الرئيسية / صوت الوطن / الثّورة التونسيّة وتواصل الانحراف بالمسارات
الثّورة التونسيّة وتواصل الانحراف بالمسارات

الثّورة التونسيّة وتواصل الانحراف بالمسارات

عبدالحميد الطبّابي

جميع الصّراعات السياسيّة الكونيّة تتمحور حول أيّ مجتمع نريد وأيّ الوسائل الاقتصاديّة والسياسيّة والثّقافية نعتمدها لتحقيق ذلك. فكلّ الصدامات والتّناحرات، كذلك التفاهمات والتحالفات، يتحكّم بها هذا المبدأ الأساسي من خلال علاقة التّقارب أو الاختلاف السياسي والأيديولوجي. سواء كان ذلك، داخل المجتمع الواحد أوبما تتميّز به علاقة التّرابطوالتّنافر بين المجتمعات الدّوليّة بأسرها.
وبما أنّنا في تونس لا نشذّ عن هذه القاعدة، فالانتقال من نظام الاستعمار المباشر، إلى نظام حكم الفرد واعتماد النّهج الاقتصادي الليبرالي المولّى عليه من طرف الاحتكارات العالمية، الخاضع للتقسيم العالمي للعمل ونظام السّوق وشروطه. أدّى إلى اعتماد سياسات قهريّة لإخضاع الشّعب التونسي لهذه الخيارات المجحفة وغير العادلة، على امتداد عهدين، بما يقارب ستّين سنة من الحكم الاستبدادي.
قامت الثّورة، وحدث تأسيس جديد، باعتماد دستور بمضامين ديمقراطيّة ليبراليّة وشكل حكم مغاير (غير متوازن في توزيع السّلط). إلاّ أنّ النّتائج كانت محبطة ومخيّبة لانتظارات الشّعب التونسي. لأنّ الأطراف التي استولت على الحكم، بكلّ ما أتيح لها من أساليب الخداع وتطويع أذهان النّاخبين بكافة الوسائل بما فيها القذرة واعتماد الوعود الزّائفة، انحرفت بمسار الثّورة إلى غير أهدافها الحقيقيّة التي قامت من أجلها..
تحالفت القوى المعادية الخارجيّة مع أعوانها في الدّاخل لخنق الثورة وجعل نتائجها، كما تداعياتها مرارا يتجرّعه الشّعب التونسي، وهذا بقصد التّشكيك في دور الثورات الشعبيّة وترذيلها عند المجتمعات الأخرى التي يمكن أن تخامرها فكرة التخلّص من أنظمتها الاستبداديّة. وحتّى يستمرّ الحال على ما هو عليه، الذي لا تستفيد منه سوى الاحتكارات العالميّة وأنظمة الرّيع المحليّة.
الشّعب التونسي نفسه، ضجّ من نتائج الثّورة وتلاشى تفاؤله، حتّى أنّ الكثيرين، بمن في ذلك بعض المحسوبين على شريحة المثقّفين، اعتراهم ندم <<سنّمار>> وتملّكتهم حسرة <<الكسعي>>وصاروا يحنّون إلى أيّام العهد البائد. كما استغلّ أولائك المرتبطون بالولاء إلى الأنظمة السّاقطة بفعل الثّورة، التخريب الحاصل في المجتمع والتعفّن السياسي واستشراء الفساد وتعميمه، ليطعنوا علنا في فعل الثّورة وترذيل من ساهموا في تحقيقها. فأعادوا تنظيم صفوفهم، ليبرزوا كقوّة سياسيّة بعمق اجتماعي وازن. استطاعوا في فترة ما، التقدّم وتبوّأ كرسي السّلطة، بنيل أوفر أصوات النّاخبين التونسيين. كمالهم حظوظ الفوز بالسّلطة في المرحلة القادمة.
