علي البعزاوي
الكثير من اليسارييّن من عديد المرجعيات يتساءلون عن “غياب القوى اليسارية” و”فشلها” و”تشتّتها” ويرجعون ذلك لأسباب مختلفة ومتناقضة أحيانا منها العقلية الزعامتية والبيروقراطية وضعف التشبيب وعدم إتقان التقنيات الحديثة للتواصل. ويدعون في نفس الوقت إلى تجميع الطاقات والقوى للعب دور أهمّ في ساحة مفتوحة للفعل التغييري بحكم الفشل الذريع لمنظومة العمالة والنهب والفساد والقتل العمد وغرق مكوناتها في صراعات مفتوحة لا علاقة لها بما يعيشه التونسيون من تهديد بالموت جرّاء جائحة كورونا ومن جوع وفقر وتردي للخدمات الأساسية.
بعض اليساريّين وتحت وقع الهزيمة الانتخابية غادروا تنظيماتهم ليشكّلوا مجموعات أخرى صغيرة أو انخرطوا في العمل المدني وآخرون طلّقوا النضال لعدم قدرتهم على الصمود.
تأتي هذه الأصوات المنتقدة في الغالب من العناصر التي تعيش اليوم على هامش التنظيمات اليسارية وشكّلت لفترة طويلة جمهور الجبهة الشعبية الواسع وأنصارها. وتلجأ عادة للشبكة الاجتماعية وجلسات المقاهي للتعبير عن هذه المواقف، وهذا طبيعي إلى حدّ ما لأنّ هذا الجمهور لا يعيش حياة تنظيمية عادية ولا تتاح له بالتالي فرص النقاش والصراع وتبادل وجهات النظر بما في ذلك تقييم تجربة الجبهة الشعبية وأسباب الفشل الانتخابي.
أسباب عديدة وراء تراجع اليسار
أوّلا لابدّ من التأكيد على أنّ المرحلة على مستوى كل العالم ليست مرحلة القوى اليسارية التي تتواجد في الأحزاب والنقابات والمنظمات وحاضرة في مختلف المعارك. فهي ليست وازنة ولا تشكّل ثقلا سياسيا وتنظيميا وليست عنوان استقطاب واسع مثلما كان يحصل في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين. هي بصدد العودة التدريجية بعد فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وآسيا وتتطور وتلتحم بالشعب في عديد القارات والبلدان وبصدد تنظيم صفوفها لكنها مازالت متواضعة القدرات والحضور في الساحات السياسية.
العصر اليوم هو عصر القوى الرجعية والشعبوية الخادمة للرأسمالية في أكبر مراحلها تعفنا وعسكرة واستغلالا للشغيلة وللدول الضعيفة والتابعة في العالم.
ثانيا القوى اليسارية المحلية مازالت تعيش على وقع مخلفات الصدمة الانتخابية بهذا القدر أو ذاك. ولئن خرجت بعض تنظيماتها للشارع وتسعى إلى الربط من جديد مع الجمهور الواسع وتحاول الفعل في الواقع والتعريف بمواقفها متجاوزة تداعيات الفشل الانتخابي بعد تقييم عميق للمحطة الانتخابية بكل أبعادها (حزب العمال مثالا)، فإنّ أحزابا أخرى مازالت خارج الخدمة وتتصرف وكأنها غير معنية بالصراع الاجتماعي والسياسي وربما تعيش على وقع صراعات داخلية بين الأجنحة المختلفة التي تتشكل حول هذا الزعيم أو ذاك.
ثالثا من الضروري الإشارة إلى أنّ تجربة الجبهة مازالت تشكّل إلى اليوم بسبب مآلاتها عنصر إحباط وحيرة لدى أوسع الجمهور الجبهاوي الذي آمن بالجبهة وراهن عليها. لكن انحلالها وتفككها خيّب آماله ودفع العديدين إلى الاستقالة اعتقادا منهم أنّ المشكل يتعلق بالصراعات بين الزعامات.
إنّ ما يجب تصحيحه لدى جمهور اليساريين هو أنّ القضية الجوهرية للجبهة الشعبية وأحد أسباب فشلها يتمثل بالأساس في الخلافات السياسية التي كانت تشق مكوناتها. ففي حين ترى بعض التنظيمات أنّ الجبهة أداة الثورة الشعبية وعنوان التغيير العميق الواجب إنجازه بعد الإطاحة بالمنظومة وعليها تحديد برنامجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي وعلاقاتها الخارجية وغيرها وضبط خطة عملية لتحقيق هذه الأهداف، ترى أطراف أخرى أنّ الجبهة انتخابية بالأساس ودورها تمكين الأحزاب من الحصول على مواقع في المؤسسات البورجوازية من برلمان ومجالس بلدية وغيرها وتبقى المهمات الاستراتيجية التي تتعلق بالوصول إلى السلطة مرتبطة بالأحزاب التي يسعى كل واحد منها إلى المراكمة على طريق تحقيق مشروعه الخاص.
