علي البعزاوي
مثّل الانقلاب الذي نفذه الرئيس قيس سعيد يوم 25 جويلية دخول تونس مرحلة جديدة فرضت على كل القوى السياسية والمدنية اتخاذ مواقف إزاء ما جرى والتّموقع إلى جانب الانقلاب أو ضده.
وفي هذا السياق تندرج مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب” التي تُنفّذ إضراب جوعٍ احتجاجيّ وتُعِدّ لتحرّك يوم 14 جانفي القادم.
الكثير من المتابعين اعتبروا هذه المبادرة شبيهة بإضراب جوع 18 أكتوبر 2005، رغم أنّها تأتي في سياقات مختلفة. فإلى أيّ مدى يمكن التسليم بهذا الأمر وماهي أوجه الشبه بين التجربتين؟
تجربة 18 أكتوبر راكمت للتّغيير
لقد جمعت جبهة 18 أكتوبر أطرافا سياسيّة متعدّدة الأيديولوجيات والمشارب السياسية منها القومي والليبرالي والماركسي والإخواني والاشتراكي الديمقراطي والمستقلّ. كما أن أغلب مكوّناتها تمثل أحزابا سياسيّة معارضة بهذه الدّرجة أو تلك لنظام بن علي. ولم تشارك في الحكم وقد توحّدت حول حدٍّ أدنى حقوقي وحرّياتي (حرية التنظّم- حرية الاعلام- العفو التشريعي العام).
هذه التجربة خلقت حولها استقطابا مدنيًّا وسياسيًّا وشعبيا هامًّا ولفتت الأنظار إلى حقيقة ما كان يجري في تونس من قمعٍ وتكميمٍ للأفواه وانتهاك للحرّيات السياسية والمدنية، ومثّلت كذلك منعرجا مهمّا في تاريخ البلاد بعودة الرّوح إلى النشاط الحزبي والجمعيّاتي الذي مهّد لتحرّكات احتجاجيّة أخرى محلية وجهويّة (احتجاجات الصّخيرة وبن قردان، أحداث الحوض المنجميّ) وحقوقية (نضال الرابطة ضدّ محاولات الإخضاع بفتح الانخراطات لأتباع الحزب الحاكم وميليشياته).
كلّ هذه الاحتجاجات راكمت ومهّدت بدورها لثورة 17 ديسمبر 14 جانفي التي أسقطت الدّكتاتورية النوفمبرية وفتحت الطريق أمام مسارٍ ثوري مازال متواصلا إلى اليوم رغم الانتكاسات والخيبات المتتالية.
“مواطنون ضدّ الانقلاب” صناعة نهضاوية
إنّ الخاصية الأساسيّة لمبادرة مواطنون ضدّ الانقلاب هي كونها تتشكّل فقط من الأطراف والشّخصيات التي تنتمي لمعسكر الحُكْم المُطاح به من طرف قيس سعيد والمساندين له وتفتقد، خلافا لجبهة 18 أكتوبر، للتنوع الفكري والسّياسي داخلها (ممثلون عن النهضة وممثلون عن قلب تونس وائتلاف الكرامة وشخصيات تدور في فلك هذه المنظومة) وهي بالتالي مكوّن أساسي من مكونات منظومة الحكم التي مازالت لها امتدادات وحضور في مؤسّسات الدولة المختلفة رغم تجميد نشاط البرلمان وحلّ حكومة المشيشي.
مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب” هي مجرد واجهة لمقاومة قيس سعيد وتدابيره الاستثنائية تشكلت بتخطيط وتصميم من حركة النهضة كإحدى الواجهات التي تبدو في الظّاهر مدنية أكثر منها حزبية لاستقطاب أطراف أخرى مدنية وسياسية وشعبية وخلق ديناميك مقاوم لمحاصرة الانقلاب وعودة “الشرعية”.