على امتداد سنوات ما بعد قيام الثورة، ودفاعا عن ثورته، تحرّك الشّعب التونسي محتجّا بأشكال متعدّدة، بلغت حدّ الصّدام مع البوليس وميليشيات الأحزاب الحاكمة، في عدّة محطّات نضاليّة، أجبرت السّلطة في بعض المناسبات، على التراجع عن سياساتها وقراراتها اللاشعبيّة.. بلغت هذه التحرّكات أوجها حينما تمّ إسقاط حكومة الترويكا، تلك التي قدّرها الشّعب معادية بممارساتها وتوجّهاتها، لمصالحه الحيويّة.. مع ذلك، ظلّت هذه الأطراف قادرة على المناورة للاستمرار في السّلطة، بالاعتماد خصوصا، على تحالفاتها مع أطراف سياسيّة طفيليّة انتهازيّة. انبثقت بعد الثّورة كالفطر السّام من رحم وسط سياسي متعفّن.
بلغت الأزمة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة ذروتها، خلال سنة 2021. فكانت احتجاجات جانفي الصّداميّة، وما أعقبها خلال 25 جويلية، تتويجا لها ونذيرا لما سيحصل بعدها من مواجهات قد تبلغ أوج العنف الجماهيري والرّد القمعي العنيف من قبل السّلطة التي لم تتورّع عن استخدامه بقوّة، خلال صدامات شهر جانفي وفي مناسبات سابقة. ونظرا لحالة البؤس واليأس وتعاظم مشاعر الغضب التي ضجّ بها ضمير الشّعب التونسي، كان من المحتمل جدّا، أن تعصف تحرّكاته بالسّلطة القائمة، خلال الأشهر اللاحقة. إلاّ أنّ قيس سعيّد الذي كان يتصيّد الفرصة السانحة لتحقيق مشروعه السياسي، وجد في تلك التحرّكات الفرصة السّانحةللشّروع في تنفيذه وإقصاء خصومه السياسيين – الذين مثّلوا القوّة الوازنة التي أوصلته إلى كرسيّ الحكم-.. لن نعود إلى محتوى قرارات 25 جويلية ولا 22 سبتمبر، التي بموجبها استحوذ قيس سعيّد على كافّة السّلطات، وصار يسيّر الدّولة بمراسيم وأوامر، تليق بحكم البايات، وليس بالنظام الجمهوري الدّيمقراطي. ولا بتسيير شعب ناضل طويلا ودفع كثيرا من دمه وكدّه وتحمّل الاستبداد والتّنكيل والقهر والبؤس، لينجز ثورة عدّها مخلّصة له من كلّ نوائبه وظنّها ستفتح له عهدا من الحريّة والرّخاء وفرحة لحياة. فخاب أمله. وفي المناسبتين اللتين هيّأ فيهما الظروف لكسر طوق حصاره والقفز نحو أفقالخلاص، يتمّ التآمر عليه وتسرق منه مبادرته.
من خلال ما أقدم عليه قيس، استبق مرحلة من المواجهة الحامية كان يعدّها الشّعب التونسي للخلاص النهائي من الذين سرقوا منه ثورته وخانوا الوعد وانحرفوا بها نحو التخريب المتعمّد. لقد أنقذهم قيس حينما أزاحهم من السّلطة، ليتحوّلوا من منظومة فاشلة فاسدة صارت منبوذة من الشّعب، إلى ضحايا انقلاب دستوري، تتعاطف معهم كثير من الأنظمة العالمية وشقّ من الشّعب التونسي، وبعض النّخب السياسيّة.. لقد استعادت هذه المنظومة أنفاسها، بسبب القرارات الجزافية الارتجالية اللادستوريّة التي أقدم عليها قيس سعيد.
