علي البعزاوي
تجري الرياح بما لا تشتهي سفن منظومة الحكم. فالنقاشات مع صندوق النقد الدولي معطلة وتستدعي مواقف واضحة وحاسمة من الحكومة في اتجاه مزيد الرضوخ والاستجابة للشروط التي يطرحها مقابل إطلاق القروض والتي باتت معروفة لدى الجميع بما تحمله من خطورة على مستقبل الاقتصاد المحلي وعلى القدرة الشرائية والخدمات الأساسية وفوق ذلك كله على سيادتنا الوطنية التي باتت مهددة في الصميم. كما أنّ الحركات التي انطلقت في الآونة الأخيرة للمطالبة بسن قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني وضعت منظومة الحكم بكامل عناصرها أمام اختبارعسير. فإمّا مرور القانون وتحمّل ردود أفعال المانحين الاقليميين والدوليين أو الصمت والرفض وتحمّل مسؤولية ما يمكن أن يحصل من قبل الشعب التونسي الذي عبّر بكل طبقاته وفئاته عن مناصرة القضية الفلسطينية وبات مقتنعا أكثر من أيّ وقت مضى بأهمية هذا القانون باعتباره الحد الأدنى العملي لمؤازرة الشعب الفلسطيني الشقيق.
محاولات للعودة إلى الوراء
لا شك في أنّ توقّف صواريخ المقاومة شكّل متنفسا لمنظومة العمالة والنهب والفساد في بلادنا حتى تستعيد توازنها وتنطلق من جديد في مناوراتها وحساباتها وترتيب أوضاعها بما يساعدها على الحصول على التمويلات الضرورية لخلاص الأجور وتسديد قسط جوان من الديون الخارجية.
لقد عادت ماكينة السياسة للعمل بنفس المنظور وبنفس الثقافة التي تحاول اختزال الأزمة في النظام السياسي وعاد إعلام المنظومة إلى طرح هذا الملف بعد أن سخّر ما يلزم من الوقت للانقلاب المزعوم الذي أتاح بدوره فرصة للمنظومة لتحويل وجهة الرأي العام عن قضايا البلاد الجوهرية والمتمثلة في الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية بكل تفاصيلها وكيفية معالجتها.
إعلام التعليمات وخبراء وسياسيو المنظومة يريدون حصرنا في ثنائية الاختيار بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني محاولين الإيهام بأنّ الخروج من الأزمة رهين تجاوز النظام السياسي الحالي الذي يتسم بالتداخل وعدم الوضوح وأنّ حل الحلول يتمثل في العودة إلى النظام الرئاسي. في ما يرى آخرون أنّ النظام البرلماني هو الحل مستندين في ذلك إلى تجربة الحكم التجمعي والارتباط التاريخي بين النظام الرئاسوي والدكتاتورية. هم يريدون حشرنا في إطار استقطابين أحلاهما مر.
ما لا يريد هؤلاء الاعتراف به هو أنّ الأزمة ليست أزمة نظام سياسي بل أزمة خيارات عامة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتتعلق بعلاقاتنا الخارجية. إنّ هذه الخيارات اللاوطنية واللاشعبية التي فرضت على الشعب التونسي منذ 1970 إلى اليوم هي أساس الأزمة، والنظام السياسي البورجوازي سواء كان رئاسيا أو برلمانيا لن يساعد على تجاوز هذه الأخيرة التي باتت هيكلية ومرتبطة ارتباطا وثيقا بهذه المنظومة الحاكمة بكافة رؤوسها السياسية وخياراتها العامة وعلاقاتها الخارجية ومؤسساتها القمعية وديمقراطيتها الشكلية التي باتت تختزل في تنظيم انتخابات كل خمسة سنوات، انتخابات مفتوحة أمام الجميع على عكس ما جرى في الحقبتين السابقتين (بورقيبة وبن علي) لكنها محكومة بالمال السياسي الفاسد والإعلام المنحاز والتدخلات الخارجية. وهذا ليس بغريب عن الرأي العام الذي بات على علم بهذه الحقائق بكل تفاصيلها.
لقد أكدت تجربة الحكم في عهدي بورقيبة وبن علي فشل النظام الرئاسي مثلما أكدت تجربة ما بعد الثورة فشل النظام البرلماني المعدل الذي فرضته حركة النهضة وماتزال تستميت في الدفاع عنه إلى اليوم.
