مرتضى العبيدي
على خلفية الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 ـ 2009 التي ألقت بظلالها على كامل المنظومة الرأسمالية، والتي وإن انطلقت من قلب تلك المنظومة أي من الولايات المتحدة الأميركية، إلاّ أنّ آثارها كانت أكثر دمارا على البلدان التابعة حيث نزلت بثقلها على كواهل العمال والفلاحين الفقراء وعموم الكادحين والمهمّشين.
ونظرا إلى أنّ هذه البلدان لم تعرف منذ حصولها على الاستقلالات الشكلية سياسات تنموية وطنية توفر لها حاجيات مواطنيها وتقطع بها مع حالة التبعية التي أصرّ المستعمرون القدامى على فرضها عليها، فإنها بقيت دوما تحت رحمة هذه الأخيرة في مختلف مجالات الحياة.
ففي بلد مثل بوركينا فاسو حيث كان الشعب يرزح آنذاك تحت حكم نظام ديكتاتوري لا مجال فيه لممارسة أبسط الحريات الديمقراطية بقيادة المجرم “بلاز كومباوري” الذي صعد إلى الحكم ويداه ملطختان بدم الرئيس “توماس سنكارا”، كان وقع الأزمة الاقتصادية مضاعفا، إذ زيادة عن مفعولها الاقتصادي، كان المواطنون يشعرون بالقهر والغبن لعدم القدرة على الاحتجاج والتعبير عن الرفض لسياسات العمالة. لكن ذلك لم يكن ليمنع اندلاع حركات احتجاجية عفوية موسمية في الأحياء الشعبية لكبريات المدن مثل تلك التي اندلعت في شهري فيفري مارس 2008 والتي واجهها نظام كمباوري بالقمع الدموي. وهو ما دفع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين إلى التفكير في إيجاد الصيغ والأطر الكفيلة بتأطير هذه الاحتجاجات حتى تضمن لها الاستمرار والنجاعة، فكان ميلاد “الائتلاف الوطني لمقاومة غلاء المعيشة”.
وقد ضمّ عند تأسيسه ثلاثين من المنظمات والجمعيات ذات البعد الاجتماعي والتي تُعنى بتحسين ظروف عيش منظوريها من مواطني بوركينا. فانخرطت فيه المركزيات النقابية ومن بينها الكونفدرالية العامة للشغل وهي أكبرها حجما وتأثيرا والنقابات القطاعية المستقلة والجمعية البوركينية لحقوق الإنسان والشعوب ومنظمات مناهضة التعذيب والكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسية والاختفاء القسري وغيرها من الجمعيات ذات الصلة. كما انخرط فيها كبار المبدعين كالفنانين والأكاديميين والصحافيين التقدميين وعديد الشخصيات الاعتبارية.
وقد أعطى هذا الهيكل الوليد زخما جديدا للديناميكية الوحدوية للنضالات التي أصبحت تضم فئات اجتماعية شعبية جديدة خاصة في المناطق الحضرية. ولم يتردد الائتلاف منذ نشأته في الدعوة إلى النضال، إذ توجه في 15 مارس 2008، بنداء إلى عموم الشعب للخروج إلى الشوارع للاحتجاج على الظروف المعيشية التي لم تعد تطاق. فخرج عشرات الآلاف من العمال والشباب وصغار التجار والحرفيين والفلاحين الفقراء والباعة المتجولين إلى الشوارع في المدن وفي المناطق الرئيسية في البلاد للتظاهر ضد غلاء المعيشة التي تمسّ بشكل خاص الطبقة العاملة ومختلف المكونات الشعبية. وبقدر ما تسبب هذا الاستعراض الأول من نوعه في إثارة الذعر في صفوف السلطة والامبريالية الفرنسية على وجه الخصوص، فإنه ولّد أملًا كبيرًا في معسكر الطبقة العاملة والشعب.
وتتالت منذ ذلك التاريخ صولات وجولات الائتلاف الذي أصبح حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها أو تجاوزها واضطرّت السلطات في أكثر من مناسبة إلى التفاوض معه بخصوص هذا المطلب أو ذاك. وتشكلت في صلبه هيئات مختصة تتابع بدقة مؤشرات الأسعار والفقر، وتنجز الدراسات العلمية التي تصوغ على أساسها مطالب الحركة. وهيئات أخرى تعنى بالعمل الدعائي وتشرح لجمهور المنخرطين العلاقة بين سوء أحوالهم والسياسات المتبعة من قبل نظام العمالة. وهياكل أخرى للتنسيق بين مختلف المكوّنات للحفاظ على وحدتها وضمان نضالها المشترك والاحتراس من السقوط في الفئوية أو القطاعية. كما أحدثت هياكل للتعبئة والتأطير.
