علي البعزاوي
لقد أعاد “25 جويلية” تشكيل الخارطة السياسيّة والموازنات السياسيّة لغالبية الأحزاب، سواء من حيث مواقفها أو مواقعها أو تحالفاتها، ومن بينها قوى اليسار التي شكّل أغلبها لفترة ليست بالقصيرة الجبهة الشعبية، وفُرِضت عليها مواقف متباينة ومتناقضة أحيانا. ويطرح علينا، باعتبارنا أحد مكونات العائلة اليساريّة، بإلحاح البحث العميق حول أسباب هذه الاختلافات التي عمّقت تشتيتها وحدّت من تأثيرها وخاصّة استشراف تطوّراتها اللاحقة. وقد انطلقت فعلا مساعي العودة إلى التنسيق والتشبيك لتوسيع تأثير المشروع الديمقراطي الاجتماعي ومواجهة الاصطفافات الرجعيّة واستقطاباتها المتنامية باطّراد.
معسكر الموالاة وخلفيّاته
يمكن توزيع معسكر المُساندين من القوى اليساريّة والقوميّة لإجراءات الرئيس إلى صنفين كبيرين:
• الأحزاب القومية (حركة الشعب – التيار الشعبي – حركة البعث) ومعها حركة تونس إلى الأمام والوطد الاشتراكي. وتراهن كلّها على مشروع الرئيس دون تحفّظ وعبّرت عن ولائها التام له وانطلقت في عمل دعائي بهدف إنجاحه وقدّمت لأجل ذلك بعض المقترحات التي تزعم المشاركة بها في الحوار المزمع عقده للقطع مع ما قبل 25 جويلية والإعداد لمرحلة جديدة.
ما يجمع هذه الأحزاب هو البحث عن شطب حركة النهضة من مشهد الحكم باعتبارها خصما تاريخيّا. إضافة إلى أنّ هذه الأحزاب لا تتباين جوهريّا مع المشروع الاقتصادي والاجتماعي مع القوى الليبراليّة. وهدفها الرئيسي في هذا المستوى ليس إسقاط النظام الرأسمالي وتغييره جذريّا بل إصلاحه وترميمه عبر الحدّ من سياسات التقشّف والطابع المتوحّش للاستغلال وإعطاء دورٍ للدولة في إدارة الشأن الاقتصادي وإصلاح المنظومة الجبائية… أي أنّ هذه الأحزاب لا تطرح مشروعا للتّغيير وليست في قطيعة مع المنظومة الرأسمالية، وبالتالي فالاصطفاف وراء إجراءات قيس سعيد يمكن أن يحقق أهدافها ويفتح أمامها أبواب المشاركة في الحكم خاصة وأنها تعاني من معضلة الانتشار والانغراس والحضور الواسع في المجتمع والتّعويل على قدراتها التنظيمية الذاتية وشقّ طريقها باستقلالية عن منظومة الحكم.
ونشير في هذا الصّدد أنّ بعض مكوّنات هذا المعسكر شارك في الحكومات الليبراليّة جنبًا إلى جنب مع حركة النهضة وتعايش معها ونفّذ سياساتها التقشّفية.
• باقي الأحزاب اليسارية (الوطد الموحّد – بعض المجموعات اليسارية الصغيرة) عبّرت عن مساندتها لإجراءات الرئيس لكنّها مع بعض الحذر، حيث تركت لنفسها هامشا من التّباين خاصة في توجّسها من عدم احترام الرئيس للحقوق والحريات. ومنطلقات هذه المساندة تتمثل أيضا في العداء لحركة النهضة وفشل منظومتها في تحقيق مطالب الشعب الدُّنيا، إلى جانب مسؤوليّتها في الاغتيالات والتّسفير إلى بؤر التوتّر… لكن نقطة ضعف هذه المقاربة (المساندة المشروطة) هي في مراهنتها على الشعبويّة اليمينيّة لتجاوز منظومة النهضة، فالرئيس قيس سعيد لا يعبّر عن مشروع اقتصادي واجتماعي بديل مختلف ولا يمكنه شقّ طريق أخرى “تتصادم” مع إملاءات صندوق النقد الدولي المسبّبة رئيسيّا للخراب الذي تردّت فيه البلاد.
بعض الكتل الأكثر يمينيّة داخل مكونات هذا المعسكر تتقاطع على نطاق واسع مع المعسكر الأوّل ويمكن في حال نجاح قيس سعيد وتمكّنه من إزاحة حركة النهضة نهائيا من مشهد الحكم وتحقيقه لبعض المطالب (خاصة كشف حقيقة الاغتيالات) أن يلتحق هذا المعسكر بالمعسكر الأول ليشكّل معه جبهة مساندة لمشروع الرئيس.