وهنا لابدّ من التّذكير، أنّ الشّعوب لا ترتقي ولا تتقدّم بوعيها الجمعي بمفاهيمه المتعدّدة (القيميّة، السياسيّة، الفكريّة، الأخلاقيّة إلخ..)، من خلال القرارات المسقطة والتّعتيم حول المقاصد والنّوايا، وبأساليب الاستحواذ والإيهام بالمشاركة حول التصوّرات والمشاريع السياسيّة (الاستشارة الوطنيّة الصّوريّة) والمغالطة الدّعائيّة. إنّما تنمو قدراتها الذهنيّة وكفاءاتها العقليّة وقدراتها على الفهم والتّفريق بين الطّروحات والأفكار والمشاريع وتبايناتها، كما الفرز بين المكوّنات السياسيّة والحزبيّة والأيديولوجيّة. بفعل الصّراع والمساهمة في الجدل والتّشريك في الحوارات وفتح المنابر وتوسيع دائرة النّقاش العام وتوفير الفرصة للعموم لأخذ القرار الحرّ باعتماد الطّرق الديمقراطيّة وعدم الإقصاء واعتماد الزّيف الموهم بالرّجوع إلى رأي الشّعب.
ما أقدم عليه قيس فيه مجازفة خطيرة، سيفتح المستقبل البلاد على خيارين: إمّا العودة إلى حكم الاستبداد الفردي أو استمرار مغالطة الشّعب التونسي، بعودة الأطراف التي تمّ إقصاؤها من الحكم بقرارت (25 جويلية- 22 سبتمبر). أو صعود أخرى لا تختلف في مشاريعها عمّا ساد قبل وبعد الثّورة، بعد أن يثبت فشل المشروع الحالي الذي هو بحكم الحتمي تقريبا، فيتمّ التّراجع عنه بكافّة مضامينه وإجراءاته وتفاصيله.
من خلال القراءة لمسار السياسات والإجراءات والقرارات التي يقدم عليها قيس سعيّد، التي ستؤدّي من شبه المؤكّد إلى إخفاقه، أنّها لا تتضمّن سوى تصوّرات لتركيز مشروعه السياسي الشعبوي، وتتخطّى كلّ ما هو مراجعة للخيارات الاقتصاديّة والنّمط التنموي اللذين أعاقا تاريخيّا نموّ البلاد والنّهوض بالمجتمع التّونسي.. فاعتماد سياسات مزيد إغراق البلاد في الدّيون الخارجيّة (حجمها زاد عن 100% من قيمة النّاتج الدّاخلي الخام في نهاية عام 2021) والخضوع لشطط شروط الجهات المانحة للقروض، التي بتنفيذها ستتسبّب في الإضرار البالغبالمجتمع التونسي، وإثقال ميزانيّة المواطنين بالضّرائب المجحفة، والتهاب الأسعار الذي بلغ حّدّا لا يطاق من ارتفاع تكاليف الحياة، وكذلك سدّ باب التّشغيل، ممّا سيعمّق شعور اليأس في نفوس الشّباب.هذه الاعتبارات مجمّعة تنبئأنّ احتمال استمرار سلطة قيس سعيّد حتّى نهاية ولايته الرّئاسيّة الحاليّة صار توقّعا مستبعدا. خاصّة وقد خاب رجاؤه من دعمه بالأموال التي حسبها ستتدفّق عليه، بعد إزاحة الإخوان من الحكم (مثلماصرّح هو بذلك في عديد المناسبات)، من مصادر خارجيّة، كبعض دول الخليج، بالخصوص منهاالسّعوديّة والإمارات، اللتّين وقعتا تحت ضغوط أمريكيّة، بعدم دعم قيس سعيّد بالمال. ستكون من باب الاحتمالات غير الرّاجحة.
من خلال ميزانية عام 2022، يراهن قيس على الحصول على مبلغ هام من القروض الخارجية، التي سيموّل بها هذه الميزانيّة، وبخاصة تلك التي يظنّ،أنّه سيحصل عليها من صندوق النّقد الدّولي، علاوة على ما سيفتحه له من موارد تمويل من طرف هيئات ماليّة عالميّة أخرى. إلاّ أنّ هذا الرّجاء يظلّ رهين شروط صعبة التّحقيق تفرضها عليه هذه المؤسسة الماليّة. إذ لا نعتقد أنّ الطّرف الاجتماعي الذي يشترط الصّندوق موافقته وتحقيق تفاهمات معه، قبل التمتّع بالقرض، سيقبل بتطبيق هذه الشّروط وما تتضمّنه من حيف اجتماعي قاهر. فيرضى بعدم الزّيادة في الأجور، مع رفع الدّعم عن المواد الأساسيّة، التقليص من أجور الوظيفة العموميّة، إيقاف التّشغيل، التفويت في المؤسسات العموميّة إلخ.. ففي حالة عدم قبوله بهذه الشّروط المجحفة في حقّ الشّعب، سيجعل صندوق النّقد الدّولي يرفض إقراض حكومة قيس سعيّد، لأنّها لن تستطيع تحقيق السّلم الاجتماعيّة المطلوبة لتنفيذ ما يعدّها هو <<إصلاحات>> يلزم تنفيذها.. وحتى إن افترضنا جدلا، التوصّل إلى تفاهمات مع الطّرف الاجتماعي وهو احتمال ضعيف، فإنّ صعوبة العيش التي صار يعاني منها الشّعب التونسي بقسوة، إلى جانب خلوّ الميزانيّة من كلّ تخطيط للاستثمار العمومي، والعناية بالمرفق العام، كالصحّة والتعليم والنّقل والبنية التحتيّة، مع ارتفاع نسبة التضخّم التي تبلغ 6,2%، لينجرّ عنها تدهور كبير في القدرة الشرائيّة، مع عدم الزّيادة في الأجور وتفاقم نسبة البطالة. كلّها عوامل اجتماعيّة تتظافر مع الزيادة في قيمة الضريبة المباشرة وغير المباشرة وارتفاع تكاليف الخدمات، سيجعل الشّعب التونسي رافضا بشدّة، لتحمّل هذه الأعباء القاسية. ممّا سيدفعه إلى الانتفاضة ضدّ سلطة قيس سعيّد.فشعب أنجز ثورة يترجّى الرّخاء وليس مزيد التّقتير في كسب العيش وتحمّل أعباء يدرك جيّدا أنّها نتيجة تفشّي الفساد ونخر اقتصاد البلاد ونهب ثرواتها، ليحرم هو من ثمرات جهده وكدّه، الذي لا يجني منهما سواء العناء والشّقاء!..
يدرج قيس سعيّد ضمن قانون ميزانيته لسنة 2022، دعم النهوض بالاقتصاد الاجتماعي التضامني الذي صدر بالقانون 30/2020، بتاريخ 17 جوان 2020. وهو التوجّه الذي أملته أوروبا على البلاد التونسيّة وتراهن عليه للرّبط ما بين الدّرجات الجهويّة والوطنيّة والدوليّة، في ادّعاء بجعل تونس محورا للاقتصاد الاجتماعي التضامني، في إطار سياسة الشراكة بين البلاد التونسيّة وأوروبا. وفي رؤية لتحقيق التّوازن بين النّمو الاقتصادي والمساواة الاجتماعيّة مع <<التعايش العادل>> بين القطاعين العام والخاصّ، لبلوغ الإدماج الاقتصادي والاجتماعي للشّرائح المحرومة والهشّة. إلاّ أنّ محتوى قانون الميزانيّة مخالف لتحقيق هذه الغاية، إذ لا نعثر في فصوله اعتمادا مخصّصا لهذا الغرض. وهذا لأنّ موارد الميزانيّة شحيحة، حتى تتوصّل الدّولة إلى توفير مساهمتها في بعث مشاريع الشّراكة. فلا يتبقّى إذا، سوى احتمال واحد، هو فتح رأسمال المؤسسات العموميّة للمساهمة الخاصّة أو لتملّك جزء من أنشطتها، وهكذا يتمّ التفريط في مكسب القطاع العمومي، ليستحوذ عليه الرّأسمال الخاصّ الدّاخلي والخارجي، وبذلك يحرم الشّعب التونسي من مكاسبه التّاريخيّة، ويصبح رهينة لجشع المتكسّبين وسماسرة رأس المال. علما وأنّ الخواص لن يراهنوا إلاّ على المؤسسات الرّابحة لينتفعوا بثمراتها.
أيضا، ومن خلال مشروع الميزانيّة لسنة 2022، الذي نشرته وزارة الماليّة، تغيب فيه المؤشرات التقديريّة المعهودة في الميزانيات السّابقة العاديّة. فليس هناك دقّة في تحديد مبلغ الميزانيّة ولا نسبة النّمو المزمع تحقيقها، مع غياب توزيع المصاريف والمقابيض، ولا توقّعات لسعر لبرميل النّفط (قد يزيد عن مائة دولار خلال شهر نوفمبر 2022). ولا عدد مواطن الشّغل المتوقّع إحداثها (لا مواطن شغل في القطاع العام). أيضا، لا تحديد لعجز الميزانيّة ولا لنسبة التّداين.
علما وأنّ قانون الميزانيّة هذا، يتوقّع اتّخاذ إجراءات لفائدة المؤسسات المتأثّرة بجائحة كورونا مع القيام بالإصلاح الجبائي،رقمنة الإدارة، تحسين التغطية الضّريبيّة، مقاومة التهرّب الضريبي وإجراءات أخرى ذات طابع اجتماعي صحّي. من دون أن يقدّر التكاليف المرصودة لها ولا تحديد مواردها. ولا يغيب عن أحد، أنّ جلّ الحكومات السابقة رفعت شعار مقاومة التهرّب الضريبي، لتعلنه في خطابات تنصيبها أو تضمّنه في قوانين ميزانياتها، من دون إنجاز يذكر. لأنّه مثلما يقول المثل الشّعبي:<<ذراع العزري أقوى من سيدو>> وأحزاب السّلطة تتمعّش من نشاط اللوبيات..ولئن كانت نسبة 84% من الضّرائب المدفوعة للدّولة تقتطع من أجور العاملين. فإمعانا في تخفيف العبء الجبائي عن الرّأسمال الخاص، وتحت عنوان <<الإجراءات العامّة لفائدة المؤسسات>>، وبالفقرة الرّابعة منه، يذكر قانون الميزانية:<<أنّه في إطار دعم القدرة الشرائيّة للمستهلكين، يتمّ إعفاء من الضّريبة على القيمة المضافة، العمليات المرتبطة بالتخزين للمنتوجات الفلاحيّة والبحريّة المبرّدة>>. وهو أمر يدعو للاستغراب، إذا علمنا أنّ سبب الشّطط في أسعار المستهلكات في البلاد التونسيّة هم الوسطاء والسّماسرة وأهمّهم أصحاب ثلاّجات التخزين، الذين يشتغلون كالمنشار، (طالع ياكل، نازل ياكل). يفرضون السّعر المتدنّي على المنتج وسعر البيع المرتفع على البائع بالتفصيل، الذي يتحمّله المستهلك في نهاية الأمر. وسيظلّون على طبعهم هذا، حتّى وإن خفّفت عنهم حكومة قيس سعيّد مقدار الضريبة، فلن يوفّروه سوى للترفيع في حجم أرباحهم، ولن ينتفع منه المستهلك بشيء، لأنّهم المحتكرون المتحكّمون بالسّوق وقادرون على التلاعب بالأسعار والفاتورات والمغالطة عند التصريح بهامش الرّبح.. وليس هذا فقط، ففي الفقرة الخامسة، تحت نفس العنوان السّابق، تتّخذ الحكومة إجراء بإعفاء بائعي المنتوجات الفلاحيّة بسوق الجملة، من ضريبة القيمة المضافة أيضا. وإنّه لعمري إجراء ثوري لتقليص الأعباء عن ميزانية المواطن، الذي يدفع ما قيمته 30% وأزيد من أجره، كضريبة للدّولة، لتعفي هي المحتكرين والسماسرة من نسبة هامّة من الأداء الضريبي. فمن المؤكّد أنّنا لن نلمس تداعيات إيجابية على الأسعار، نتيجة هذه القرارات الاعتباطيّة. لأنّ ضبطها يلزمه حزم من الدّولة ومراقبة فاعلة. وليس بتقديم المزايا الضريبيّة للمضاربين والمحتكرين، مع تطهير جهاز المراقبة من الفاسدين والمرتشين.
تحت عنوان ترتيبات ضريبيّة جديدة والتهرّب الجبائي، يقرّ قانون الميزانية 2022، التّرفيع من 3% إلى 6%، من الضريبة الموظّفة على خدمات عقود تحويل الملكيّة، التبرّعات والميراث. وهو ما يؤشّر على الزيادة في التكلفة التي يتحمّلها المواطنون، خاصّة الذين يرومون اقتناء مساكن أو سيّارات وغيرها، من عند الأفراد الخواصّ، بزيادة 100%، في نسبة الأداء الضّريبي. في المقابل يعفي هذا القانون العمليات التجاريّة للموزّعين المعتمدين لدى مقدّمي خدمات الاتّصال، من الأداء على القيمة المضافة. من دون أن يقرّ بالمقابل تخفيضا في القيمة للمستهلكين المنتفعين بهذه الخدمة. كما يوظّف زيادة على سعر المشروبات الكحوليّة (تعدّ الأغلى في العالم)، وهو التّرفيع السّابع منذ 2011. متناسيا المبدأ القائل :<< كثير من الضّرائب يقضي على الضّريبة>>..
إنّ النّقص المحسوس في وسط الأعمال بالبلاد التونسيّة وإحجام المستثمرين التونسيين والأجانب وكذلك هجرة رؤوس الأموال والشركات الأجنبيّة التي كانت مستوطنة بتونس. علاوة على الأزمة الحادّة التي تنيخ بكلكلها على المؤسسات والتوتّرات الاجتماعيّة التي تعمّ أنحاء البلاد. مع عدم حصول اتّفاق إلى حدّ الآن، مع صندوق النّقد الدّولي، ومايعاضده من ارتفاع لخدمات الدّين الذي بلع حدّ 20,4% من حجم أصول الدّين، منذ بداية 2021،ليؤثّر سلبا علىخلق المعادلة في ميزانيّة 2021، وعلى توفير الاعتمادات لميزانيّة 2022. هذا بالإضافة إلى نسبة النّمو المتدنية، التي لم تتجاوز نسبة 1,1%، خلال سنة 2021. وبلوغ حجم الأجور لموظّفي الدّولة (يحتسب فيها كافّة الامتيازات التي يتمتّع بها كبار الموظّفين والمسؤولين الإداريين وأجور النّواب والقضاة والوزراء والسّفراء والرّئاسة إلخ..).مضاف إليها تسديد فوائض خدمات الدّين، لتبلغ ما يساوي 65% من الميزانيّة. مع الزيادة السنويّة التي تقدّر بعشرة بالمائة في نفقات الدّولة. تنبئ جميعها بأنّ سنة 2022، ستكون صعبة جدّا على الاقتصاد التونسي وبالتّالي على المجتمع الذي سيعاني من تداعياته السلبيّة..