ولئن بدا المعسكر الأول مراهنا على الثورة للاطاحة بالمنظومة مع ما يفترض ذلك من قطيعة مع الحكم بمختلف مكوناته وإعداد ومراكمة على طريق ذلك من خلال الانخراط في النضال الميداني والالتحام بالحراكات الشعبية، ركز المعسكر الثاني أكثر على الانتخابات لحصد ما أمكن من المواقع مع الإصرار على المشاركة في حكومات المنظومة والتحالف مع مكوناتها الليبرالية ضد الأطراف الأكثر رجعية وظلامية. وهو تكتيك إصلاحي انتهازي سرّع في وتيرة تقسيم الجبهة وضرب وحدتها وشلّ إمكانية تطورها إلى جبهة لتحقيق أهداف الثورة مثلما نصّت عليه أرضيتها التي لم تقع بلورتها في شكل برنامج واضح ومفصّل. هذه الخلافات الجوهرية بدت للبعض بمثابة الصراعات الزعامتية بين القيادات والفصائل. لكنها في الواقع غير ذلك تماما. وحتى على افتراض أنّ هناك صراع قيادة داخل الجبهة وهذه مسألة منطقية داخل هذا الشكل من التنظيمات فإنّ طبيعته سياسية بالأساس وتتكثف حول من يقود الجبهة الثوريون أم المتصالحون مع المنظومة والمنفتحون عليها.
ما المطلوب من القوى اليساريّة اليوم
لا نعتقد أنّ العودة إلى تجميع القوى اليسارية والتقدمية بنفس الشكل القديم (جبهة سياسية) هو الحل الأفضل لأنّ إعادة نفس التجربة وبنفس المنطلقات دون حسم الخلافات السياسية يُعتبر حرثا في البحر ومضيعة للوقت إلاّ إذا كان الهدف مشاركة المنظومة في الحكم والتواجد إلى جانبها في مختلف المؤسسات على غرار ما يحصل داخل الاتحاد العام التونسي للشغل حيث يتقاسم بعض اليساريين المواقع القيادية داخل المنظمة مع البيروقراطية النقابية دون أدنى تأثير على توجهات الاتحاد ودون تثوير للقوى العمالية وللشغيلة حتى تتموقع في الصراع السياسي والاجتماعي إلى جانب قوى الثورة والتغيير.
إنّ المطروح هو تنظيم الندوات واللقاءات لتعميق النقاش حول تجارب العمل المشترك والخروج بالاستنتاجات الضرورية للاستفادة من الإيجابي في التجربة والبناء عليه مع الانخراط بالتوازي مع ذلك في العمل الميداني والالتحام بالحراكات الاحتجاجية ومحاولة التأثير فيها وتسليحها بالشعارات وتنظيمها وتأطيرها وتوحيد مطالب الحركة لتشكّل في حال تطوّرها عنوان استقطاب خارج الاصطفافات الرجعية. وعلى جمهور القوى اليسارية الضغط على الأحزاب حتى تنخرط في هذا المسار الذي يعتبر الشرط الضروري للتعافي من الصدمة الانتخابية واستعادة الثقة في المشروع والقدرة على الفعل مع إمكانية تطوير موازين القوى المختلة حاليا لصالح القوى الرجعية داخل الحكم وخارجه.
ويطرح على القوى اليسارية في هذه المرحلة وبصورة مباشرة تنظيم تحركات ونضالات مشتركة مع أطراف ديمقراطية وتقدمية حزبية ومدنية وغيرها حول ملفات وقضايا يقع التوافق حولها (ملف المديونية – برنامج الحكومة التقشفي بما يتضمنه من اعتداء على القدرة الشرائية وعلى الحق في الشغل – ملف السيادة الوطنية – القانون الانتخابي المزمع تغييره – قانون البنك المركزي – الجائحة وتداعياتها على صحة المواطنين وأوضاعهم المعيشية…). هذه النضالات المشتركة من شأنها إعادة بناء الثقة والمساهمة في تعديل موازين القوى وعودة القوى اليسارية إلى المشهد السياسي… ومع تطور هذه التجربة يمكن النظر لاحقا في طرق وأساليب تطوير العمل المشترك بارتباط بمتطلبات الواقع الموضوعي وتطوراته.
إنّ القوى اليسارية والتقدمية مطالبة أيضا بمزيد التنسيق النقابي والشبابي والنسائي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس وصلب المنظمات المختلفة وخوض المؤتمرات بقائمات مشتركة على قاعدة التمثيل النسبي. إنّ من شأن هذا التشبيك أن يهيّء لمزيد الأعمال المشتركة ويفرض نواميس وقواعد عمل ملزمة للجميع.
هذه هي الشروط والممهدات الضرورية لعودة القوى اليسارية للفعل والتأثير في الواقع ومن ثمة الاستقطاب والانغراس في صفوف الشعب والمراكمة الحثيثة على طريق تعديل موازين القوى كخطوة نحو تغيير الواقع تغييرات عميقة وجذرية.
عودة القوى اليسارية والتقدمية للفعل في الواقع والتأثير في المشهد هي ضرورة يفرضها الواقع الموضوعي، واقع التبعية والاستغلال والفساد والفقر والتهميش واستفحال الحالة الوبائية أمام بهتة وعجز منظومة الحكم. لكنها عودة ينبغي أن تكون مدروسة وواعية حتى تؤسس لمستقبل أفضل وتفتح آفاقا أرحب أمام الشعب.