جيلاني الهمامي
عيّدت تونس (بمعنى أحيت العيد) على وقع مهازل لم يسبق لها أن عرفتها لا في عهد نظام البايات المتخلف ولا حتى أيام عاشت مؤسسات الدولة ارتباكا عاما، أيام أصبحت سعيدة ساسي ابنة أخت الرئيس الراحل بورقيبة ملكة القصر الرئاسي بقرطاج.
فليلة العيد توجه المشيشي، رئيس الحكومة بالصدفة، إلى الشعب التونسي بكلمة في الظاهر “ليعيّد” على التونسيات والتونسيين. ولكن في الحقيقة “ليزلق” بعض الرسائل أهمها أنّ حكومته تعاني من القصف الدائم من كل حدب وصوب وأنّ الرئيس قيس سعيد الشعبوي الذي يلهث وراء صناعة شعبية مزيفة، كما جاء في خطابه، ما انفك يضع العصا في عجلة الحكومة حتى لا تنجح.
فماذا عسى أن يقول مواطن يشاهد رئيس حكومة بلاده يتهجم – تقريبا – على رئيسها؟ حالة لم يسبق أن عاشها بلد من البلدان بما في ذلك في البلدان التي يسمح نظامها السياسي والانتخابي بوجود رئيس دولة من حزب سياسي مختلف بل ومعادي لحزب يمسك بالحكومة.
فقد عرفت فرنسا في التسعينات مثلا ما يسمى بـ”التعايش” la cohabitation بين الرئيس اليميني من حزب RPR (التجمع من أجل الجمهورية) جاك شيراك ورئيس الحكومة من الحزب “الاشتراكي ” ليونيل جوسبان. ولم يصل الأمر بين الخصمين إلى ربع ما وصل مع أقطاب الحكم في منظومتنا الحالية. شيراك وجوسبان كانا خصمين بل عدوين سياسيين. ولكن تشبعهما بالحس السياسي البرجوازي فرض عليهما التعامل بما يقتضي احترام دولتهم البرجوازية. أما عندنا في تونس فإنّ النهضة التي دعّمت قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية تحت الطاولة في الدور الأول وجهرا وعلانية وبشكل رسمي في الدور الثاني، وقيس سعيد الذي جاء بالمشيشي ليكون وزيرا ثم ليصبح رئيس حكومة تحت عنوان “متاعنا” لا أحد منهم يضيّع أبسط فرصة ليقول في خصمه ما لم يقل مالك في الخمرة.
فرئيس الحكومة يطلع على الناس ليقول في وزيره للصحة العمومية ما لا يجوز من الناحية الأخلاقية البسيطة قوله احتراما لأبسط موجبات الاحترام بين زميلين في الفريق الحكومي. والوزير المقال (وزير الصحة) ينشر تدوينة ليعلم الرأي العام بأنه تفطن لأمر استقالته في وسائل الاعلام مثله مثل أي مواطن تونسي آخر ولم يتفطن لذلك إلاّ باتصال صديق له.
رئيس الدولة يدلي هو الآخر لوسائل الإعلام ليقول إنّ الذين دعوا إلى حملة التلقيح يوم العيد إنما دبروا مؤامرة على الشعب التونسي لأنّ تلك الحملة لم تكن على حد تعبيره للتلقيح وإنما لنشر العدوى. وقد تعمد أصحاب الدعوة، حسب رأيه، إلى مزيد انتشار العدوى وإلى سقوط مزيد من الضحايا (لا الاضحية) وذلك في إطار ترتيب سياسي للمستقبل. وقد تناسى قيس سعيد أنّ مصدر الدعوة لتنظيم هذه الحملة والمبادر بها هو وزير الصحة الذي سارع باستقباله مباشرة بعد إقالته ليثني على الدور الذي قام به على رأس وزارة الصحة وليقول له إنّ إزاحته من على رأس الوزارة سببه أنه “من جماعة قيس سعيد”.
لقد بات مستجازا لدى قيس سعيد والمشيشي والغنوشي وكافة رموز منظومة الحكم في باردو وقرطاج والقصبة الإدلاء بتصريحات تنم عن مستوى سياسي واتصالي وعلائقي وضيع ومنحط لا يمت للسياسة بعلاقة. وبات جراء ذلك لدى كل المواطنين أنه يعيش في ظل حكم دولة كبار مسؤوليها، رئيسها ورئيس حكومتها ورئيس برلمانها، ليس لهم من شغل غير تصفيه خصومات “بودورو” في وقت تخشى البلاد من الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي ويعاني الشعب ضنك العيش ويتهدد المرض جميع أفراد الشعب ويخيم على الحياة شبح الاقتتال والفوضى.
لقد بلغ تعفن الحياة السياسية درجة غير مسبوقة في تاريخ بلادنا. ولا شيء ينبئ بإمكانية الخروج من هذه الدوامة المفزعة. بالعكس من ذلك يبدو أنّ مزيد تعفين الأوضاع هو التكتيك الأنسب في منظور أقطاب الحكم المتخاصمين لتوفير فرصة الانتصار على الآخر.
تعيش تونس اليوم تحت حكم قادة دولة من مستوى تحت الصفر تقريبا مثلما شهدت بذلك منظمة الترقيم الدولي فيتش رايتينغ Fitch Ratings في تقريرها الأخير (8 جويلية الماضي) حول الوضع في تونس. (لنا عودة إلى هذا الموضوع) حيت أوعزت الانهيار الذي تسير فيه البلاد لجملة من الأسباب منها “عدم الاستقرار الحكومي وانعدام الكفاءة لدى الوزراء” instabilité des gouvernements et incompétences des ministres. ولم يعد الأمر يتوقف عند مسألة الكفاءة والاقتدار فقط بل تعداها إلى مظاهر جديدة في أسلوب الحكم وتقنيات إدارة شؤون الحياة والمؤسسات في أبسط مقتضياته بما يسمح بالقول إننا حقا أصبحنا في ظل “دولة كاراكوز”.