إنّ السبب الجوهري للأزمة يتجاوز النظامين اللذين مثلا الإطار الناظم للخيارات الرأسمالية التابعة المتوحشة المملاة من الخارج والخادمة للأقلية الكمبرادورية على حساب الشعب وعلى حساب السيادة الوطنية ومحاولات الانتصار لهذا النظام السياسي أو ذاك وتفضيل أحدهما على الثاني مع الحفاظ على نفس الخيارات محكوم في الحقيقة أولا بإرادة تكريس نفس الخيارات وتأبيدها خدمة لمصالح البورجوازية الكبيرة العميلة الحاكمة وثانيا بإتاحة الفرصة لهذا الطرف أو ذاك داخل منظومة الحكم للتغول والسيطرة على السلطة. وببساطة شديدة أو هكذا يبدو يخدم النظام الرئاسي الرئيس قيس سعيد وكل من يدور في فلكه وربما يضعف دور حركة النهضة بينما يخدم النظام البرلماني هذه الأخيرة ويمكنها باعتبارها تستند إلى تنظيم قوي نسبيا ولها حضور هام داخل مؤسسات الدولة من السيطرة على مقاليد السلطة. لكنّ مصالح الشعب لن تتغير سواء أقرّ هذا النظام السياسي أو ذاك.
الثوريّون والنّظام السّياسي
تنطلق القوى الثورية والتقدمية من تشخيص علمي للواقع وتحديد للتناقضات التي تشق المجتمع الرئيسي منها والثانوي لتضبط الوصفة العلاجية المناسبة التي بإمكانها حلّ الأزمة جذريا لصالح الأغلبية الشعبية خارج الحسابات الضيقة، أي خدمة هذا الطرف السياسي أو ذاك.
إنّ فشل الديمقراطية البورجوازية الشكلية التي أصابها التعفن وعجزت عن توفير الشغل والعيش الكريم والاستقرار للمعطلين والمهمشين ولصغار وفقراء الفلاحين والبحارة والحرفيين وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة لا يستدعي العودة إلى مربع الحكم الفردي الذي خبره الشعب التونسي طيلة عقود من الزمن وساهم في قمع كل الخيارات البديلة وكل إبداع يقدمه الشعب التونسي في هذا المجال أو ذاك. بل يتطلب توسيع وتجذير هذه الديمقراطية وربطها بإجراءات اقتصادية واجتماعية من شأنها تلبية مطالب الفئات الفقيرة والمهمشة التي من الضروري تمكينها من التمثل في المجالس التمثيلية المزمع انتخابها في المستقبل فيصبح هناك نواب عن الطبقة العاملة وآخرون عن الفلاحين الصغار والبحارة والحرفيين ونواب عن النساء والشباب…كل الفئات الشعبية لابدّ أن تكون ممثلة في الديمقراطية الجديدة، الديمقراطية الشعبية بما يفتح أمامها الطريق أمام السلطة والسيادة.
إنّ هذه الديمقراطية الواسعة المحصّنة ضد المال الفاسد واللوبيات الإعلامية المنحازة للكمبرادور والتدخلات الخارجية والمموّلة من الدولة من شأنها تمكين الشعب من السيادة على ثروات بلاده وتكريس العدالة الاجتماعية والقطع مع كل أشكال التبعية واقتلاع الفساد من جذوره. وهي إجراءات مستحيلة التحقيق وغير متاحة في ظل حكم المنظومة الحالية باعتبار انحيازها الطبقي الواضح إلى الفئات الكمبرادورية والدول والمؤسسات الاستعمارية التي تحميها وترعاها.
بهذا المعنى وفي إطار الخيارات الجديدة الوطنية والديمقراطية والشعبية يمكن تجاوز الأزمة والحديث عن نظام سياسي جديد مختلف جذريا هو الإطار الناظم والمكرّس لهذه الخيارات.
إنّ الشعب التونسي بكل طبقاته وفئاته مدعو إلى تجاوز هذه المنظومة المفلسة والاستعاضة عنها بمنظومة جديدة. قبل فوات الأوان. فذلك هو سبيل الخلاص وتخطي الأزمة.
السلطة للشعب من أجل السيادة الوطنية والديمقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية.