منذ إسقاط رأس النظام سنة 2011 لا حديث للحكام إلاّ عن مكافحة الفساد. وكلما ازداد الحديث في هذا الموضوع ازداد الفساد استشراءا حتى أنه صار جزءا من منظومة الحكم طيلة سنوات ما بعد الثورة، فهل أنّ مكافحة الفساد مستحيلة أم أنّ المنظومة لا يمكن لها أن تبقى إلاّ في ظلّ مناخ متعفن فاسد؟
ثار الشعب التونسي لمّا اشتدت أزمة النظام وتعمقت الهوة بين الحاكم والمحكوم فأصبح الحاكم غير قادر على مواصلة حكمه بأساليبه التقليدية. ووصل به المطاف إلى استعمال الذخيرة الحية وتصفية المحتجين والمتظاهرين. كما أصبح الشعب غير قابل بالعيش تحت نفس المنظومة، ولذلك وبالعودة إلى حيثيات الثورة فهي وإن كانت تنقصها القيادة الثورية القادرة على المضي بالثورة إلى منتهاها ورغم ذلك كانت منقادة بشعارات سياسية ثورية بتأثير من بعض القوى الثورية والتقدمية (ومن بينها حزب العمال) وكذلك بتأثير من بعض الشخصيات الثورية والتقدمية التي تحظى بمصداقية ثورية في بعض الأوساط الاجتماعية والمهنية. فانطلاقة الثورة إذن كانت واضحة. وحسب الشعارات التي رفعتها الجماهير الثائرة (شغل، حرية، كرامة وطنية. الشعب يريد إسقاط النظام. خبز وماء وبن علي لا…) فهي تستهدف نظام الحكم مباشرة، النظام بما هو منظومة حكم في الاقتصاد والمجتمع والسياسة، أي أنّ الجماهير الشعبية ملت المهانة والفقر والتهميش. فنزلت إلى الشوارع مطالبة برحيل النظام وتوقا إلى حياة كريمة تتحقق فيها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولكن في الأثناء ذوي المصالح وطنيا واقليميا و دوليا لن يرضوا بقيام ثورة حقيقية تهدد مصالحهم وتقوّض أركانها ومصادر النهب والتمعش، فانطلقت هي الأخرى إلى القيام بالترتيبات الضامنة لمصالحها بالاعتماد على الأجهزة الاستخباراتية والإعلامية المأجورة وعلى علاقاتها ببعض الوجوه التي خبروها في الولاء والطاعة، وتوصلت في النهاية إلى دعم مجموعة من أجل الصعود إلى دفّة الحكم بقيادة الباجي قايد السبسي الذي ومنذ اللحظات الأولى انطلق في تنفيذ الالتفاف على الثورة لما بعث “هيئة بن عاشور”. وهي أول المنعرجات الخطيرة لتدجين الثورة ولترويض المتسلقين والطامعين. وللأسف انخرطت غالبية القوى السياسية في هذه اللعبة ونجح السبسي ومن ورائه القوى الامبريالية والإقليمية في الانحراف بمسار الثورة.
إلاّ أنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فحكومة السبسي وحركة النهضة الصاعدة في تلك الفترة والتي قدمت نفسها للشعب على أساس (ناس يخافوا ربي وضحايا الاستبداد وحاملين لفكر ثوري) وبمشاركة بعض القوى ولو بشكل بسيط. هؤلاء شيطنوا كل من ليس منهم من أحزاب وأجهزة ورجال أعمال وشخصيات وإعلام ووو وذلك بعزلهم عن محيطهم الشعبي والاجتماعي بهدف الاستحواذ على الانتخابات والانفراد بالحكم. ولكن بالتدقيق فيما حدث كانت هناك نوايا وأهداف أخرى أهم. فالغاية كانت أساسا ورئيسيا الابتزاز، الابتزاز السياسي والأمني والمالي. أمّا عن الابتزاز السياسي فقد لاحظنا كيف أنّ الباجي في ظرف سنتين أسس حزبا ليكون الأول في الانتخابات وبالنسبة إلى “الإخوانجية” فقد روّضوا بعض الأحزاب لتكون أذرعا في خدمتهم. وأما الابتزاز الأمني فلنتذكر جيدا الحملات التي شنت على المؤسسة الأمنية طالت أشخاصهم وعائلاتهم ممْا اضطرههم في 14 جانفي 2011 إلى ترك واجباتهم (وقد عبر عنها الباجي بـزرتوا اي هربوا) والغريب في الأمر فإنّ الشعب بعد أن سوّقوا له أنّ الجهاز الأمني هو من قتل أبنائه وقمع احتجاجاته السلمية بالحديد والنار، يتكرم الباجي وقتها بالزيادة في أجور الأمنيين، وهو ما حدا بغالبية القطاعات اليع المطالبة بالزيادات (على قاعدة خوذ بايك من الأول واركب لا تمنك)، ويعتبر هذا المنعرج الأخطر في تاريخ الثورة، إذ بعد الشعارات السياسية الثورية تراجعت إلى مطالب إصلاحية بسيطة، وطبعا ما ترتب عن ذلك من ابتزاز للمؤسسة الأمنية سواء من قبل الباجي سواء من قبل الاخوانجية (لتسهيل زرع عناصرهم من الأمن الموازي).
ثم نصل إلى مربط الفرس وهو الابتزاز المالي، هذا الابتزاز استهدف أساسا رجال الأعمال (بوه على خوه كي رجال الأعمال كي رجال الأعمايل)، فالحملة في ظاهرها هي حملة مكافحة الفساد وقد بعثوا لأجل ذلك هيئة قيل إنها مستقلة ونشطت عمليات السمسرة والترويض لأصحاب المال ومن دخل بيت الطاعة وأغدق المال فهو آمن ومن تمرد أو رفض فهو الفاسد ومصيره السجن، وفي الحقيقة كانت هذه هي المعادلة التي على أساسها يدار ملف الفساد، الشيطنة المطلقة والضغط الشديد ثم بعد ذلك يكون الفرز، ولكن الفرز لا على أساس الفاسد والصالح ولكن على أساس من يدفع ومن لم يدفع،.
ولهذا السبب بالذات لن ينقطع الفساد في ظل حكم هذه المنظومة الفاسدة لأنها ليس لها مشكل مع الفساد بل هي تسعى وبشكل ممنهج إلى التطبيع معه على قاعدة الابتزاز أو على قاعدة “الفيشات” فلكل “فيشته” وتبقى مفتوحة وجاهزة لتهديد صاحبها كلما رفض الطلبات، وهو أسلوب استعمله نظام بن علي للتركيع والإذلال، ولذلك كان عندما يقرر إعفاء أي كان من مهامه يقبل القرار دون تردد لأنه لو حاول التمرد فـ”فيشتو” موجودة يمكن أن تدخله السجن.
وهكذا فإنّ موضوع مكافحة الفساد لن يكون على أيدي الفاسدين، بل لن يكون إلاّ على أيدي الثوريين الحقيقيين الذين لا يساومون في المبادئ وليست لهم مصالح خاصة انتخابية أو مالية، هؤلاء الثوريون هم من أوكل لهم التاريخ مهمة قيادة الشعب نحو التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي. ولا مناص إذن من مواصلة الفعل الثوري حتى إسقاط المنظومة بل اقتلاعها من جذورها وبناء الجمهورية الديمقراطية الشعبية التي تتحقق فيها الحرية والكرامة والعزة والعدالة.
عياشي بسايحية