علي الجلولي
نقابي قاعدي- التعليم الثانوي
تستعد المركزية النقابية لتنظيم “مؤتمر استثنائي غير انتخابي” يومي 8 و9 جويلية بجهة سوسة. وقد أثارت هذه الدعوة لغطا كبيرا داخل صفوف النقابيين الذين انقسموا انقساما كبيرا عموديا وأفقيا. ولئن خيّر أنصار المؤتمر عموما الصمت عدا بعض التصريحات أو التلميحات المحتشمة هنا وهناك، فإنّ القسم المعارض رفع صوته للاحتجاج والرفض وإن لم يقدر على تعبئة قطاع قسم واسع من النقابيين لأسباب يعرفها جيدا منتسبو الاتحاد. وكان عمله منذ بداية تشكّل الفكرة والدعوة إلى المجلس الوطني للاتحاد في الحمامات أيام 24، 25 و26 أوت 2020، الذي انعقد في ظل ظرف وبائي صعب ممّا تسبب في إصابات لعدد من أعضائه. وقد مرت المركزية بقوة لإقرار دعوتها وحددت الهيئة الإدارية موعدا أوّلا للمؤتمر بتاريخ 26-27 أكتوبر 2020، تمّ تغييره بسبب الأوضاع الوبائية. فيما تصرّ اليوم على إنجاز المؤتمر الذي يتزامن مع تصاعد غير مسبوق للوباء وللإصابات والموت، علما وأنّ المؤتمر سيتم في جهة من أكثر الجهات تضرّرا وما زال حبر قرار الحجر الشامل الذي اتخذته سلطتها الجهوية لم يجفّ بعد. كما مازالت تصريحات والية سوسة حول “الحزم والصرامة” في تطبيق إجراءات الحجر ترنّ في الآذان. وفي هذا الصدد فإنّ ألف سؤال وسؤال يطرح حول موافقة وزير الصحة والوالية على إنجاز هذا المؤتمر الذي سيضم 580 شخصا في نزل لا نعتقد البتة وجود قاعات صلبه تتسع لهذا العدد مع التقيد بإجراءات التباعد.
ومع ذلك وربطا بوضع ورهانات الحركة النقابية في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة والصعبة، فإنّ الواجهة الصحية كسبب للتشكيك في الدعوة للمؤتمر- وعلى جديتها- فإنها تبقى سببا عرضيا أمام الجوهري في المسألة وهو نوايا المركزية النقابية التي لا تخفى، إذ أنها تستهدف الفصل 20 لتعديله وإلغاء شرط المدتين النيابيتين لأعضاء القيادة النقابية. إنّ هذا الفصل هو لبّ المعركة الداخلية اليوم في الاتحاد. إنّ أغلبية قيادة الاتحاد تريد التضليل بداعي أنّ المطروح أمام المؤتمر الاستثنائي هو جملة من التعديلات تهمّ تطوير العمل النقابي ومزيد مأسسته وتجويده، لكن القاصي والداني يعي ما وراء الأكمة، لذلك تجد المركزية وأنصار مؤتمرها حرجا كبيرا في الدفاع عن خيارها. ولا أدلّ على ذلك طريقة التصويت على قرار الدعوة للمؤتمر الاستثنائي التي وقع اعتمادها في المجلس الوطني، وهي طريقة مهينة وماسّة من الكرامة وخليقة بالتنظيمات الفاشية وليس بمنظمة نقابية جماهيرية قضى جزء من مناضليها أغلب تجربتهم يدافعون عن الديمقراطية الداخلية.
الدّيمقراطيّة النّقابيّة عنوان المعركة الدّاخليّة في الاتّحاد
يعلم الجميع في الساحة النقابية أنّ معركة الديمقراطية الداخلية هي معركة قديمة تعود إلى بداية السبعينات حين تعزّزت النقابات بأعضاء جدد من خرّيجي الجامعة والاتحاد العام لطلبة تونس. هذا الجيل الذي نظّم أول إضراب للوظيفة العمومية بعد 1956 وهو إضراب التعليم الثانوي سنة 1975 الذي طالب بقانون أساسي للقطاع (مازال لم يتحقق إلى اليوم) وطالب بإطلاق سراح الأساتذة الموقوفين على خلفية آرائهم السياسية، وطالب أيضا بإقرار الديمقراطية صلب الاتحاد الذي كانت تهيمن عليه بيرقراطية مرتبطة عضويا بالحزب الحاكم ، ومنذ ذلك الحين اندلعت معركة حامية الوطيس انخرطت فيها أجيال من المناضلين (اليساريين أساسا) ناضلت ضدّ التدجين والهيمنة واصطدمت بـ”المكينة” كما يقال في “بطحاء محمد علي”، وصاغت معارك شرسة قبل الإضراب العام في 26 جانفي 1978 وبعده، وأحيل مآت النقابيّين على لجان النظام وعلى التجميد ووقع حلّ نقابة التعليم الثانوي أكثر من مرة. كما تورّطت المركزية النقابية حتى في النقل التأديبية للنقابيين وللكوادر النقابية (84/85 خاصة). ورغم ذلك لم يفتّ ذلك من عزائم الأحرار الذين كانوا العمود الفقري للمقاومة بمناسبة كل الهجومات التي انتظمت ضد الاتحاد من قبل السلطة وحزبها وكل القوى الرجعية الأخرى (الإخوان..).