بلغت قيمة تسديد الدّين مع الفوائض لسنة 2021، ما قدره 15,5 مليار دينار سنة 2021، لم يتأكّد تسديدها، وهو ما يقارب ثلث ميزانيّة الدّولة (كان المبلغ 11,5 مليار سنة 2020 و9,6 سنة 2019. ليبيّن هذا، حجم امتصاص الدّين للجهد الوطني وانهاك كاهل المجتمع التّونس وجعل البلاد مكبّلة بأوزاره، فلن تستطيع تحقيق نهوضها مطلقا). هذا وقد بلغت نسبة التضخّم في شهر سبتمبر 2021، نسبة 6,2%. وهي عوامل متجمّعةمتظافرة مع تمّ إيراده أعلاه، لإحداث الشّللالاقتصاديولتعكس مدى فشل النّمط والاختيارات التي انتهجتها كافة الحكومات المتعاقبة، في إدارة شؤون البلاد. والذي تصرّ حكومة قيس سعيّد على مواصلة نهجه، وكأنّ البلاد ليس لها حلول أخرى تخفّف عنها الأزمة وتعتمدها للتدرّج نحو الخروج منها. ولعلّ من جملة عواقب هذه الأزمة الشاملة، وبالخصوص فيما يتعلّق التّجديد وتنمية المعرفة، تشهد البلاد فجوة رقميّة واسعة وتأخّر تكنولوجي معيق. إذ أنّ أهمّ حوافز المعرفة والاستثمار تنمو ببطء شديد، حتّى أنّ المشاريع المبرمجة لتحقيق التّجديد والتّحويل التكنولوجي وإحداث المعاملات الرّقميّة (ما يقدّر بثلاثمئة مشروع)، أخفقت الدّولة في تحقيقها. لتجعل البلاد تعاني من تعاني من عُطْل رقمي تكنولوجي ما ينفكّ يتّسع خرقه بينها وبين ركب الدّول الأخرى!..
يعتقد سعيّد أنّه فقط بإزاحة منظومة سياسيّة مغضوب عليها شعبيا، سيكسب ودّ هذا الشّعب حتى وإن ظلّ يعاني شظف العيش. وسيحقّق مشروعه السياسي وهو قرير العين، من خلال إطلاق الشّعارات والتّهديدات والإقدام على تنفيذ بعض الإجراءات العرجاء. في حين أنّ الشّعب التونسي ضجّ من حكّام ما بعد الثورة، لأنّهم غدروا به وغالطوه بصلفهم الدّعائي ووعودهم الزّائفة وأحبطوا آماله في تحقيق فرحة الحياة.. كان يأمل الرّفاه، فنكثوا وعدهم له ونكسوا تطلّعاته، ليقتّروا عليه العيش ويضيّقوا عليه حزام الفقر. بالمقابل استغرقوا هم في نهب ثروات الوطن ومتمادون في مناوراتهم ومناكفاتهم السياسيّة. اعتمادهم الفسادوالخداع كوسيلة للتحكّم بالدّولة والمجتمع..
بالتّالي، فالتّونسيون يتنظرون من كلّ منقذ قادم تخليصهم من الغوص أكثر، في مستنقع البؤس وتحريرهم من التّسلّط على إرادتهم ونبذ الممارسات السياسيّة المخادعة. هم يتوقون إلى تخليص البلاد من أيدي المتعفّنين في جميع مواقع القرار والسّلطة والنّفوذ والتصرّف. يريدون تنقية مجتمعهم وتمكينهم من تسييره بالخيارات الحرّة، غير المولّى عليها ولا تلك المملات على حكامها من قوى الهيمنة الخارجيّة.نابعةفقط، من الإرادة الشعبيّة الحقيقيّة،المتطهرة من سلطةالفساد وتحكّم الفاسدين.. يتوقون إلى استرجاع اقتصادهم الذي تسيطر عليه اللوبيات والكناتريّة وشريحة البلوتوقراطيّة فاحشة الثّراء وزبانيتهم في الدّولة ومواقع القرار والمرتهن إلى حكم الدّوائر الماليّة العالميّة. يصبون إلى نظام سياسي بأسس تمثيليّة نيابيّة ديمقراطيّة لا يمكن اختراقها، فيها تصحيح لاختلالات المثال الحالي (أي بما يلائم هذه المرحلة من التحوّل). تساهم في إرسائه، من خلال اعتماد النّقاش العام، جميع القوى السياسيّة التي لم يثبت فسادها، إلى جانب المكوّنات الاجتماعيّة الوازنة والهيئات والجمعيات الحقوقيّة، المدنيّة، النسوية، الشبابيّة، الثقافيّة والأكادميّة. ليس فيها إقصاء إلاّ لمن ثبت عداؤهم للشّعب وغدروا بطموحاته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×