وقاد الائتلاف ومازال حملات كبرى للتنديد بالسياسات الحكومية التي تستهدف قوت الشعب وللمطالبة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإيقاف التدهور المستمر للمقدرة الشرائية للمواطنين، ومنها حملات رفض الزيادات وفرض التراجع فيها على الحكومة، مثلما حصل في شهر نوفمبر 2018 حين فرض الحراك على الحكومة التراجع في الزيادة المعلنة في أسعار الوقود، في وقت كانت أسعار النفط تشهد انخفاضا كبيرا في الأسواق العالمية.
ولإبلاغ صوته، عدّد الائتلاف أشكال النضال التي تراوحت بين الإضرابات العمالية في مواقع الإنتاج والمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية لا فقط للتنديد بالزيادات المستمرة في الأسعار بل وكذلك لفرض التراجع عليها بعد إقرارها وتنظيم التجمعات والاعتصامات أمام مقرات السيادة في العاصمة وفي الجهات، وتنظيم الحملات الدعائية للتعبئة وللردّ على أباطيل الحكومات الكاذبة. كما نظم الائتلاف حملات مقاطعة للمواد المعنية بالترفيع في الأسعار وخاصة منها المستوردة، وحثّ باستمرار على استهلاك المنتوج المحلي وشجع على خلق المسالك الملائمة لترويجه وتقريبه من عامة الشعب.
وكان النظام الضريبي من بين اهتمامات القائمين على الائتلاف، فنددوا بإجحافه في حقّ ذوي الدخل المحدود من أجراء ومنتجين صغار أو أصحاب المهن الصغرى، في الوقت الذي يتمتع فيه أصحاب الثروات الكبرى بكل الامتيازات الممكنة زيادة على التهرّب الضريبي الممنهج الذي ينخر ميزانية الدولة. فطالبوا بتشديد المراقبة على هؤلاء وفرض ضريبة تصاعدية على الثروات والتصدي لعمليات تهريب ثروات البلاد إما مباشرة أو عن طريق شركائهم من الرأسماليين الأجانب.
وغداة انتفاضة 30 و31 أكتوبر 2014 والتي أدّت إلى فرار الطاغية “بلاز كومباوري”، طالب الائتلاف المنظومة الانتقالية باتخاذ جملة من الإجراءات من بينها:
ـ اتخاذ تدابير عاجلة لتحديد ومصادرة الممتلكات والأموال التي اختلسها كبار الشخصيات في نظام بليز كومباوري وكذلك استرداد أموال المغتربين.
ـ التكليف بالتدقيق في مصاريف الإدارات الوزارية والشركات الحكومية والمؤسسات والمشاريع الأخرى.
ـ التكليف بالتدقيق في مصاريف البلديات وبقية هيئات الحكم المحلي، ولا سيما عمليات التصرف في الأراضي والتفويت فيها.
ـ التكليف بالتدقيق في قطاع التعدين والحكم ومعاقبة أي مذنب و / أو متواطئ في نهب الموارد المعدنية للبلاد.
ـ الحكم على مرتكبي أعمال النهب ومعاقبتهم ومصادرة ممتلكاتهم لصالح السكان.
ـ مدّ الضرائب إلى الأغنياء ، من خلال فرض ضريبة عن الثروة.
ولإنجاز هذا البرنامج، حثّ الائتلاف المواطنين على:
ـ ملازمة اليقظة والمرابطة في مواقع النضال من أجل تحسين ظروفهم المعيشية.
ـ النضال من أجل الاعتراف بحقهم المشروع في السيطرة الشعبية على إدارة الممتلكات العامة.
ـ الوقوف على أهبة الاستعداد لأي عمل تطلبه تطور الوضع.
وعلى مرّ الأيام والسنين، ونظرا لما حققه الائتلاف من نجاحات في مجال تدخله، تمّ توسيع مشمولاته ليصبح ” الائتلاف الوطني ضد غلاء المعيشة والفساد والاحتيال والإفلات من العقاب ومن أجل الحريات”. وهو يعتبر اليوم من الأدوات الفاعلة في مكافحة المنظومة الاستعمارية الجديدة والاستغلال الرأسمالي الامبريالي في البلاد.