي.
من الجبهة العمالية الموحدة إلى الحزب الاشتراكي الثوري
وبعد قطيعة نومسا مع “الاتحاد العام لعمال جنوب إفريقيا” ومع التحالف الحاكم بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي، سلكت سياسة “الجبهة العمالية الموحدة” إزاء بقية المنظمات النقابية وإزاء العمال غير المنتظمين نقابيا انبثقت عنها بعد مدة مركزية نقابية جديدة:”الكونفيدرالية النقابية لعمال جنوب إفريقيا” (SAFTU). وهي تواصل إلى اليوم دعوتها إلى تشكيل أقصى قدر من الوحدة العمالية والنقابية.
ومنذ صعود سيريل رامافوزا إلى سدّة الرئاسة، بسطت الأوليغارشية الحاكمة نفوذها على البلاد وفرضت تدابير التقشف والسياسات المناهضة للعمال التي دافع عنها تحالف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم. فاعتبرت “نومسا” أنّ زمن استمرار العمال في التصويت لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم بسبب إرثه من النضال الماضي قد انتهى، وأنه على الطبقة العاملة كطبقة لذاتها، أن تنخرط في مشروع ثوري وبناء هيئة سياسية بديلة توفر الحرية الحقيقية للشعب، هيئة سياسية تلتزم، نظريًا وعمليًا، بالتنفيذ الكامل لميثاق الحرية، كأداة سياسية لمحو مخلفات الاستعمار وإرث الفصل العنصري. لهذا السبب واعتمادا على قرار مؤتمر NUMSA الاستثنائي لسنة 2013 بإنشاء حزب العمال الاشتراكي الثوري (SRWP) لقيادة نضالات الجماهير الشعبية لتحقيق مجتمع اشتراكي، تم عقد المؤتمر التأسيسي لهذا الحزب في شهر أفريل 2019.
مواصلة النضال على الواجهة النقابية
ورغم تأسيس حزب العمال الاشتراكي الثوري، لم تتخلّ نومسا عن تموقعها في طليعة النضالات ضد استغلال العمال في مكان العمل، وضد سوء تقديم الخدمات، والنضال من أجل إنهاء العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومكافحة الفساد، والكفاح من أجل التعليم العالي المجاني والإلزامي وغير السلعي.
ومع احتفالها بمرور 34 عامًا على تأسيسها، وجهت دعوة إلى أعضائها إلى مواصلة بناء نقابات قوية في أماكن العمل و في المصانع ومواصلة الدفاع عن مصالح العمال ومطالبهم. وحثت مناضليها على الاستعداد لجولة المفاوضات الجماعية الجديدة من أجل فرض تحسين ظروف العمل للعمال بشكل ملموس، وبعدم القبول بزيادة في الأجور بنسبة 0٪ للعمال خلال هذه الفترة كما يصرّ على ذلك أرباب العمل.
إنّ تاريخ الحركة النقابية في العالم لا يمكن اختزاله في تاريخ النقابات الصفراء مهما كبر حجمها والتي حصرت النضال النقابي في المطلبية المقيتة وجعلت منها سقفا يُمنع على الطبقة العاملة أن تتخطّاه. إن تجربة نقابة “نومسا” تؤكد أنّ الحركة النقابية قابلت دوما بين خطّين متضادين: خط المهادنة والوئام الطبقي الذي تبنّته جميع النقابات الصفراء عبر كامل تاريخ الحركة العمالية والنقابية، وخط الكفاح والنضال الطبقي الذي تبنّاه الخط النقابي الثوري بالأمس واليوم وغدا في كل أرجاء العالم.