محمد العربي العياري/ مركز الدراسات المتوسطية والدولية/تونس
بتاريخ الخامس والعشرين من جويلية “يونيو” 2021 أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد على جُملة من القرارات التي اختتمت يوم الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية، وأسدلت الستار على عقد من الانتقال الديمقراطي بمؤسساته التشريعية والقضائية والتنفيذية. حيث أعلن على تجميد كل اختصاصات مجلس نواب الشعب، مع ترؤسه للسلطة التنفيذية وللنيابة العمومية، هذا بالإضافة إلى رفع الحصانة على كل نواب الشعب. ترافقت هذه القرارات مع تكليف الجيش الوطني بتنفيذها وحماية المنشآت الحساسة.
لم تمر هذه الأحداث دون أن تُثير جملة من ردود الأفعال ما بين المحلّي والدولي، حيث تتالت تصريحات قيادات الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية بين مؤيد ورافض للإجراءات التي قذف بها رئيس الجمهورية في اتجاه ساحة سياسية تعيش منذ فترة أزمة حادة ألقت بضلالها على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع جائحة فيروس الكورونا وما رافقها من انهيار شبه تام للمرفق الصحي، مما اجبر البلاد على الدخول في موجة من استجداء المساعدات والهبات الدولية لتدارك هذه الثغرة الخطيرة في “حرب” الدولة ضد الكوفيد. رافق ذلك تعبئة للشارع بين معارض ومؤيد “للشرعية” الانتخابية بتعبير أنصار النهضة المحتجين أمام البرلمان في الليلة الفاصلة بين 25 و26 جويلية.
مع انقسام الشارع التونسي وتداعي جزء من النخب الأكاديمية والسياسية نحو تبرير قرارات الرئيس، وجزء ينادي بضرورة العودة إلى ما قبل 25 جويلية، انتقلت الجمهورية التونسية من حالة الستاتيكو السياسي إلى وضع يُنبئ بصيف وربما خريف لن تنزل معدلات حرارته إلى مستوياتها العادية.
يُبرر رئيس الجمهورية دوافع ما أقدم عليه من إجراءات، بما يعتبره” تعفّن” الوضع السياسي وتجاوز دائرة المعقول والطبيعي في ظل وضع أصبحت معه الدولة على حافة الانهيار التام.
مع إشارات مقتضبة أراد من خلالها طمأنة الرأى العام والفاعلين السياسيين والاقتصاديين، ثم لقاءات مع مختلف القوى الوطنية:( الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة، اتحاد الفلاحة، الهيئة الوطنية للمحامين، نقابة الصحفيين التونسيين، المجلس الأعلى للقضاء، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان)، يظهر رئيس الجمهورية في صورة المُخطط الجيد والمستعد لمواجهة القوى الوطنية الفاعلة وإقناعهم بما يعتبره ضرورة وطنية رغم أنها “أبغض الحلال الديمقراطي”.
اختلفت تقييمات المنظمات الوطنية والشخصيات السياسية في قراءة ما حصل واستشراف تداعيات ذلك على كامل الجسم الديمقراطي في البلاد من أحزاب ومؤسسات. على ضوء هذه التقييمات، يمكن التوقف عند ثلاث قراءات توزعت بين ثلاث مجموعات:
ردة الفعل الأولى تمثلت في “مباركة” ودعم لقرارات رئيس الجمهورية وتبرير ذلك بمعطيات التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي عاشت على وقعه البلاد طيلة عشر سنوات وضرورة تدارك الأمور بسرعة وحسم. يمثل المحامون وبعض من النخب الأكاديمية وحزب حركة الشعب وجزء من القيادات التاريخية لحزب التيار الديمقراطي ثم الاتحاد العام التونسي للشغل أصحاب هذا الموقف.
القراءة الثانية تلخّصت في رفض مطلق للإجراءات الرئاسية مع دعوة صريحة للعودة إلى ما قبل 25 جويلية. هذا الموقف تتبنّاه حركة النهضة وائتلاف الكرامة والحزب الجمهوري وجزء من الطيف السياسي كأفراد إضافة إلى بعض النخبة الأكاديمية. في حين يُصر حزب العمال على أنه لا عودة إلى مسار ما قبل 25 جويلية سياسيا واجتماعيا وبنفس الخيارات الاقتصادية والتنموية التي دأبت عليها حكومات فترة 2011-2021، كما أنه لا سبيل إلى ترك الحبل على الغارب لرئيس الجمهورية ليُعيد تشكيل المشهد السياسي برؤية أُحادية شعبوية لا تستند إلى برنامج واضح خاصة وأنه انقلب على كامل مكتسبات الانتقال الديمقراطي والتي دفع الشعب التونسي ثمنا باهظا في سبيلها.
