علي بنجدو
ناشط يساري مستقل
تمرّ اليوم ثماني سنوات على حادثة اغتيال الشهيد محمد البراهمي 25-07-2013 // 25-07-2021، حادثة إنسانية كونية فُجع العالم من خلالها في حياة مناضل وطني تقدمي وفي مصير ثورة لم تكتمل، حادثة اختلطت فيها تراجيديا الاغتيال الهمجي بحالة من الترقب والانتظار والقلق لدى أوساط واسعة من الشعب التونسي بكل قواه الحرة ونخبه السياسية والثقافية التي راهنت على الثورة وعلى صناعة مصير إنساني حر خارج مربعات وسياقات الرجعية وهمجيات الأطروحات الأيديولوجية الإسلامية التكفيرية والاستئصالية. ولأنّ التاريخ، في لحظات حسمه ومنعرجاته الكبرى تصنعه الإحداثيات والتحولات العلمية/المعرفية الكبرى مثلما تعيد تشكيله الشعوب الساعية إلى انعتاقها وحريتها بقدر ما تعيد صياغة شروطه شخصيات محورية ولو كانت دماؤها ثمنا لذلك، فإنّ محمد البراهمي باستشهاده كان من جنس هذه الشخصيات ولذلك فإنّ يوم 25 جويلية 2013 كان يوما فارقا في سيرة رجل مثلما كان تاريخا فارقا في سيرة وطن وفي مسار ثورة لم تتحدد مآلاتها بعد.
من يعرف محمد البراهمي عن قرب يعرف أنّ هذا الرجل لم يكن مجرد سياسي أو مناضل قذفت به الصدفة إلى عالم السياسة كما لم يكن غريبا عن الثورة آملا بعيدا وواقعا حيا/معاشا بل إنّ الرجل كان يحمل في جينات وعيه الريفي البسيط منذ البدء وعلى امتداد سيرته النضالية كاملة ملامح شخصية تقدمية مناضلة صلبة يغلب على طباعها النبل والشهامة والقدرة على مغالبة الصعاب والصدمات بروح مرحة وبكثير من الحكمة والتسامح.
الذين عاشروا محمد البراهمي ذاتيا (على المستوى الإنساني) وموضوعيا (في النضالين السياسي والنقابي) يعرفون تماما أنّ الرجل لم يكن يُضمر الشر لغيره ولم يكن شخصا حاقدا ولم تكن تؤثر فيه صغائر الأمور ولا الخلافات الإنسانية العرضية وأنه لم يكن يحكم الأيديولوجيا معيارا لانتقاء علاقاته الذاتية ولا للحكم على الآخرين، بل على العكس من ذلك كان رجلا متواضعا ودودا دائم الابتسامة مع عامة الناس وكثيرا ما كان يتعامل مع ممّن يسيء إليه بقدر كبير من الترفع والتسامح…
السيرة السياسية للشهيد محمد البراهمي كانت تركيبة مختلفة عن السائد في تواشج وتقاطع الذاتي والموضوعي ومزيجا إنسانيا رائعا من نبل الشخصية والنضج السياسي. ولهذه الأسباب، ولغيرها، كان شخصا محبوبا لدى النخبة السياسية التي تقاسمه القيم والمبادئ كما لدى أوساط واسعة من الناس الذين بكوه بحرقة يوم سقط شهيدا…
لقد كان محمد البراهمي في حياته، ولحظة اغتياله من قبل غربان الظلام/ تتار العصر القروسطي، وظل بعد سقوطه شهيدا ندّا سياسيا وازنا ومحددا في مقارعة ومقاومة أولئك الذين لم يؤمنوا يوما بقيم التقدم والعدالة والحرية والمواطنة، أولئك الذين قدّروا خطأ أنّ الأفكار تموت بموت/اغتيال أصحابها.
ومن باب ذكر خصال الشهيد ونضجه السياسي وقدرته على تدبّر أمور السياسة بكثير من النضج والحسم يمكن التذكير بدوره في الندوة الوطنية للجبهة الشعبية بمدينة سوسة حيث أسندت له رئاسة أشغال الندوة بالإجماع من قبل كل المكونات السياسية للجبهة، ورغم أنّ الخلافات كانت سائدة بقوة في ورشتي الهيكلة والتنظيم والخط السياسي للجبهة فإنّ الشهيد محمد البراهمي (رفقة رفاقه من كل مكونات الجبهة) كان له دور رئيسي في تذويب الاختلافات وحسم المقررات النهائية للندوة بما يتلاءم مع إكساب الجبهة مزيدا من التماسك الداخلي والقدرة على الانتشار والنجاعة السياسية والتنظيمية… كل من حضر الندوة كان يدرك حجم القلق والخوف من مآلات تلك الندوة وكيف أنّ الشهيد كان ينتقل من قاعة إلى أخرى لشدّ أزر النواب وإقناعهم بضرورة الترفع عن الاعتبارات الخطية ووضع مصلحة الشعب التونسي وحماية مسار الثورة ووضع أهدافها في اعتبارهم…
المثال الثاني في هذا السياق هو مساهمته بجهد كبير وبلا احتراز يذكر في بلورة موقف الجبهة الشعبية صيف جويلية 2013 من الوضع السياسي والدعوة إلى العصيان المدني وإسقاط حكومة الترويكا والاعتصام أمام المجلس التأسيسي وقد كان له دور رئيسي من داخل هذا المجلس في إقناع طيف من نوابه للمشاركة في الاعتصام المذكور والانسحاب من المجلس. والكل يذكر كيف أنّ صوت الشهيد كان عاليا (رفقة بعض نواب اليسار) في مجلس تأسيسي خاضع في أغلبيته لنواب الترويكا…
ورغم أنّ حادثة اغتياله كانت تغييبا أبديا لحضوره الجسدي فإنّ ما عقب هذه الحادثة من مآلات سياسية (إسقاط حكومة الترويكا، التعجيل بكتابة الدستور…) كان مطبوعا بمواقف الشهيد صلب الجبهة الشعبية وفي الفضاء السياسي العام…
لم يكن الشهيد ذو هوس بالمجد الشخصي ولم يكن سكتاريا/ضيّق الأفق والطرح في انتمائه السياسي وإنما كان يؤمن بأنّ مستقبل اليسار والقوى التقدمية وطنيا وقوميا وإنسانيا كونيا هو الحل الجذري لوضع المسار الثوري في موضعه الصحيح والتصدي لكل مشاريع الأخونة السياسية وتمييع رهانات الثورة وإفقادها استقلاليتها وبعدها التحرري في التحالفات الإقليمية والاستعمارية.
إنّ محمد البراهمي، كما الذين سبقوه ولحقوا به من شهداء الحرية، سيبقى رمزا يهابه أعداؤه والذين تآمروا على اغتياله وتوهّموا أنّ موته سيكون موتا لأفكاره… ستظل ذكراه شعلة متّقدة إلى الأبد في عقل ووجدان كلّ أحرار الإنسانية ونورا يضيء لهم مسارب الحرية والتقدم….