• هناك مجموعات أخرى غير منتظمة في أحزاب (أفراد وشخصيات…) شكّلت في وقت سابق جزء من أنصار الجبهة الشعبية أو قريبة منها، وهي مجموعات غير فاعلة وليست منخرطة في الحركات النضالية وليس لها حضور ميداني كبير، تبرز أساسا في الفضاء الافتراضي، تراهن بدورها على إجراءات الرئيس وتعتبرها أداة الخلاص من النهضة وتعلّق أوهاما كبيرة على الرّجل للقضاء على الفساد وبناء تونس الجديدة وفرض السّيادة الوطنية وتحقيق مطالب الشغل والعيش الكريم. هذه المجموعات يمكن أن تشكّل بدورها في وقت لاحق جزءً من الجبهة المساندة للرئيس.
المعسكر الرافض للانقلاب
يتشكّل هذا المعسكر من حزب العمال وحزب القطب والحزب الاشتراكي وبعض المجموعات الشبابيّة. والمشترك بينها هو اعتبار أنّ ما حصل يوم 25 جويلية وما تلاه انقلاب على الدستور وعلى الديمقراطية، ولا تعتقد في قدرة الرئيس على “اجتثاث” حركة النهضة من الحكم وتقديم بديل اقتصادي واجتماعي قادر على معالجة الأزمة معالجة جذرية.
هذا المعسكر يحترز بشدّة على احتكار الرئيس لكلّ الصّلاحيات وانفراده بالسلطة بلا حسيب ولا رقيب خاصة بعد الإعلان على التّدابير الانتقالية يوم 22 سبتمبر الماضي، وله أيضا مخاوف جدّية حول التراجع عن مكسب الحقوق والحريات، إضافة إلى التكليفات الحكوميّة وحقيقة الصلاحيات التي يتمتعون بها والتي لا تسمح لهم بالاجتهاد واتّخاذ ما يلزم من القرارات والإجراءات لمعالجة مجمل الملفّات معالجة جدية. وقد جاء التصنيف الجديد لوكالة “موديز” وتفاعل الرّئيس وحكومته معه ليعطي مزيد المشروعيّة والوجاهة لموقف هذا المعسكر.
هذا المعسكر مطالب بمزيد التأثير والانتشار وفرض وجهة نظره التي تبدو أكثر راديكاليّة وتماهيا مع جوهر الخطّ اليساري المناضل ومطروح عليها القيام بأعمال وأنشطة ميدانية مشتركة حول ملفات يقع الاتفاق بشأنها ويمكن أن تستقطب أطرافا ومجموعات أخرى. وهذا مهم في هذه المرحلة من الصراع السياسي في تونس التي من المرجّح أن تكون لها مستقبلا تداعيات على المشهد السّياسي والحزبي في البلاد.
القوى اليساريّة مقبلة على إعادة هيكلة جديدة
إنّ الصراعات الجارية حاليا ستكون لها تداعيات مستقبليّة على المشهد السياسي عموما واليساري تحديدا. وممّا لا شك فيه أنّ المجموعات والأحزاب المصطفّة، بقطع النظر عن نجاح مشروع قيس سعيد أو فشله، ستفقد هويّتها اليساريّة وتخسر طاقاتها الراديكاليّة الأكثر إيمانا بمقولات اليسار التقليدية (القطيعة السياسية والفكرية والتنظيمية مع البورجوازية – الصّراع الطبقي كمحرّك للتاريخ نقيض الوفاق الطبقي – إسقاط النظام الرأسمالي بدل إصلاحه…) وستعود إلى وضع ما قبل التنظيم الحزبي، أي مجموعات بورجوازية صغيرة مفكّكة تنظيميا، منكفئة على ذاتها ومنفصلة عن واقع الشّعب وقضايا الكادحين وتعيش على هامش الصراع الاجتماعي.
هذه الصّراعات ستفرز من جهة أخرى يسارا ثوريّا مرتبطا بقضايا الشعب والبلاد وأكثر قدرة على التأثير في الواقع وصناعة الرأي العام لصالح المشروع الوطني الديمقراطي الشعبي البديل بأفقه الاشتراكي الذي سيجمع حوله أوسع الفئات الشعبيّة والفعاليّات النسائية والشبابيّة التي لم تعد تحمل أوهاما حول المشاريع الليبرالية والشعبويّة والإصلاحية وكذلك النُّخب المثقّفة والمبدعة.
ويُطرح على حزب العمال تحمّل مسؤوليّاته في هذه المرحلة المهمّة من المسار الثوري لإعادة الاعتبار لمقولات وشعارات اليسار الثوري وبرنامج الثورة الحقيقي الذي يمثل جوابا فعليًّا على أزمة المنظومة بكل أطرافها الليبراليّة والأصولية والشعبويّة داخل الحكم وخارجه. ويشكّل أيضا استقطابا مستقلّا عن مختلف الأطراف ورأس حربة قوى التغيير الجذري. وهذا ليس بالمستحيل على حزبٍ راكم من التجربة والخبرة ما يؤهّله للعب هذا الدّور.