القراءة الثالثة تمركزت بين قبول للواقع الجديد مع دعوة رئيس الجمهورية إلى تقديم خارطة طريق تُوضّح سيرورة الأحداث ومآلات الأمور في قادم الايام. يصدح بهذا الموقف بعض من الإعلاميين وأساسا النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
بهذه المواقف، يبقى البيت الداخلي متذبذبا بين قراءات تتقاطع أحيانا وتتنافر في أحيان أخرى، يدفعها في ذلك طغيان منطق الحسابات السياسية لعائدات التموقع أوالمصلحة الوطنية أو كلاهما معا. لكن الثابت إلى حد اليوم، أن أيّا من هذه الأطراف لم يتلقى ردودا واضحة-عدى بعض التطمينات- من رئيس الجمهورية، حيث ينتظر الشارع التونسي ومن خلفه هذه المنظمات والأحزاب والشخصيات، ما يمكن أن تؤول إليه الأمور على ضوء قرارات رئيس الدولة والتي تواترت بصفة تكاد تكون يومية وأحيانا أكثر من مرة في اليوم الواحد على امتداد 5 أيام منذ يوم 25 جويلية.
لا يمكن أن يمر حدث كهذا دون أن تلاحقه موجة من ردود الأفعال الدولية التي تتخذ شكل المواقف الديبلوماسية الرسمية في مرحلة أولى، على أن تتطور بحسب تصاعد المواقف في الداخل وما يمكن أن تؤول إليه أمور السياسة والعلاقة بين الفاعلين السياسيين. في هذا الإطار، تابعنا تصريحات مختلف المسؤولين عن السياسة الخارجية لبعض الدول، والتي نستطيع تبويبها في أربع مواقف.
الموقف الأول كان تعبيرا على دعوة “لطيفة وناعمة” من فرنسا وألمانيا للرئيس قيس سعيد إلى الإسراع بالعودة إلى وضع المؤسسات الدستورية مع احترام الشأن الداخلي التونسي وعدم التدخل في مجريات الأحداث باعتبارها شأنا يهم التونسيين فقط. فرنسا التي كانت حاضرة بقوة منذ انطلاق موجة الربيع العربي من تونس إلى ليبيا وسوريا، مع ملف ثقيل بانتهاكات عسكرية داخل التراب الليبي واستضافتها لجزء من المعارضة السورية، مع داخل يسير نحو التأزم بفعل الكوفيد واحتجاجات شعبية بين الحين والآخر، تبحث عشية انتخابات رئاسية على تعزيز تواجدها الاقتصادي والسياسي في تونس، والمحافظة على بوابة عبور آمنة نحو العمق الإفريقي، تُغذّيه رغبة في تحويل الرهان السياسي من سلطة منتخبة ومتواجدة منذ 2011 إلى حليف جديد يُتقن الحديث باللغة الفرنسية وأشياء أخرى. أما ألمانيا التي تبحث على الاستفادة من أزمات الربيع العربي، والتي أجادت توظيف مسألة اللاجئين السوريين، ثم عودتها إلى قيادة القاطرة الاقتصادية لأروبا بأكملها- أوروبا دون إنجلترا- لا تنظر إلى من يحكم بقدر ما يهمها كيف سيحكم. لذلك هي تحاول الاستثمار في رئيس جديد تمكّن من حشد جزء هام من الشعب عشية إعلانه على إجراءاته الاستثنائية. ينضاف إلى أصحاب هذا الرأي، الولايات المتحدة الأمريكية التي تُلقي إدارتها بمواقفها الرسمية عبر صفحات جريدة “النيويورك تايمز”، في حين ينتهج ممثلي الديبلوماسية الرسمية سياسة “نحن نؤيدك إلى حد ما”. يبقى هذا الحد مفتوحا على التوسع في الزمن تحت تأثير عقارب الساعة التي سوف يقع تعديلها حسب توافقات وعناوين سياسية من المنتج (الولايات المتحدة الأمريكية)، إلى المستهلك (النظام السياسي التونسي).
بالمحصلة، هي مواقف خجولة في زمن الاستثناء الديمقراطي.
الموقف الثاني تُمثّله دول مثل السعودية ومصر والإمارات والتي كانت ولازالت تدفع باتجاه إقصاء حركة النهضة وجزء من الفاعلين السياسيين من المشهد السياسي، مع الاستعداد للمراهنة حتى على حصان أعرج في سباق قيمة جائزته أعظم ارتفاعا من برج خليفة في دبى.
الموقف الثالث يتكون من دول الإقليم (ليبيا والجزائر) التي تتأثر ضرورة بما يحدث في تونس. ليبيا التي تتلمّس طريقها نحو الاستقرار السياسي مع سلطة وليدة مخاض عسير من المفاوضات بين تيارات سياسية أنهكها الإحتراب الداخلي والتقاتل على امتداد عقد من الزمن، ولم يعد من الممكن التعايش في تماس مع إقليم جغرافي يُمثل متنفّسا وشريان حيوي فقد بين عشية وضحاها تراكمات زمن ديمقراطي يبقى مثالا على قدرة الشعوب العربية على تلمّس الديمقراطية فكرا وممارسة. أما عن الموقف الجزائري، فقد حافظ على نغمة متوسطة تُترجم بفائض من الاحتراز عن التصريح العلني بما يُخامر العقل السياسي الجزائري. لكننا نستطيع فك شيفرة التحفظ والصمت عن الإدلاء بموقف على الملأ، حيث لا تطمح الدولة الجزائرية إلا لحفظ الأمن على حدودها الشرقية وقطع الطريق عن كل تسرُّب ممكن لفتيل احتراب أو أزمات سياسية قد تتخذ أشكالا أخرى. بالمحصلة، لن تحيد الجزائر على مطلب الحفاظ على استمرارية الدولة التونسية، والمحافظة على الحد الأدنى الديمقراطي المكتسب وفق مطالب وخصوصيات وشروط التونسيين دون سواهم.