المبادرة لا علاقة لها بالجبهات السّياسية ولا تمثّل تجربة سياسية جديدة يمكن أن تتطور إلى تنظيم سياسي واسع مثلما يدّعي بعض الناطقين باسمها. وهي تستمدّ ديناميكيّتها أوّلًا من التّعبئة الإعلامية والسّياسية التي تؤثثها حركة النهضة وثانيا من طموح بعض الشخصيات داخل المبادرة التي تعمل على افتكاك مواقع في السلطة إن كُتِب لها النجاح والعودة إلى الحكم.
مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب” هي واجهة وتعبيرة لأحد أوجه الثورة المضادّة ضدّ طرف آخر من أطراف الثورة المضادّة التي يمثّلها قيس سعيد عبر انقلابه لإنقاذ منظومة الحكم. الصّراع يتواصل عبر هذه الواجهة (“مبادرة مواطنون ضد الانقلاب”) بين طرفين رجعيّين ومداره هو الهيمنة على السّلطة وليس نضالا من أجل الديمقراطية ضدّ الدكتاتورية مثلما يدّعي ممثّلو المبادرة في مجمل تدخّلاتهم في محاولة لاستغلال الوجه الشّعبوي الاستبدادي للانقلاب.
لقد أساءت منظومة النهضة للديمقراطية (في شكلها الليبرالي) بتعفينها وتسخيرها لخدمة مصالحها الضّيقة وخدمة الأجندات الإقليميّة والاستعمارية الجديدة على حساب مصالح الشعب وسيادة البلاد. وقامت بانتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الاحتجاج والتعبير… والادّعاء بالدفاع عن الديمقراطية ضدّ الدكتاتورية لا يستقيم لأنّ المدار الحقيقي لهذا الصراع هو السّلطة من أجل خدمة الكمبرادور وخدمة المصالح الاستعماريّة الجديدة في تونس.
الطّريق المستقلّ هو الحل
إنّ القوى الديمقراطية والتقدمية مدعوّة إلى رصّ الصفوف والنضال باستقلاليّةٍ تامّة عن كل الأطراف الرجعيّة داخل الحكم وخارجه والمراكمة من أجل تغيير موازين القوى وتشكيل قطبٍ وطني ديمقراطي شعبيّ اجتماعي قادر على إنقاذ البلاد من أزمتها العميقة والشّاملة.
المطروح اليوم بقطع النّظر عن الموقف من الإجراءات التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيد، سواء أكانت انقلابا أم “عملا تصحيحيا”، هو التّقاطع حول جملة من الأهداف المباشرة والتي تتمثل أساسا في عدم العودة إلى ما قبل 14 جانفي ولا إلى ما قبل 25 جويلية. أي النضال المشترك من أجل إسقاط الاستبداد الشعبوي الزاحف لما يمثّله من مخاطر حقيقية على المسار الثوري وعلى بعض المكاسب التي تحقّقت خاصة في مستوى منجز الحقوق والحريات والهيئات الدستورية المستقلّة التي يجري اليوم تهميشها وخنقها، وسدِّ الباب أمام عودة منظومة النهضة والنظام القديم ممثّلا في الدستوري الحرّ والمتحالفين معه.
على القوى الديمقراطية والتقدمية التركيز على المخاطر التي تأتي اليوم من قانون المالية التقشّفي الذي أمضى عليه الرّئيس قيس سعيد وما ستكون له من تداعياتٍ على الحقّ في الشّغل والقدرة الشّرائية ونوعيّة الخدمات الأساسية من صحّةٍ وتعليمٍ وبيئةٍ وغيرها، والتّركيز أيضا على ما يجري من تضييقٍ على الحريات وتهميش للأحزاب والمنظمات (باستثناء الأعراف) والإعلام وانفرادٍ مطلق بالسلطة في غياب أيّ شكل من أشكال السلطة المضادة. كما يجب النّضال ضدّ محاولات عودة النهضة التي تسعى إلى قيادة المعارضة ضدّ الانقلاب.
إنّ غياب القوى اليسارية والتقدّمية وملازمة الانتظاريّة من شأنه فتح الطريق أمام عودة منظومة النهضة أو هيمنة المشروع الشّعبوي بمضيّه قُدُمًا في تثبيت دكتاتوريّة غاشمة ستأتي على الأخضر واليابس.