ولم يتراجع المناضلون النقابيون أمام غطرسة البيرقراطية المدعومة من السلطة في فترة “إسماعيل السحباني” و”عبد السلام جراد”. فقد استمرّ النضال ضد الهيمنة والتدجين واستبعاد الأصوات الحرة والتحكم في المؤتمرات وتدليسها وتزييفها. وقد دفع النقابيون غاليا فاتورة الصمود، ولعل معركة “الفصل 10” كانت من أشرس وأشرف المعارك، هذا الفصل الذي تمّ فرضه في مؤتمر جربة 2002 بعيد إقصاء السحباني من قبل بن علي الذي ظل ونظامه وصيّا على المركزية التي بقيت تدافع عنه حتى ساعات قبل رحيله.
علما وأنّ “معركة الفصل 10” كان لها ضحايا خاصة في قطاع التعليم الأساسي الذي تصدّر مناضلوه المعركة مثلما يتصدر رفاقهم مناضلو التعليم الثانوي اليوم “معركة الفصل 20”. والمعركة في جوهرها واحدة، إنها تتعلق بماهية الحركة النقابية وخصائص تنظيمها، هل يحتكم للديمقراطية في التسيير بما في ذلك التداول على المسؤولية في كل المستويات، أم تحتكم لنفس منطق الوصاية والسيطرة والإخضاع؟
حجّة من لا حجّة له
يتعلّل أنصار التخلص من الفصل 20 بكون خروج أكثر من ثلثي المكتب التنفيذي دفعة واحدة من دفّة القيادة، هو مغامرة ستتضرر منها المنظمة، كما أنّ خروج فلان وفلان وفلان… اليوم من القيادة سيحرم الحركة النقابية من إطارات كفأة ومحنّكة..، وأنّ أغلبية المعنيّين بالمغادرة هم “من الشباب، وليسوا من الشيوخ، وهم في ذروة عطائهم، فلماذا نحكم عليهم بالتقاعد المبكّر؟”.
إنّ مثل هذه الحجج وهذا المنطق برمّته ليس خليقا بمنظمة نقابية تحترم نفسها، إنها حجج من لا حجج له، بل هي حجج تنهل مباشرة من معين الأنظمة الاستبدادية ذات الحكم الفردي المطلق، الأنظمة التي تعتبر الفرد/الحاكم هو فلتة التاريخ لا يجود به الزمان مرتين، لذلك وجب الاستفادة القصوى من قدراته الفذة حتى آخر رمق في حياته.
إنها سخرية التاريخ ومهازله، وحجة أنصار تغيير الفصل 20 اليوم هي نفس حجة “علي رمضان” و”عبد السلام جراد” وأضرارهما بالأمس حول الفصل 10. لذلك فالمعركة في نفسها وجوهرها واحد والفاعلون صلبها تقريبا هم ذاتهم مع تغيير في المواقع فرضه منطق الكرسي، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ بعض الفاعلين البارزين اليوم كانوا من اللائذين بالصمت والتواطؤ في معركة الفصل 10، وطبعا فيهم من كان ذراع ضرب عند جراد ورمضان. وإن تمّ الالتجاء سابقا إلى التجميد، فالتجاوزات اليوم أصبحت أفظع وأكثر فجاجة، فأن يقع عدم توجيه الدعوة إلى قطاع التعليم الثانوي لحضور الهيئة الإدارية نظرا لموقفه من المؤتمر الاستثنائي والذي عبّر فيه عن موقف هيئات قراره القطاعية بما فيها المؤتمر، فهذه حركة خارج التاريخ، وهذه رسالة لما سيأتي بعد إنجاز المؤتمر الاستثنائي، مؤتمر الكورونا الذي سينهك صحة عديد النقابيين، وخاصة سينهك صحة المنظمة التي تطرح أمامها اليوم تحديات مصيرية لتطوير العمل النقابي وتجذيره لعكس الهجوم على الليبرالية المتوحشة التي تدمّر اليوم كل قدرات الطبقة العاملة ومكاسبها.
لقد كان أولى وأحرى أن تنكبّ المركزية النقابية على الملفات الحارقة التي تهمّ العمال والشعب والبلاد، وليس مهمات تافهة تتمحور حول كرسي القيادة الذي لن يجلب للمنظمة سوى الوبال والصراعات المدمرة التي ستبدأ يوما واحدا بعد مؤتمر سوسة، وسيكون محور النزاع حول من سيبقى ومن سيغادر من “الفريق القيادي الشاب” الذي دخل المعمعة في مؤتمر طبرقة والذي زرع أملا سرعان ما تبخّر، لقد انتظر العديد أنّ هؤلاء سيضعون النقاط على الحروف وسيعيدون الأشياء إلى طبيعتها وستكون لهم كل الزلات إلاّ زلة الالتفاف على التداول، لكن شهية السلطة أكبر من شهية الزهد فيها، لذلك تعتبر معركة رفض المؤتمر الاستثنائي ورفض مخرجاته هي معركة فرضها من اختار الموقع ومستعد لأجله على حرق كل المراكب، لكن إرادة الصادقين وإن بانوا اليوم قلّة ستنتصر، إنهم يدافعون عن المبادئ والقيم النقابية الأصيلة في وجه الفردانية والجشع والمصلحية.