الموقف الرابع يُحسب على تركيا وقطر. تركيا التي تعاملت مع انقلاب انتهى بتعزيز سلطة حزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامية، والتي تبحث –عبر قنوات متعددة- منها السياسي والاقتصادي والعسكري، على تمديد نفوذها من آسيا إلى إفريقيا بشراكة استراتيجية مع دولة روسيا الفيدرالية (مشروع السيل التركي)، وتحالف موضوعي مع شق من الفاعلين السياسيين في ليبيا، لم تتوانى عن دعوة رئيس الجمهورية قيس سعيد للعودة إلى الشرعية التي أفرزتها صناديق الانتخابات. أما قطر، العائدة إلى أحضان مجلس التعاون الخليجي مع تفاهمات بغلق بعض الملفات منها تمويل ودعم الأحزاب ذات الميول الإسلامية –ومنها حركة النهضة التونسية- لم يتجاوز موقفها دعوة رئيس الجمهورية إلى مواصلة الاضطلاع بأدواره الطبيعية كضامن للحقوق ومكتسبات الانتقال الديمقراطي، دون إدانة أو ممارسة نوع من الضغط.
هذه جملة من القراءات لردود الأفعال لبعض الدول التي تفاعلت مع ما وقع في تونس من أحداث. بالعودة إلى قيس سعيد، وسجلّه التأويلي لنصوص الدستور، فإن سلسلة الإرهاصات أو مؤشرات ما تجرأ عليه من إغلاق لصفحة الانتقال الديمقراطي، تُحيلنا جميعها إلى التذكير بما كان يُردده هذا “الفقيه” الدستوري من تأويلات استأثر بها لوحده بعد اعتلاءه سدّة الرئاسة، إضافة إلى سخطه المتواصل على الأحزاب والنظام السياسي والانتخابي. تواصل هذا الطرح “الشوفيني” متناسيا أن الدستور والنظام الانتخابي وقيادات وقواعد الأحزاب، هي من صعّدته إلى منصب رئاسة الجمهورية.
بتتالي “التهريج” الذي حصل في أروقة البرلمان من قبل طرف ينتمي إلى نظام ما قبل 2011، مع أزمات سياسية ومالية متتالية، يلتجئ رئيس الجمهورية إلى استثناء الديمقراطية، دون علم منه بأن حالة الاستثناء التي تحدث عنها يوم الإعلان عن قراراته، لا يمكن أن تطرح في سياق كلام يُلقى على عواهله دون إلمام بشروط وآليات وكيفيات الاستناد إلى حالة الاستثناء. الإيوستيتيوم Iustitium أو تعليق القانون كما فسّره جورجيو أغامبن وكارل شميت، بعيد كل البعد عن تأويلات رئيس تحوّل من رئيس للجمهورية بما تعنيه من مؤسسات وسلط مستقلة، إلى رئيس للدولة بما تعنيه من عقل واحد ورأى أوحد.
أن يطلق قدماء العسكريين دعوات إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي، ومن قبله رفض رئيس الدولة لمبادرات الحوار الوطني في جولات مفاوضات متعددة، وأن يتحدث على انقضاء المدة الدستورية لتركيز المحكمة الدستورية، ثم زيارات متتالية لدول مثل فرنسا ومصر وما رافقها من سيل من النقد، كلها كانت ولازالت دليلا على عدم قبول رئيس الدولة للتفاعل مع مُخرجات الانتقال الديمقراطي.
تبحث بعض القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، على مخرج للمأزق الحالي من خلال النقاش حول مبادرة قد تتخذ شكل خارطة طريق أو برنامج لتسيير الدولة في فترة لابد أن يقع تحديدها في أقرب الآجال. في المقابل، يقف رئيس الجمهورية مستندا على دعم حصّله من جزء من الشعب ومن النخبة السياسية والأكاديمية، منتظرا أقصى ما يمكن أن تطرحه القوى الوطنية، وتنازلات خصمه السياسي (حركة النهضة)، وأعداءه الطبقيين المُفترضين (الفاسدون) مثلما تعود ترديده في كل مناسبة.
مع رئيس طالما رافقته تهمة الشعبوية وتكرار خطاب ممجوج بفائض من لغة لاتُسمن من فقر سياسي ولا تُغني من جوع في الرؤى والبرامج، ويُهيّئ الأرضية لممارسة السياسة مثلما يريدها، ننتظر مآلات الأمور في قادم الأيام حتى نكتشف جينات وطبيعة ديكتاتورية ناشئة استثنت الديمقراطية، في زمن كانت فيه الجمهورية التونسية بلد الاستثناء الديمقراطي.